تجسيداً للواقع المرير الذي يعيشه المواطن السوري في زمن الحرب منذ سنة 2011، يأتي فيلم "نزوح" ليسلط الضوء على فكرة رفض النزوح، واللجوء إلى بلد آخر، مع التشبث بالأرض والوطن والهوية، حتى وإن كانت دماراً، ولا توفر لأبنائها أبسط ظروف العيش الكريم.
هذا الفيلم، الذي تم عرضه لأول مرة في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي سنة 2022، يجمع بين طريقة الإخراج الدرامية والوثائقية، فهو مستوحى من الواقع السوري، من خلال شهادات حقيقية للناجين وعائلات الشهداء خلال فترة الحرب السورية.
إذ إن مخرجة الفيلم، السورية الفرنسية سؤدد كعدان، حاولت بطريقة غير مباشرة، تسليط الضوء على سياسة البلاد التي ما زال يعاني بسببها السوريون حتى الوقت الحالي، مع إبراز أملهم الكبير في التغيير، ومستقبل أفضل لأبنائهم في أرض الأجداد.
قصة فيلم "نزوح"
تدور أحداث الفيلم الدرامي الطويل "نزوح"، حول عائلة سورية، مكونة من أب وأم وطفلة عمرها 14 سنة، تم قصف منزلهم الواقع في منطقة محاصرة في دمشق.
وفي الوقت الذي يقوم فيه جميع أهالي هذه المنطقة النزوح، والهرب من المنطقة المتضررة، بعد أن أصبحت أغلب المنازل عبارة عن ركام، وغير قابلة للعيش في غياب جميع الشروط الأساسية للحياة، يقرر الأب معتز، الذي يلعب دوره الممثل السوري "سامح المصري"، أن يستمر في البقاء في منزله المدمر، واستعمال الأغطية بدلاً من الجدران، لتكون السماء أنيس ليلهم ونهارهم، في غياب سقف يغطي رؤوسهم داخل المنزل.
إذ يحدد هذا الأب مصير عائلته الصغيرة، وذلك بسبب رفضه ترك أرضه ووطنه، ليكون في المقابل لاجئاً في بلد آخر، أو منطقة أخرى لم ينتمِ إليها أبداً، بحثاً عن بناء حياة جديدة هناك.
لكن في ظل تشبث معتز بقراره، سيواجه الكثير من التحديات، أولها رغبة زوجته التي تلعب دورها كندة علوش، الرحيل رفقة ابنتها التي تؤدي دورها هالة زين، بعد توصلهم لمعلومات مفادها احتمالية دخول الجيش المنطقة.
وخلال هذه الفترة الصعبة، تدخل الطفلة الصغيرة في صدمة من الواقع الذي تعيشه، في ظل التحديات التي يواجهها الأب من أجل حماية عائلته، وفي هذه الفترة، تكون علاقة صداقة مع ابن الجيران عامر، الذي يلعب دوره "نزار العاني".
طريقة الإخراج.. بين الوثائقي والدرامي
اختارت المخرجة السورية الفرنسية سؤدد كعدان اعتماد طريقة مختلفة في تصوير فيلمها الطويل الأول، متبعة في ذلك المدرسة الفرنسية في الإخراج، التي تعتمد التركيز على الصوت الطبيعي، بعيداً عن الموسيقى التصويرية، والتقليل من الحوار، وتعويضه بشكل أكبر بالمشاهد البصرية، التي تتحدث بشكل أوضح مقارنة بالكلمات.
إذ اختارت سؤدد توظيف الإضاءة بشكل أساسي من أجل خلق مجالات مختلفة، تحاكي واقع العائلة السورية، التي تعيش بين الركام، في بيتها المدمر بعد القصف.
حيث اعتمدت على إبراز الإضاءة الطبيعية خلال تصوير المشاهد النهارية، كونها قادرة من خلالها على إبراز الأشكال غير الجمالية للدمار الكبير، خصوصاً في لقطات نزوح العائلات التي تنتمي إلى المنطقة التي تعيش فيها عائلة الأب معتز.
فيما استخدمت التضاد في مشاهد الليل، من خلال الظلام الدامس، الذي يغطي الحي كاملاً، كما كان الحال في الواقع، حيث تعيش العائلات في منازل محرومة بشكل كامل من الكهرباء.
ففي هذه المشاهد لا يمكن رؤية الممثلين بشكل واضح، بسبب غياب مصادر الإضاءة، ولا يتم التمييز بينهم إلا بصوتهم، وحركة أجسادهم الخفيفة، وكأنهم أشباح.
كل هذا جعل فيلم "نزوح" يحاكي الواقع، بطريقة إخراجية كتلك التي يتم اعتمادها في إخراج الأفلام الوثائقية، خصوصاً أن سؤدد اعتمدت على شهادات واقعية، لكتابة قصة فيلمها.
وكل هذا، بعيداً عن تصوير أي مشاهد مبالغ فيها عن الحرب والقصف، أو مشاهد عنيفة يمكن أن تكون صعبة على المشاهد، والممثلين، الذين عاش بعضهم نفس هذه الأحداث في الواقع.
فيلم "نزوح" في مهرجانات حول العالم
تم عرض فلم نزوح لأول مرة بتاريخ 6 سبتمبر 2022، في الدورة 79 من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، حيث حصل على جائزة الجمهور، بعد إشادة كبيرة من الحضور.
وقد عبر سامح المصري عن سعادته الكبرى بهذه الجائزة، إذ قال في بيان له: "اهتمامي وشغفي بالتجربة بدأ مع قراءة السطور الأولى في السيناريو، شعرت حينها أنه التزام أن أشارك في هذه الحالة الإنسانية التي يقدمها الفيلم ومخرجته ومؤلفته، تجربة حلوة وصعبة استمتعت بها وبأداء الشخصية أمام أختي وصديقتي النجمة كندة علوش".
أما الممثلة كندة علوش، فقد أشارت عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى سعادتها الكبيرة بهذا التتويج، وكتبت: "الحمد لله سعيدة وممتنة بفوز الفيلم السوري نزوح بجائزة الجمهور في مهرجان فينيسيا السينمائي.. مبروك لكل طاقم الفيلم، مبروك للصديقة المخرجة والمؤلفة سؤدد كعدان الجائزة بعد المجهود الجبار، مبروك صديقي الرائع سامر، مبروك حلا ونزار.. وكل فرد شارك في صنع هذا الفيلم".
وبعد هذه الجائزة، شارك فيلم "نزوح" في عدة مهرجانات حول العالم، من بينها مهرجان لندن، ومهرجان موسترا دي فالنسيا بإسبانيا، ومهرجان ساو باولو، ومهرجان طوكيو، ومهرجان بوسان بكوريا الجنوبية، ومهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط في المغرب، ومهرجان السينما المتوسطية في بروكسل، وآخرها كان مهرجان الشارقة في الإمارات العربية المتحدة.
فيلم "نزوح" والقضية الفلسطينية
تزامناً مع الأحداث التي تعيشها فلسطين، وبالتحديد قطاع غزة، بعد عملية "طوفان الاقصى"، التي نفذتها "حماس" يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تم اختيار "نزوح" ليكون فيلم افتتاح مهرجان الشارقة الدولي للأطفال والشباب في دورته العاشرة.
إذ قال سامح المصري، في تصريح له لبرنامج "ET بالعربي"، على هامش حضوره افتتاح المهرجان، إن قصة هذا الفيلم تشبه بشكل كبير ما يعيشه الفلسطينيون في غزة كذلك في ظل الحروب المستمرة في أراضيهم المحتلة.
وأضاف: "إذا تمت إزالة كلمة سوريا، ووضعت مكانها كلمة فلسطين، فلن يكون هناك داعٍ لتغيير أي شيء في أحداث الفيلم، وسوف يكون مناسباً مليار في المئة، لأن هناك تشابهاً كبيراً بين المأساتين اللتين حصلتا في هذا القرن في سوريا، وحاليا في فلسطين، سواء في الأحداث أم الألم أم الهموم التي يحكي عنها الفيلم".