تُعتبر فايزة أحمد واحدة من أجمل الأصوات، التي جاد بها الزمن علينا في الوطن العربي. فقد استطاعت أن تحجز لنفسها مكانةً مهمة، في فترةٍ كانت فيها الأصوات النسائية كثيرة، والمنافسة على أشدّها.
لكنها رغم ذلك، فرضت نفسها على الساحة الفنية من دون أن تعتمد على أحد. اتخذت طريقها الخاص بنفسها، متسلّحة بصوتها الذي يتميز بلمسة شجن فريدة وأصيلة، ميّزها عن الجميع؛ فاستحقت عن جدارة لقب "كروان الشرق".
غنّت فايزة جميع أشكال الغناء وجميع اللهجات، لتترك بصمة في كلّ مكانٍ، فيبقى صوتها حاضراً في حياتنا وذاكرتنا الجماعية.
محاولات فايزة أحمد الأولى من لبنان وسوريا
وُلدت فايزة أحمد عام 1930 في لبنان، بمدينة صيدا، لأبٍ سوري وأم لبنانية. فعاشت طفولتها بين لبنان وسوريا، وأحبّت الغناء من والدتها، التي كانت تعزف العود وتملك صوتاً جميلاً.
اهتمت الأم بصوت ابنتها كثيراً، وجعلتها تتقدّم لاختبارات الإذاعة اللبنانية وهي لا تزال في الحادية عشرة من عمرها. فنجحت في الاختبار واعتُمدت في الإذاعة، كما تولّى الملحن عمر النعامي تدريبها وتجهيز ألحانٍ لها.
لاحقاً سترتبط فايزة أحمد بالملحن النعامي- وهي في الثالثة عشرة فقط- وتُنجب منه طفلة، لكن هذا الزواج لم يستمر طويلاً. فأصبحت الطفلة أماً، وهي ما زالت طفلة تحلم بالغناء.
عادت فايزة مع والدتها إلى سوريا، وحاولت البحث عن فرصة جديدة. فتقدّمت إلى إذاعة دمشق، لكنها لم تُوفّق في الاختبار، فكان الغناء في المقاهي والملاهي الليلة أملاً لإيجاد فرصة ولتتمكن من توفير بعض المال وتأمين حياتها.
أولى فرصها ظهرت عندما نقلت إذاعة حلب إحدى حفلاتها، ليتحقق الأمل فيما بعد وتُعتمد في الإذاعة ضمن الكورال، قبل أن تقدّم أغنيات منفردة.
كانت تلك اللحظات في إذاعة حلب هي الانطلاقة الأولى لفايزة، وبدأ من بعدها الملحن السوري محمد محسن في صناعة أغنيات خاصة لها، أشهرها: "دموع المحبة"، و"استنى يا قلبي"، و"جارنا الأسمر"، و"درب الهوى"، و"قالوا لي عنك بتغار".
فكانت أولى خطوات النجاح في بلد والدها سوريا، حيث قدّمت أولى حفلاتها أيضاً؛ ليظهر صوتها أكثر، وما تحمل من موهبة بين حبالها الصوتية. ويُمكن القول إن للملحن محمد محسن دوراً مهماً ورئيسياً في مسيرة فايزة أحمد.
فكان له الفضل في تقديمها للجمهور وتعليمها أصول الغناء، إضافةً إلى صناعة أغنيات خاصة تساعدها في بناء مسيرتها كمطربة محترفة، وليست كهاوية فقط.
نجاحها في سوريا جعلها تشارك في حفلات خارج البلاد أيضاً، وكان العراق من ضمنها. هناك استمع لها الموسيقار العراقي رضا علي، وبدأت مرحلة جديدة في مسيرة فايزة.
قدّم لها علي عدة أغنيات، مثل: "الله وياك"، و"اشيبك يا قلبي"، و"جيرانكم يا أهل الدار"، و"مايكفي دمع العين"، و"الحب يلعب بكيفه"، و"خي لا تسد الباب".
دخلت فايزة أحمد السوق المصرية في العام 1954، حين أطلت في أولى حفلاتها بعد ثورة يوليو 1952 وقدّمت أغنياتها الشامية والعراقية. استمع إليها المصريون، وأُعجبوا بصوتها، حتى إن الملحن رياض السنباطي قال: "ده صوت الواحد يتمنى يلحن له".
لكن في ذلك الوقت كان عليها العودة إلى سوريا، لأنها مرتبطة بعقود عمل. فتأجل حلم العمل والاستقرار في القاهرة حتى العام 1956.
نجاحات استثنائية في مصر
بعد حفلتها في القاهرة بعامين، تلقت دعوة من شركة "مصرفون" وصاحبها المطرب محمد فوزي. زارت مصر بكل لهفة، لتجد ثلاث أغنيات جاهزة للتسجيل بانتظارها، من ثلاث ملحنين كبار: "قول يا عزول" لمحمود الشريف ومرسي جميل عزيز، و"في الطريق" لرياض السنباطي وحسين السيد، و"نار بعدك" لمحمد فوزي وفتحي قورة.
ومن خلال تلك الأغنيات، حجزت فايزة أحمد مكاناً لها على الساحة الغنائية المصرية، ترسّخ أكثر عندما تعاونت مع الملحن بليغ حمدي.
قدّمت مع بليغ أول ألحانه "ماتحبنيش بالشكل ده" من كلمات عبدالوهاب محمد؛ ورغم أن الجمهور كان أمام مطربة وملحن وشاعر في بداية مشوارهم الفني، إلا أن الأغنية حققت نجاحاً مدوياً.
ضربة النجاح الثانية في مصر جاءت بالتعاون مع الملحن الأهم في مسيرة فايزة أحمد، محمد الموجي، من خلال أغنية "أنا قلبي إليك ميال" التي كتبها مرسي جميل عزيز. حققت تلك الأغنية نجاحاً منقطع النظير، لم يعكر صفوه إلا رحيل طفلتها أمل وصدمة الموت المفجع التي جعلت فايزة تصرّح في أحد حواراتها، "عمري ما فرحت من قلبي بعد موت بنتي".
ولعلّ الحزن الذي أصابها هو الذي جعل محمد عبد الوهاب يختارها لغناء روعة "ست الحبايب" في أول تعاونٍ بينهما، بعد محاولات فايزة الكثيرة من أجل مقابلة موسيقار الأجيال.
صحيح أن محاولاتها باءت بالفشل، لكن حظها كان أفضل بكثير، فقدّمت لحناً دخل التاريخ وأصبح اللحن شبه الرسمي لعيد الأم؛ صدح صوت فايزة أحمد للمرة الأولى بأغنية "ست الحبايب" في الإذاعة المصرية، يوم 21 مارس/آذار 1958، وصار يصدح سنوياً تزامناً مع عيد الأم.
فايزة أحمد في السينما: خلاف مع عبد الحليم
لم تكن فايزة أحمد صاحبة جمالٍ استثنائي أو باهر، وفق معايير الجمال العالمية، مثل صباح ونور الهدى ونجاح سلام وغيرهن من مطربات ذلك الجيل؛ إلا أنها كانت مهتمة بخوض تجربة السينما.
لم تقدم الكثير من الأعمال السينمائية، لكنها تركت الأثر الكافي وقدّمت أغنيات تُعتبر الأشهر والأنجح في مسيرتها.
كانت البداية في فيلم "تمر حنّة" عام 1957 مع الملحن محمد الموجي، الذي فهم صوت فايزة وما يحمله من شجن وخصوصية. فحققت أغاني الفيلم نجاحاً كبيراً، وهي: "تمر حنة"، و"أمرّ من الصبر"، و"يمّا القمر عَ الباب"، و"قلبي عليك يا خي".
وفي العام نفسه، قدّمت "أسمر يا اسمراني" في تعاونها الأول مع كمال الطويل من خلال فيلم "الوسادة الخالية"، من بطولة عبد الحليم حافظ ولبنى عبد العزيز. تقدّم فايزة الأغنية في الفيلم، في مشهدٍ يُظهرها وهي تغنيها داخل أحد الملاهي، حين يكون عبد الحليم ولبنى يشاهدانها.
حققت الأغنية نجاحاً هائلاً، وأصبحت جزءاً مهماً من الفيلم. لهذا أعاد عبد الحليم تسجيلها بصوته، وغناها في حفلاته بعدما طرحها بالأسواق من دون الرجوع إلى فايزة، ممّا أغضبها. لكن الردّ كان ذكياً.
فقد غنّت فايزة في العام نفسه أغنية ساخرة حملت عنوان "هاتولي وابور الحريقة"، على نفس لحن أغنية عبد الحليم "قولوله الحقيقة" من فيلم "شارع الحب" وألحان كمال الطويل نفسه. فبقيَ حليم يرفض أي حفلة تغني فيها فايزة أحمد حتى العام 1973 بعدما تصالحا.
وفي عام 1959 قدّمت فيلمها الثاني "ليلى بنت الشاطئ" مع محمد فوزي. طلبت فايزة من محمد الموجي أن يلحن لها بعض الأغنيات، لكنه رفض لأن الفيلم من بطولة المطرب والملحن محمد فوزي.
لكن مع إصرار فايزة، طلب الموجي منها أن تستأذن فوزي أولاً، الذي وافق بكل رحابة صدر. فقدّم الموجي أغنيتين في الفيلم، هما: "ليه يا قلبي"، و"يالاسمراني".
في العام نفسه، قدمت أغنية "بتسأل ليه عليا" من كلمات إسماعيل الحبروك وألحان فؤاد حلمي في فيلم "عريس مراتي"، ثم كانت مشاركتها تمثيلاً وغناءً في فيلم "المليونير الفقير" مع إسماعيل ياسين.
قدّمت في الفيلم أربع أغنيات من كلمات فتحي قورة، هي: "علشان بحبك" مع بليغ حمدي، و"يا حلاوتك يا جمالك" مع فريد الأطرش، إضافةً إلى "الأسانسير" مع عبد العزيز محمود، و"أنا هتجنن" بصحبة إسماعيل يس ونجوى فؤاد ولحن منير مراد.
والعودة إلى الموجي مرة ثانية في فيلمها الأخير "أنا وبناتي" عام 1961، حين قدّم لها جميع أغنيات الفيلم التي كتبها مرسي جميل عزيز: "ع البساط السندسي"، و"بيت العز"، و"تعالالي يابا"، و"حيران كده ليه"؛ ليؤكد الموجي أنه الملحن الأول والأهم في مسيرة فايزة أحمد السينمائية.
أخيراً، شاركت بالغناء في فيلم "منتهى الفرح" عام 1963، من خلال موال "لحد إمتى يا حبيبي"، وفي فيلم "القاهرة في الليل" عام 1963 من خلال "اتحسدنا ولا إيه" من ألحان بليغ حمدي.
محمد سلطان.. الحبيب والملحن والسند
مع بداية الستينيات، تعرّفت فايزة أحمد إلى الملحن الشاب محمد سلطان، الذي كان يخطو خطواته الأولى في عالم التلحين.
كانت فايزة تشعر- في تلك المرحلة- أن كل الملحنين ابتعدوا عنها، ووجد كل ملحن نفسه مع أصواتٍ أخرى، وأن عليها هي أيضاً البحث عن ملحنها الخاص. فكان محمد سلطان من وقع عليه هذا الاختيار.
وقدّم معها في البداية "اعتراف" و"أؤمر يا قمر" من كلمات الشاعر الجديد أيضاً محمد حمزة عام 1963، لتبدأ حكاية عملٍ وغرامٍ استمرّت 17 عاماً.
تزوّج الثنائي في العام 1964، وكان محمد سلطان الزوج الرابع لفايزة، ويُقال إنها تزوّجت من بعده؛ بعد زواجها من عمر النعامي، ومختار العابد، وعازف الكمان عبد الفتاح خيري مع بداية قدومها إلى مصر، ثم ضابط مرور اسمه عادل عبد الرحمن من دون أن يدوم هذا الزواج طويلاً.
أنجبت فايزة من محمد سلطان التوأم طارق وعمرو، وعاشا قصة حب استثنائية بالتزامن مع نجاحٍ فني متنوّع. في تلك الفترة كان محمد سلطان شبه محتكر لصوت فايزة، وقدّما سوياً مجموعة أغنيات جيدة.
لكن وبعد 17 عاماً، بدأت المشاكل بين الحبيبين؛ فتركت فايزة أحمد المنزل ثم انفصلا رسمياً عام 1981، قبل أن يعود إليها بعد إصابتها بسرطان الثدي.
عانت فايزة كثيراً مع مرض السرطان، وحاولت مواجهته بالغناء والعمل رغم ألمها وتعبها. وطوال فترة مرضها، كان محمد سلطان بجانبها ولازمها حتى وفاتها بين أحضانه في 21 سبتمبر/أيلول 1983.