يعتبر محمد القصبجي قامة فنية، ويعد بمثابة أستاذ لكل من عمل معه أو جاء بعده من مطربين أو ملحنين؛ إذ كان صاحب الفضل في خروج بعض أشهر الأغاني العربية لزمن الفن الجميل ولأشهر نجومه مثل: أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، ورياض السنباطي، وفريد الأطرش، وأسمهان.
القصبجي وأسمهان تحديداً؛ شكَّلا فريقاً فنياً أنتج لنا بعض أعرق أعمال المغنية السورية آمال الأطرش؛ إذ لم يجد أستاذ المونولوج العاطفي صوتاً نسائياً قادراً على تقديم إبداعه الفني بعد أم كلثوم سوى مع صوت الشابة أسمهان.
أسمهان؛ الشابة التي استطاعت بشكلٍ أو بآخر منافسة أم كلثوم على جمهورها وكبار ملحني الثلاثينيات، وأصبحت واحدة من أهم الأصوات العربية الخالدة، قبل التورط في علاقات عاطفية وسياسية واجتماعية ثم رحيلها في بداية ثلاثينيات عمرها.
ورغم مرور ما يقارب 80 عاماً على رحيل أسمهان، إلا أن حياتها وخاصة موتها غرقاً في حادثة، ما زال بهما الكثير من الغموض والسرية والتي في الأغلب لن يكشف عنها، ربما ذلك كان جزءاً من أسطورتها الخالدة، حياة مليئة بالأحداث والعلاقات والزيجات والسفر، وكان بها قليل من الفن رغم ما وصلت له من مكانة في تاريخنا الموسيقي.
لكن بعيداً عن الحياة الشخصية وتداخلاتها، سنحاول أن نرصد دور القصبجي وأسمهان الفنية القصيرة، وتأثير كل منهما على الآخر؛ إذ يعتقد بعض النقاد الفنيين أن القصبجي ربما كان في احتياج لذلك الصوت أكثر بكثير من احتياج أسمهان إلى موسيقاه وتلحينه.
القصبجي وأسمهان.. رحلة فنية قصيرة لكن ثرية
تنقسم تجربة أسمهان الفنية لمرحلتين؛ مرحلة قصيرة قبل عام 1937، ومرحلة أخرى حتى وفاتها في عام 1944، في المرحلة الأولى حيث بدأت أسمهان تخطو في مرحلة مراهقتها وعمرها لم يتجاوز الـ16 عاماً في مطلع الثلاثينات، وبعد ما اكتشفها وعلمها الموسيقار والملحن داوود حسني، وهو من اختار لها اسم أسمهان بدلاً عن اسمها الحقيقي "آمال"، لكنه لم يقدم لها ألحاناً، أو ربما لحَّن لها ألحاناً لم تُسجل، كما أشار إلى ذلك المؤرخ والموسيقار فيكتور سحاب في كتابه "السبعة الكبار".
لكن كان القصبجي من أوائل الملحنين المتعاونين والمكتشفين والمهذبين لذلك الصوت الجميل للفتاة الصغيرة، وقدم لها لحن مونولوج "اسمع البلبل يغني" من كلمات يوسف بدروس، ووضع القصبجي لحن المونولوج كنوع من أنواع التدريب البسيط لذلك الصوت، لتغني وتتنقل بين المقامات بكل سهولة ويُسر، وتتماهى مع لحن مونولوج يبنى بالأساس على تفاعل الصوت مع اللحن المستمر والمتصاعد والمتنقل بين المقامات المختلفة.
وبعدما نجحت أسمهان في ذلك الاختبار والتدريب، وبعدما اكتشف القصبجي إمكانيات ذلك الصوت، وقدراته على غناء في مساحات صوتية متفاوتة، وجد ما يحلم به، ليكمل ما كان بدأه مع أم كلثوم في عالم المونولوج العاطفي، ليقدم مع أسمهان وأيضاً يوسف بدروس مونولوج "كنت الأماني"، ويتبعه بمونولوج "ياللي في حبك بنيت الأماني"، ليؤكد القصبجي على أستاذيته في تقديم المونولوج العاطفي، وكيف يستطيع إخراج كل الإمكانيات الصوتية للمطربة التي تغني ألحانه، وهنا بدأ ظهور صوت نسائي قادر على منافسة الست أم كلثوم.
الطقطوقات الفنية.. القصبجي والأصوات النسائية وأسمهان
قدمت أسمهان أيضاً الطقطوقات من ألحان القصبجي، وهو واحد من أهم ملحنيها منذ بدايته مع منيرة المهدية ونعيمة المصري وغيرهما من المطربات والعوالم، ويقدم طقطوقاتين من إمضائه، إذ قدم طقطوقات من كلمات يوسف بدروس مثل "كلمة يا نور العيون" و"في يوم ما أشوفك راضية عني"، ونلاحظ صوت القصبجي في كورس "كلمة يا نور العيون"، إذ من الواضح أنه كان يرافقها كي يطمئن على قدراتها على أداء هذا اللحن الصعب، الواقع بين الطقطوقة من حيث الشكل والمونولوج من حيث التنقل بين المقامات وطريقة تكرار الكلمات في نوع من أنواع التجريب والتجديد، تلك الهوايات المفضلة للأستاذ القصبجي.
لكن أسمهان التي كانت تصنع مجدها الفني، ابتعدت عنه لفترة بالسفر خارج مصر حيث تزوجت، لكنها عادت بعد فترة إلى ملاذها الآمن في الغناء، وكانت أولى أغانيها بعد العودة مع القصبجي، هي أغنية "ليت للبراق عيناً"، وهي القصيدة التي أشعلت حالة من الحرب بين القصبجي والمنتجة والمخرجة بهيجة حافظ والمطربة حياة محمد والمطرب أحمد عبد القادر وبالطبع أسمهان.
إذ منعت الأسطوانة من العرض في مصر لفترة طويلة، بعد اتهام بهيجة حافظ بأن لحن القصيدة لحنها بمساعدة القصبجي، واتهمت حياة محمد؛ أسمهان بأنها سطت على أغنيتها؛ لأنها هي أول من غنتها في فيلم "ليلى بنت الصحراء" 1937، لكن بعيداً عن تلك الأحداث والمشاجرات، فاللحن قصبجي الشكل والطعم بكل وضوح، واستطاعت أسمهان أن تعبر عن الكلمات وكأنها تحكي عن نفسها وليس عن ليلى العفيفة، وكان البراق هو منقذها هي لا حبيبته ليلى.
لكنها لم تكن أول قصيدة يلحنها القصبجي لأسمهان ، فقدم سبق أن قدم في مرحلتها الأولى قصيدة "أين الليالي"، والتي تنسب في أغلب المواقع والكتب إلى أحمد رامي، لكن من الواضح أنه خطأ شائع، وأن كلمات القصيدة للشاعر إسماعيل صبري، ويمكننا التأكد من الديوان المنشور له.
فرصة القصبجي الذهبية مع أسمهان
في مطلع الأربعينات، جاءت فرصة ذهبية للقصبجي، كما أوضح الدكتور سعد الله آغا القلعة في برنامجه عن أسمهان، فبعد اعتذار محمد عبد الوهاب عن تلحين قصيدة "اسقنيها بأبي أنت وأمي" للشاعر بشارة الخوري، بدأ القصبجي في تلحين القصيدة، من باب منافسة عبد الوهاب في عالم القصيدة، وأيضاً للفت انتباه أم كلثوم له وقدراته في تلحين القصائد والتي كان يسيطر عليها زكريا أحمد مع الست، ونجح القصبجي في تقديم قصيدة بها تجديد كبير، كما أبدعت أسمهان في غنائها رغم سيطرة نبرة الحزن عليها في قصيدة غزلية بشكل صريح، لكنه أضاف طعماً مختلفاً إلى قصيدة غزل بطعم الرجاء والشوق لا الدلال والغواية.
استمر القصبجي في تحدي تلميذه النجيب محمد عبد الوهاب، بتقديم لحن قصيدة "هل تيم البان" لأمير الشعراء أحمد شوقي، وهو تحدٍّ واضح وصريح من داخل محراب عبد الوهاب، خاصة أنه اختار قصيدة من كلمات أحمد شوقي، والتي كان معروفاً سيطرة عبد الوهاب على أغلب قصائد شوقي، لكنه أيضاً كان مستمراً في لفت نظر أم كلثوم، خاصة أنه علم أنها تجهز فيلماً تاريخياً "دنانير"، وبالطبع ستكون به قصائد غنائية، لكن رغم تقديمه لحن القصيدة بشكلها المعتاد دون أي تجديدات قوية وصريحة، بعدما علم أن أم كلثوم رفضت قصيدة "يا لعينيك و يا لي" من رياض السنباطي لما بها من تجديد، وقد غنت أسمهان تلك القصيدة؛ لذلك حاول القصبجي استمالة أم كلثوم لكنه فشل في تغيير قرارات الست، وذهبت القصائد للشيخ زكريا أحمد، لكن أصبح لدينا قصائد جميلة مغناه بصوت أسمهان، وهو الأمر الهام والباقي لنا.
وكان القصبجي أيضاً يثير حفيظة أم كلثوم وقلقها، بإطلاقه العنان لتجاربه وتجديداته مع صوت أسمهان، التي لا تمانع بأي شكل من أي تجارب فنية، خاصة لو كانت من أستاذ ورائد التجديد القصبجي، وثقتها فيه وحبها لخوض كل التجارب، وذلك ما يقلق أم كلثوم؛ لأنها لا تحب فكرة التجديد والتجربة، وتميل دائماً للأصالة والمدرسة الكلاسيكية في الغناء والتلحين، ليقدم القصبجي أغنية "الطيور"، لتصبح واحدة من أجمل وأهم الأغاني ليس فقط في تاريخ القصبجي الملحن أو في تاريخ أسمهان، لكن في تاريخ الأغنية العربية بشكل عام، لما تحمله من جمال وتعبيرية وتطويع لصوت أسمهان بشكل مبدع وأقرب إلى الكمال.
في سنة 1940، قدم الموسيقار محمد عبد الوهاب طقطوقة "أنت عزولي وزماني"، من كلمات مأمون الشناوي، والأغنية بها مزج عظيم بين الموسيقى الغربية والشرقية، ونسمع بيانو وأكورديون في التوزيع، وعبد الوهاب يغني بكل سلاسة وهدوء.
أسمهان التي كانت تحب صوت عبد الوهاب، كانت تطلب منه الغناء في أي جلسة خاصة، وعندما يرفض أو يعتذر، كانت بكل دلال الأميرات تغني "قيس وليلى" التي غنتها معه، ليغني تحت تأثير دلال أسمهان، كما ذكر فيكتور سحاب في كتابه "السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة".
أعجبت أسمهان بأغنية عبد الوهاب واللحن، وذهبت للأستاذ، أستاذها وأستاذ عبد الوهاب أيضاً، محمد القصبجي وطلبت منه أغنية على نفس أجواء أغنية عبد الوهاب، وللمصادفة التي قد تكون مقصودة، فقد كان شاعر الأغنيتين واحداً، وهو مأمون الشناوي.
قبل القصبجي هذا التحدي، ليصنع لحناً به أجواء لحن عبد الوهاب دون تقليد، وقدم من أجمل أغاني أسمهان؛ أغنية "إمتى حتعرف إمتى" سنة 1944، نفس السنة التي رحلت فيها أسمهان، وغنتها في فيلم "غرام وانتقام"، بجانب أغنية "أنا اللي أستاهل" من كلمات بيرم التونسي.
لكن رحلة أسمهان الفنية لم تكتمل، إذ رحلت قبل أن تكمل تصوير الفيلم، تاركة القصبجي يحلم بالعديد من الألحان التي كان ينوي تقديمها معها، لكنه قدم مع أم كلثوم مونولوج "رق الحبيب" في نفس العام، وبدأ تدريجياً في الاكتفاء بالعزف وراء أم كلثوم حتى رحل في هدوء عام 1966.