أن تمتلك صوتاً جيداً، إنها الموهبة؛ وأن تنمّي تلك الموهبة وتعمل على صقلها، إنه الاجتهاد؛ أما أن تحتفظ بمكانةٍ لك وسط كلّ صعوبات الوسط الفني، أصبحنا نتحدث هنا عن فنّ إدارة الموهبة.
هي واحدة من أجمل الأصوات المصرية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي؛ ولكن، رغم اجتهادها وامتلاكها الموهبة، إلا أنها لم تعرف كيف تُدير ذلك الصوت، كي تحجز له مساحةً مهمّة في ذاكرتنا الجماعية.
إنها حورية حسن، التي وُلدت في المنوفية عام 1932، لكنها عاشت في مدينة طنطا. رحل والدها وهي صغيرة، فعاشت مع أمها حياةً هادئة وجميلة. ساهمت الأم كثيراً في تربيتها وتنمية موهبتها الغنائية، التي ظهرت منذ نعومة أظافرها.
أحبّت الطفلة حورية الغناء، وبدأت تغني بين الأصدقاء والأهل والمعارف، حتى بات اسمها متداولاً في طنطا، وصارت تُعرف بـ"تلك الفتاة الصغيرة صاحبة الصوت الجميل".
كيف بدأت حورية حسن مشوارها الفني؟
لم يكن الأمر أكثر من مجرّد هواية، تُشغل بها وقتها، حتى جاء الحدث الأهم في مسيرتها. في حديثٍ إلى جريدة "الكواكب" عام 1956، تقول حورية: "لستُ أنسى تلك الليلة الخالدة في عمري، ليلةَ ذهبتُ إلى بيت إحدى صديقاتي في طنطا لأغنّي في زفاف شقيقتها، وكان من بين المدعوّين مراقب المنطقة التعليمية الأستاذ عباس الخرادلي".
وتتابع: "ما كدتُ أنتهي من الغناء حتى استدعاني ومضى يسألني عن حبّي للغناء، وعن الأدوار التي أحفظها. وبعد أن أخبرته أني أحببتُ الغناء منذ كنت في التاسعة، وأحفظ كل الأغنيات التي أسمعها عبر الراديو، قال إنني أستطيع أن أكون مغنية ذات مستقبلٍ في حال سافرتُ إلى القاهرة".
ورَوَت حورية كيف أخرج من جيبه بطاقةً، كَتبَ عليها بضع كلمات ثم أعطاها إياها، وهو يقول: "خُدي الكرت ده، روحي بيه للأستاذ محمد عبد الوهاب".
طارت حورية من الفرح، وبدأ حلم القاهرة والاحتراف لا يفارق مخيّلتها، خاصة مع تركها للمدرسة، والمكوث في البيت، وازدياد الإلحاح على تزويجها بتحريضٍ من عائلة الأم. لذلك كانت تعتبر أن تلك الفرصة هي طوق النجاة، الذي سيساعدها على تحقيق حلمها في الغناء بالإذاعة، وفي مقابلة محمد عبد الوهاب.
رغم الصعوبات التي واجهتها في إقناع والدتها، لكنها قابلت في النهاية موسيقار الأجيال الذي أثنى على صوتها، لكنه طلب منها المكوث في القاهرة حتى يتسنّى لها تعلّم الغناء بشكلٍ صحيح.
وبعد أن أوضح لها أن الطريق ليس سهلاً، بل طويلٌ وشاق، وافقت الأم على أن تبقى ابنتها لمدة شهرٍ واحد فقط في القاهرة، على أن تقرّر لاحقاً ماذا ستفعل.
تحكي حورية عن هدايا القدر لها في ذلك الوقت الصعب- بعدما قرّرت العودة إلى طنطا- عندما قابلت بالصدفة متعهد الحفلات الذي سمعها تغني ذات مرّة، ورفضت عرضه بأن ترافقه إلى القاهرة.
اصطحبها الرجل لمقابلة الراقصة والممثلة ببا عز الدين، التي كانت تملك "كازينو الأوبرا" الاستعراضي وقتئذٍ بعد بديعة مصابني. استمعت عز الدين لحورية في الكازينو، بحضور الملحنين أحمد صبرة وعزت الجاهلي، حيث غنت "سلوا قلبي" لأم كلثوم.
فأُعجبت بصوتها ووقعت معها عقداً بمبلغ 25 جنيهاً، ومن هنا بدأت رحلة الاستقرار في القاهرة واحتراف الغناء. غنت للمرة الأولى في كازينو "الكيت كات" عام 1948، وبدأ الجمهور يتعرّف على صوتها الجميل من خلال غنائها مع ببا عز الدين ثم فرقة محمد الكحلاوي، الذي لحّن لها أغنيتها الشهيرة "سوق الحلاوة جبر".
نجومية حورية حسن وحلم الإذاعة
في لقاءٍ ثانٍ مع مجلة "الكواكب" عام 1957، تروي حورية حسن كيف دعمها الملحن أحمد صدقي: "ذات ليلة كنت أجلس في الكواليس حين قال لي الأستاذ أحمد صدقي إنه معجب بصوتي وإنه يعدّ برنامجاً سُيذاع في شهر رمضان، وقرّر أن يعهد لي بأغنية في ذلك البرنامج".
كادت حورية حسن أن تطير من الفرحة، خصوصاً حين ضرب صدقي لها موعداً لتبدأ بروفات الحفظ: "لم أعرف النوم ليلة التسجيل، كنتُ خائفة من أن أتأخر على الموعد، لكني فوجئتُ لدى وصولي إلى مقر الإذاعة أن اسمي شُطب من البرنامج".
لكن أحمد صدقي وقف أمام مسؤولي الإذاعة وهدّد بالانسحاب من البرنامج، إذا لم يوافقوا على غناء حورية في البرنامج. وافقت اللجنة، وتمكنت حسن من أن تحفظ اللحن خلال نصف ساعة فقط. قدّمت الأغنية، وكانت بداية النجاح والعمل في الإذاعة.
خطوة الإذاعة كانت حلماً بالنسبة لحورية حسن، ولعلّها السبب في تقديمها العديد من الأعمال الإذاعية، مثل "البيرق النبوي" من ألحان أحمد صدقي، و"يوم القيامة" و"علي بابا والأربعين حرامي" لزكريا أحمد، إضافةً إلى "الباروكة" و"شهرزاد" من ألحان سيد درويش، و"حمدان وبهانة" لمحمد الموجي.
وإلى جانب الأوبريت الغنائي سجلت برامج غنائية متنوعة، مثل "مدينة الملاهي" من ألحان عزت الجاهلي.
قبل ذلك، طلب منها الممثل المسرحي عبد العزيز خليل أن تحلّ مكان مطربة أوبريت "معروف الإسكافي" في كازينو ببا عز الدين، بعد أن اعتذرت عن عدم الحضور قبل العرض بساعات.
لماذا لم تترسّخ صورة حورية حسن في ذاكرة الأجيال؟
رغم دخولها عالم السينما، مع فيلم "بابا عريس" في العام 1950، إلا أنها بقيت وفية للإذاعة. لم تكن السينما من أولوياتها، رغم أنها كانت أساسية في ذلك الوقت لترسيخ صورة النجوم بذاكرة الأجيال المتعاقبة، فقدّمت عدداً قليلاً من الأفلام السينمائية، ولم تكن اختياراتها موفّقة دائماً.
لكن ذلك لم يمنع نجاح أغنيات مثل "من حبّي فيك يا جاري" و"أبو الطاقية الشبيكة"، من كلمات مرسي جميل عزيز وألحان محمد الموجي في فيلم "أحبك يا حسن" عام 1958.
من حبي فيك يا جاري – حورية حسن
لقب المطربة الطائرة، رغم أهميته ودلالاته في وقتها، بسبب سفرها الدائم لإقامة الحفلات خارج مصر؛ لكنها خسرت بسببه ارتباطها بالجمهور المصري بشكلٍ أعمق. كذلك، فإن قلّة حواراتها التلفزيونية والإذاعية، جعلت موهبتها تُحتضر سريعاً وتُنسى.
لم تعرف حورية حسن كيف تروّج لنفسها بشكلٍ جيد، لذلك لم يتعامل معها الصحافيون والجمهور على أنها مطربة من الصفّ الأول، رغم امتلاكها صوتاً مصرياً أصيلاً قادراً على غناء اللون الشعبي بجدارة، وفي الوقت نفسه القصائد والأدوار والموشحات.
لو كانت أجادت حورية إدارة موهبتها بشكلٍ أفضل، لكانت نجحت بأن تحجز لها مكاناً في ذاكرتنا الفنية. لكنها رغم ذلك، تركت لنا أرشيفاً جميلاً وقيّماً يستحق المراجعة والاستماع إليه بإتقان، لتقدير تلك الموهبة وذلك الصوت المصري الأصيل.