ما بين الموشحِ والقصيدةِ الفصيحةِ والشعرِ العامي تنقلت حنجرة فنان متفرد.. المطرب التونسي لطفي بوشناق الذي غنى في مختلف المحافل العربية والدولية، وفي غنائه ظل وفياً لمواقفه، مواقف الإنسان، داعماً للقضايا الإنسانية، وصادقاً في امتلائه بالهوية العربية قولاً وفعلاً. فكان نصيبه محبة جمهور واسع من المحيط إلى الخليج من أجيال مختلفة.
كان للطفي بوشناق حفل أخير غنى فيه أمام الرئيسين التونسي والجزائري، وهو ما أنكرته عليه فئة من جمهوره واعتبرت الأمر بمثابة انقلاب. بهذه المناسبة كان لـ"عربي بوست" معه هذا الحوار، الذي قَبِل إجراءه على نحو تلقائي بمحبة وتواضع كبيرين.
كيف هو حال لطفي بوشناق اليوم، كيف هو حال الإنسان فيك؟ وما أخبار الضمير وسط كل ما جرى ويجري؟
سأجيبك شعراً: عايش لأغنياتي.. عايش للناس وأنا مع غناياتي اللي فقلبي على لساني واللي عندي للناس.. تجرحني كلمة تواسيني غناية.. وأنا من أول الحكاية عايش لغناياتي عايش للناس.. ما تقوليش علاش تغني ممكن الغناية توصلني لبعيد لصباح جديد.. شمسه تحل الباب تضحك للأصحاب.. تخلي الدنيا عيد.. ساعات الرحلة تفكرني بطول الرحلة.. باللي غابوا واللي شابو في عمر النحلة.. بشبابك في عيون الناس عليها قربان.. بالجمرة اللي مشيت عليها وقلبي حفيان.. تسألني روحي اشنو عملت بغنايتك.. آه يا سؤال الروح القاسي.. صحيح غنيت للريح.. لكن يكفيني الغناية تسافر تمسح دمعة ناسي.. وين شوارعكم البعيدة.. وين الدمعة والتنهيدة.. تراني عايش في يدي غناية تشعل شمعة تضوي حكاية.. وتحلم بصباحات جديدة وأنا عايش لغناياتي عايش للناس. الشاعر آدم فتحي
تم أخيراً تكريمك بتونس من طرف المفوضية السامية لشؤون اللاجئين والمعهد العربي لحقوق الإنسان، وهذا من باب العرفان لفنان أعطى الكثير، في الوقت نفسه كانت هناك فئة تشن حملة ضدك ووصفتك بمطرب البلاط، فقط لأنك غنيت في حضرة الرئيسين التونسي والجزائري، ووصفت ذلك بالانقلاب.. بين التكريم والتقريع كيف ينجو الفنان والإنسان بملامحه الداخلية دون خدوش مما يحدث خارجاً؟
أنا لم أحضر حملة انتخابية، ولا مشيت لدعم حزب، الفنان لا يحاسب إلا على ما صدر على لسانه، أما أين غنى وأمام من وفي أي مكان؟ فهذا غير مهم. وعن الحفل الذي ذكرته فقد صدح صوتي بـ: أغني كما قبل غنى الرعاة.. نغني إلى آخر الأغنيات.. نغني لنسقي حلم الصغير ونغمس في الحب خبز الفقير.. فلا شيء بعد الربيع الأخير سيبقى سوى هذه الأغنيات.. نغني لنحيا وتحيا الحياة.. نغني لنسمع نبض القلوب ونبني ما هدمته الحروب.. فلا شيء تفضي إليه الدروب إلى لم تبشر به الأغنيات.. نحيا وتحيا الحياة.
وغنيت: "أنا العربي مفتاح الجهاد وراعي النبض في قلب الحصاة عزيز الروح… إذا ما البحر طوقني بموج صنعت بموجه طوق نجاتي… دمي هذه السما وكل أرض متى رقصت حرائقها جهاتي.. وصوت الكون بعض فتات صوتي وأحلام الخليقة ذكرياتي.. أكاد أجود بي وأمام جودي بي تظل الأرض تصرخ بي هات هات.. فقولوا كما شئتم مغني ويحلم لن أشح بأغنياتي.. أنا العربي آخر من سيبقى ليشهد على الحياة في الحياة". وهي توقيع الشاعر آدم فتحي. أعتقد أن ما قاله لسانه هو ما يفرق، وكفى.
بصيغة أخرى، كيف تحافظ على توازنك النفسي أمام ما قد يوجه لك من اتهامات، قد لا تمت للحقيقة بصلة؟
بكل صراحة وصدق لم توجه لي اتهامات، ولم أسمع بها يوماً.. أشعر أن لي احتراماً في الشارع العربي ومع جمهوري، الذي يعرف أني صادق مع الله ومع نفسي ومع فني. والكلمة التي يجب أن تقال أقولها، والموقف الذي يجب أن يُتخذ أتخذه. ولم أذم يوماً فناناً ولا اتهمت شخصاً بشيء، اهتمامي مركز على شغلي، ومبدئي العمل ثم العمل والمثابرة. وأسعى دوماً أن أكون صادقاً في مواقفي. وعندما أنظر إلى نفسي في المرآة لا أستحي من نفسي.
في مسارك المهني والإنساني كنت نموذج المواطن الذي يصبو إليه كل عربي.. كنت بمثابة ناطق باسم الشعب، إلى أي حد اليوم أنت قادر أن تمارس هذا الدور، الذي اخترته طوعاً بحرية؟
الإنسان الذي ليس له موقف كأنه غير موجود، والحياة مواقف، ومواقفي هي نفسها باقية وكذلك مبادئي، وكلمتي ستظل حاضرة في كل موقف عليّ اتخاذه. والتاريخ لا يذكر إلا الإنسان الذي حمل وتحمل مواقفه.
ما عساني أقول، هناك الكثير الخطير لكن أفضل أن أكتفي الآن بهذا الكلام.
عن الحلم العربي الذي غنيت له قبل عقود، هل لا يزال الحلم على قيد الحياة؟
حلمنا باقٍ وأملنا أن يتحقق، ونتمنى أن تكون الدول العربية صفاً واحداً، ولا نرى ما نراه من تشرذم ومشاكل بين إخواننا العرب من المحيط إلى الخليج. أتمنى أن تنتهي هذه المشاكل، ويستحضر الجميع أننا إخوة في تاريخ واحد وأمة واحدة، ولنا دين واحد، ومستقبلنا واحد. أدعو إخواننا العرب لتوحيد الصفوف وترك الفتن وليكن العقل ومستقبل أولادنا هو المنارة التي تقود المرحلة القادمة، وليبتعدوا عن كل الصراعات ولتكن مصلحة الشعب العربي فوق كل الاعتبارات، في جلسة واعية، أساسها المحبة والمنطق. الحلم لم يتحقق (الله غالب) لكن القادم، بإذنه تعالى أفضل.
تعاملت في أعمال كثيرة مع شعراء بينهم آدم فتحي، الذي ذكرته وأنشدت شعره بداية حديثنا، هل لديك قائمة شعراء جدد تود التعامل معهم؟
أنا أتعامل مع الكلمة والقصيد ولا أتعامل مع الأسماء. صحيح أني تعاملت مع آدم فتحي ومع مازن الشريف ومع الأستاذ صلاح الدين بوزيان من تونس كذلك، واشتغلت على قصائد لنزار قباني ومع عدد من الشعراء العرب، وبينهم الشاعرة المغربية سميرة فرجي، في تجربة جميلة.
بالنسبة لي ذراعي مفتوحة لكل الشعراء من المحيط إلى الخليج، وحين أجد الكلمة والموضوع الذي لم أغنه قبلاً، ويضيف جديداً لمسيرتي الفنية لا ولن أتأخر.
وماذا عن قصصك الجديدة التي تود أن تحكيها لنا، مغناة مستقبلاً؟ ما مواضيعها، هل تتصل بما مضى أم اليوم أو غداً؟
أجيبك أيضا شعراً:
أيــن إذا ومَــنْ أنا حـتى مـتى.. يـعـودُ لي رجـعُ الصَّدى حـتـى مـتى
فــمَــنْ يُـعـيـرُ عـيـنَهُ لكـي أرَى.. ومَــنْ يُــعـيـرُ أذنَهُ كـي أنـصِـتـا
لا شيء في أفْقي سوى عُنْقي الذي.. إليَّ وحـدي نازفــاً تـــلفَّتـــا
أقـولُ ليـلي قـدْ مـضى فـهـلْ مـضى.. أقـولُ فـجـري قـد أتـى فـهـلْ أتـى
أنـا جـذعُ أرضـي مـا أزالُ واقِفاً.. لكـنَّ خـوفـي لمْ أجـدْ لي مَـنـبَـتـا
أُعـيـدُ نـحْـتَ صـخـرتـي أو صـرخـتـي.. ألمُّ مــنــي مــوطــنــي المُــشـتَّتـا
مُــرٌّ مــتـاهـي يـا سـؤاليَ اقـتـرفْ.. ذنـبَ الجـوابِ بـعــدَهُ عِـشْ أصـمَتا
يـا مـوطـنـي مـتـى تـكـونُ موطني.. مـتـى تـكـونُ موطني متى متى!
هذا لسان قلبي والتوقيع للشاعر رعد بندر
إلى أي حد يمكننا الحديث عن ضرورة الانسجام والتوافق الروحي بين فريق عمل أغنية (كاتب العمل الشاعر والمشرف على الألحان والمطرب الذي هو أنت) في سبيل تحقيق منجز فني يشبهك؟
الثنائيات والثلاثيات هي ما عاش في تاريخ الأغنية العربية، أحمد رامي ورياض السنباطي وزكريا أحمد والرحابنة، منصور الرحباني وفيروز.. في كل مشروع فني نرجو له البقاء لا بد من هذا التوافق وأن يعرف كل الآخر، بمشاعره وإحساسه وما يلائمه ولا يلائمه، وتكون هناك قدرة على التعبير عن هذا الآخر بالكلمة واللحن وغيره.
في كل مشروع إبداعي لا بد من وضع استراتيجية كاملة والأخذ بعين الاعتبار كل خطواتها.
وأعتقد أن ما سمح لنا أن نظل متواجدين هو وجود مخطط واضح، نسعى عبره دوماً للتعلم وأمرنا شورى بيننا.
هل تحوط نفسك بمستشارين وأنت تقدم عملاً معيناً، سواء من دائرة الفن أو من خارجه؟
طبعاً، أنا مؤمن جداً بأن "أمرنا شورى"، لذلك أستشير القريبين من الوسط ومن غيره. وأسمع الرأي والرأي الآخر، بكل ديمقراطية ومنطق، وبكل تواضع، وأتمعن في هذه الآراء، فإذا كانت الآراء السلبية أكثر من الإيجابية في عمل أنا مقدم عليه ألغي العمل دون غرور، أو أحاول تغييره، آخذاً بعين الاعتبار كل الملاحظات، وكل ما يجب تعديله، أو يمكن أن ألغيه حتى بعيداً عن فكرة الغرور. الفن لا تعنت فيه.
إذا سألتك جملة تختزل بها رؤيتك لواقع رقعتنا الجغرافية المغاربية وتوثق المرحلة، مع استحضار فكرة المغرب العربي، ماذا يمكن أن تقول لنا؟
كنت أتمنى على الله ألا يكون الحال على ما هو عليه، أعتقد أنه كان بالإمكان تجنب هذه المشاكل إذا تم استحضار أننا إخوة وتاريخ مشترك، كما ذكرت لك في بداية حديثنا.
نادراً ما نجد بلدين متجاورين دون مشاكل، لكن العقل والهوية المشتركة تقول إنه كان لا بد من تجنب هذه المشاكل، ويجب ذلك اليوم أكثر من أي وقت مضى، فنحن إخوة والتاريخ والمصير يجمعنا، وأكرر هذا.
ما دامت هناك حياة فثمة أمل، والشعوب المغاربية أصبحت اليوم واعية وملت هذه الخلافات… وحتى إن كانت ثمة خلافات فلا بد من الجلوس على طاولة التفاوض والسماح لكلمة المنطق والمحبة أن تكون هي العليا، فنحن في النهاية عابرو سبيل ويلزمنا أن نفكر في مستقبل أبنائنا وماذا سنترك لهم بعد أن تنتهي أدوارنا ووجودنا في هذه الحياة.
لا يجب أن نعطي فرصة لمن يشتغلون بمنطق "فرق تسد"، أولئك الذين يخلقون الفتنة لأهداف صاغرة. ولا يسعني إلا أن أسأل الله أن يحفظ هذه المنطقة ويصلح رؤانا ويوحد صفوفنا.