قبل 10 سنوات من الآن كانت ثورة يناير/كانون الثاني حديث العالم كله وحديث المصريين بشكل خاص، حيث يمكنك أن تراها في كل ملليمتر مربع من أرض الوطن، على الجدران في صورة عبارات عشوائية صاغها أحد الشباب المتحمسين للتغيير، أو على لافتة وضعت أعلى محل تجاري، غَيَّر مالكُه البسيطُ اسمَه من عصارة "سلسبيل" إلى عصارة "شهداء ثورة يناير".
الجميع متحمس للثورة إذاً ويسعى للحاق بركبها ولم تكن الأعمال الدرامية بكل تأكيد في معزل عن ذلك، فكان من الطبيعي أن نشاهد في أول موسم رمضاني بعد الثورة أعمالاً فنية تعبر عنها وتحاكي أيامها الخالدة في أذهان المصريين، وعلى رأس هذه الأعمال كان مسلسل "الهروب" الذي قام ببطولته الفنان كريم عبدالعزيز والذي نجح بجدارة من خلاله في تجسيد معاناة آلاف الشباب المصري الذين كانوا ولا يزالون ضحايا للتعذيب في غياهب الأمن الوطني.
لكن وبعد سنوات من عرض مسلسل الهروب عاد كريم بعد غياب إلى التلفزيون مجدداً، وهذه المرة ليس بدور الضحية بل الجاني، وليس في الموسم الثاني من مسلسل الهروب بل الموسم الثاني من مسلسل الاختيار!
والآن سنحاول أن نتذكر كيف داعب كريم الثورة في رمضان من العام 2012 قبل أن يحاول مداعبة الانقلاب العسكري الدموي في الموسم الرمضاني الحالي.
جسّد كريم في عصر الثورة دور شاب مصري بسيط يدعى محمود، ساقَه قدرُه إلى أحد مقار أمن الدولة لتلفق له قضية سياسية لم يكن له أي علاقة بها، وفي مقر أمن الدولة عانى أبشع أنواع التعذيب ومنها الصعق الكهربائي الذي أدى لوفاة أحد زملائه في القضية.
تلك الأساليب نفسها التي نفاها كريم عندما جسد دور الجاني في مسلسل الاختيار 2، وفي أحد مشاهد حلقته الأولى -والذي لم يشعر خلاله كريم بأي تناقض- وجّه حديثه لأحد الشباب المقبوض عليهم في مقر الأمن قائلاً "ده انت حتى من وقت ما أصحابك مسكوا مافيش كهربا ولا حتى مية!"، نافياً بجملته تلك كل الجرائم التي قام بها ضباط أمن الدولة بحق آلاف الشباب في عهد مبارك، والتي كانت سبباً في اندلاع ثورة.
لكن لنعُد ثانية لمسلسل الهروب حين قامت ثورة يناير، وتمكن محمود الشاب البسيط الذي يجسده كريم من الهروب من السجن ليستمر لشهور بعدها في رحلة البحث عن ضابط أمن الدولة الذي أذاقه ويلات العذاب وتسبب في مقتل صاحبه، عاقداً العزم على الانتقام حتى تمكن منه في الحلقة الأخيرة من المسلسل ليدفعه كريم للانتحار بعد أن هدده بملاحقته قضائياً مقدماً له كل الدلائل التي تثبت تعذيبه لعشرات المواطنين.
قدم كريم دور الضحية إذاً التي تعاطف معها مئات الآلاف من المشاهدين وهم يرون كيف تفنن ضابط أمن الدولة في تعذيبه هو وزملاؤه بالكهرباء، وبالتأكيد فإن هؤلاء المشاهدين كانوا سعداء للغاية بنهاية المسلسل التي أقدم خلالها ضابط أمن الدولة على الانتحار.
هذا الضابط نفسه ربما ووفقاً للسياق الزمني قد يكون أحد زملاء الضابط هيثم الذي يقوم كريم بتجسيده في مسلسل الاختيار 2، الذي يحاول من خلاله إظهار الجاني في مسلسل الهروب على أنه الضحية الذي كان يملك الحق في تعذيب المواطنين وإيذائهم بحجة الدفاع عن الوطن من العمليات الإرهابية.
في الحلقة الأولى أيضاً من مسلسل الاختيار 2 وجه كريم خطابه للشاب ذاته قائلاً: "بص يا شاكر أنا عاوز أحكيلك حكاية في 2009 كنت لسه منقول، كان لسه اسمه أمن الدولة المهم كان في واد صغير عنده 16 سنة مسكناه في بيت راجل تكفيري حققت معاه، والواد قعد يعيط ويقول ماليش ذنب، سبته يا شاكر، بعدها بأسبوع فجر أتوبيس سياحي في الأزهر".
تحول كريم بنسبة 180 درجة إذاً ما بين الهروب في عصر الثورة إلى الاختيار 2 في عصر الحاكم العسكري الذي يسعى من خلال الأعمال الدرامية إلى غسل يديه من الدماء التي أزهقها على مرأى ومسمع العالم أجمع في مذبحتي رابعة والنهضة، والذي نجح أيضاً في استقطاب فنان ذي شعبية كبيرة بحجم كريم عبدالعزيز الذي أعتبره الممثل المفضل بالنسبة لي، والذي تحول فجأة إلى مجرد أداة يتم استخدامها في التأثير على عقل المشاهد والتلاعب به، وفقاً للحقبة الزمنية التي نعيشها ووفقاً للحاجة السياسية التي يفرضها الواقع بين ثورة يناير/كانون الثاني وانقلاب يوليو/تموز.
وذلك دون الاهتمام بنقل الحقيقة كما حدثت، ودون مراعاة لمشاعر الضحايا الذي يقدرون بالآلاف من أهالي الشهداء الذين قضوا لحظاتهم الأخيرة في مواجهة رصاص الأمن بصدورهم العارية، والذين سيجبرون على تقبل الحالة الشعبية الواقعة تحت تأثير كريم وأدائه الاستثنائي كالعادة، والمتباهية بقتل أبنائهم بدم بارد بعد أن نجح كريم ورفاقه في تشويه صورتهم وإظهار اعتصامهم السلمي على غير حقيقته، وبكل تأكيد فإن أهالي هؤلاء الضحايا وإن العديد من الضحايا أنفسهم كانوا من متابعي مسلسل الهروب، وكانوا من المعجبين بأداء كريم في المسلسل، بل وربما إن بعضهم رأى فيه أخيراً الفنان صاحب الرسالة الذي يجسد حياتهم ومعاناتهم اليومية مع بطش الأجهزة الأمنية.
لكن ما غفل عنه فناني المفضل قبل أن يقوم بدور الجاني أن الضحية الذي نجح في تجسيد شخصيته من قبل لن ينسى يوماً ما يقوم به كريم الآن تماماً مثلما لم ينسَ محمود هذا الضابط الذي عذبه وأظهره كإرهابي في مسلسل الهروب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.