لمتابعي الشأن السينمائي أن يلاحظوا أن السينما الإسبانية تعيش منذ سنوات، قفزة نوعية على الصعيد الفني والجمالي والفكري والمواضيع التي تتناولها من الناحية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، حيث وصل الإنتاج عام 1990 إلى 42 فيلماً، وارتفع العدد عام 2000 إلى 104 أفلام محلية و21 فيلماً من إنتاج دولي مشترك. من بين أهم مخرجي هذه الموجة الجديدة، بيدرو المودفار صاحب فيلم "العودة" الذي رُشح لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي، والمخرجة باتريثيا فيريرا صاحبة فيلم "أعرف من أنت"، وتطرح من خلاله نظرة طبيبة نفسية للأحوال الشخصية والاجتماعية والسياسية التي تعيشها.
في مهرجان تورونتو السينمائي الدولي لسنة 2019، تم عرض فيلم "المنصة" للمخرج غالدير غاستيلو أوروتيا، ولمدة 94 دقيقة كشف لنا المخرج الحقيقة البشعة للإنسان في مواجهة خطر يهدد حياته، وكيف أن غريزة البقاء هي المسيطرة، وأن النجاة بالنفس هي الأهم حتى وإن تطلَّب الأمر دهس الآخر والقضاء عليه.
الصراع الطبقي في الحفرة
El Hoyo بالإسبانية ترمز إلى سجن عمودي في شكل برج يتكون من عدد لا نهائي من الطوابق، كل طابق عبارة عن غرفة دون أبواب أو نوافذ. فقط أربعة جدران وسريران متقابلان، يوضع بداخلهما شخصان تم اختيارهما بطريقة عشوائية. يتوسط الغرفة ثقب مربع الشكل تنزل من خلاله يومياً ولمرة واحدة، مائدة مليئة بالطعام.
يكتشف المشاهد تدريجياً أن الحفرة تنقسم إلى ثلاثة مستويات غير متساوية وأن ساكنيها غير قادرين، فلا أحد يعلم متى يبتسم له الحظ فيصعد إلى الطبقة العليا، أو يحمله قدره إلى إحدى الطبقات السفلى. طوال الفيلم يعجز المتلقي عن إيجاد تفسير للتسمية التي أُطلِقت على هذا المكان أو سبب بنائه بهذا الشكل الأفقي، كأننا في علاقة عمودية يغيب فيها التواصل بين الطبقات، فلا أحد يستمع للآخر، لا الذي في الطبقة العليا و لا السفلى . نظام يخلق مجتمعاً من الصُّمّ تطغى فيه النزعة الفردية، يشبه إلى حد بعيد، النظام الرأسمالي في تقسيمه الطبقي.
تنطلق المائدة من الطابق "صفر" وهو المطبخ حيث يتم تجهيز وطهي ألذّ وأجود أنواع المأكولات على يد أمهر الطباخين، حيث يحرص رئيس المطبخ على رفع جودة الأسماك واللحوم، وعلى نظافة الأكل. لكن كل هذه النظافة والتنظيم سوف تختفي بمجرد وصول المنصة إلى سجناء الطابق الأول الذين يرون أنهم الأحق بالأكل بشراهة وجشع، عابثِين في الأطباق بأيديهم وأرجلهم، مقتنعين بأنهم الأضل وأصحاب المنّ على الطبقات السفلى.
تنتقل المائدة من طبقة إلى أخرى، وتزيد معها الفوضى، وتبرز بشكل أكبر، غريزة البقاء والاقتتال من أجل الطعام. فكلما نقص الطعام زادت حيوانية الإنسان وعاد إلى طوره البدائي. وعند وصولها إلى الطبقات السفلى لا يتبقى في الطاولة إلا الأواني الفارغة، ساعتها يسود قانون الغاب ويبدأ الصراع بين القوي والضعيف من أجل البقاء. فيضطر أحياناً أحدهم إلى قتل الآخر من أجل أن يقتات عليه، حتى يستطيع العيش، فيتحولون إلى أكلة لحوم البشر مثلما حدث مع بطل الفيلم، حيث اضطر إلى الأكل من جثة شريكته في الغرفة بعد ان انتحرت في الطابق 333.
دون كيشوت في مواجهة الجوع
لم يكن البطل يشبه أغلب السجناء الذين عرضهم الفيلم، فقد كان باحثاً وكاتباً، يخوض مغامرة جديدة من أجل نيل شهادة بعد نهاية فترة الحجز. واختار البطل الدخول إلى الحفرة برفقة كتاب عكس بقية النزلاء الذين اختاروا أسلحة من أجل الدفاع عن النفس.
السيناريو ودون كيشوت حكايتان متوازيتان لبطلين يؤمنان بمبادئ لم تعد موجودة. يرى كل منهما العالم من خلال الروايات، عالَم حالم خيالي تسود فيه مبادئ الفروسية البالية. خاض دون كيشوت حرباً غير عادلة ضد خصم لا يمكن هزيمته، وهذا تحديداً ما حدث في الفيلم. الحرب التي يخوضها البطل حرب غير متكافئة بينه وبين مجموعة من الأشخاص غلب عليهم طابعهم الحيواني. تخلى البطل عن سذاجته وانغمس في الدفاع عن حقه في الحياة عندما نزل إلى أحد الطوابق السفلية، لكنه سرعان ما عاد إلى صوابه وذلك عندما انتقل إلى الطابق السادس. مثل الشريك الجديد، القوة البدنية التي يفتقر إليها البطل، فهو يذكرنا بسانشو خادم دون كيشوت، وهكذا انطلقا في مغامرة من أجل استعادة أمجاد الفرسان ومساعدة المستضعفين عبر تقسيم عادل للأكل بطريقة تكفي الجميع.
فيلم الكوميديا السوداء
صوَّر الفيلم ما يعيشه الإنسان الآن من صراع طبقي سواء كان اقتصادياً أو اجتماعياً، حيث غابت فيه القيم الأخلاقية والاجتماعية، وعلا فيه صوت الأنا والمصلحة الشخصية على مصلحة الجماعة. ينطبق قول سارتر: "الجحيم هو الآخرون" على ما يعيشه الإنسان في عصرنا الحالي، فأصبح المجتمع فاسداً في واقع شديد القسوة تسحق فيه الطبقات العليا ما يقبع تحتها من طبقات متوسطة أو ضعيفة.
لا يمكنك الابتسام وأنت تشاهد هذا الفيلم، فالإحساس الذي يخالجك يجبرك على الاشمئزاز والنفور، وبعض المشاهد المقززة قد تدفعك إلى التقيؤ أحياناً. هذا ما تفعله بنا السلطة، حيث تحكم العالم ديكتاتوريات تجعلك تدهس الآخر وتقف فوق جثته، من أجل تحقيق مصلحتك الخاصة. سأل بهرات بخوفٍ البطلَ: "هل أنت شيوعي؟"، عندما حدَّثه عن تقاسم الطعام فأجابه بأنه "إنساني.. وأنه يريد طعاماً يكفي الجميع". نلاحظ هنا الخوف الذي تملَّك الشخصية الثانوية بمجرد أن البطل أتى بفكر مخالف مناهض للرأسمالية، الوحش الأعظم الذي يبتلع العالم.
لم تقدم نهاية الفيلم إجابات للأسئلة التي تتوارد على ذهن المتفرج. نهاية غامضة يتخللها بعض الأمل.. لكننا لا ندري.