ليست العصابات المكسيكية التي تلطخت يدها بالدماء فقط، فقد تكون وكالة الاستخبارات الأميركية متورطة في القتل أيضاً أو على الأقل تغاضت عنه، كما تشير سيرة حياة الرجل الذي يعرف بأنه بيل غيتس المخدرات.
إذ تكشف قصة الأب المؤسس لعصابات المخدرات المكسيكية فليكس غالاردو المعروف بلقب "إل بادرينو" (العرَّاب) أحداث صادمة، فيما يلوح الرجل بالكشف عن المزيد.
فهناك أدلة تشير إلى أنَّ وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية كانت تعلم أن عميلاً تابعاً لإدارة مكافحة المخدرات الأميركية سيتم اغتياله ولكن لم تفعل شيئاً لإنقاذه حتى تحمي عملاءها.
ومنذ ذلك الحين لم تعود العلاقات إلى طبيعتها بين الوكالة وإدارة مكافحة المخدرات الأميركية مرة أخرى، حسب ماورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
الأب الروحي لعصابات المخدرات المكسيكية يتحول إلى أيقونة فنية
قصة ميغيل فليكس غالاردو، هي محور أحدث مواسم مسلسل Narcos الذي تنتجه شبكة Netflix ، بعد أن ترسخت في المخيلة الشعبية أحداث المواسم السابقة التي كانت تدور حول بارونات المخدرات في كولومبيا.
ولكن ليس هذا مظهر الاحتفاء الفني الوحيد بـ "إل بادرينو" (العرَّاب) أو بيل غيتس المخدرات.
إذ يوجد أغنية شعبية مكسيكية شهيرة عن المخدرات (أو ما يعرف بأغاني narcocorrido) تَغنَّى بها أسياد هذه هذا اللون الموسيقي، وهم فريق "لوس تيغريس ديل نورتي" (Los Tigres Del Norte)، وتسمى سيد الزعماء.
ويفترض عالمياً أنَّ هذه الأغنية تعتبر بمثابة تحية تشير إلى غالاردو.
لماذا حمل لقب بيل غيتس المخدرات؟
بابلو إسكوبار كان بمثابة "كوبرنيكوس" الاتجار في المخدرات (العالم الذي أثبت أن الأرض تدور حول الشمس).
لأنَّه "أول من أدرك أنَّ عالم الكوكايين ليس هو من يجب أن يدور في فلك الأسواق، بل الأسواق نفسها هي التي يجب أن تدور في فلك الكوكايين"، حسبما يقول الخبير في ممارسات عصابات المافيا روبرتو سافيانو.
إذ إنَّ الكوكايين هو السلعة المثالية التي لا تعرف شيئاً يسمى الكساد، والذي يمكن بيعه بموثوقية ودون رقابة على الجودة وبأسعار ثابتة.
ولكن إذا كان إسكوبار هو كوبرنيكوس، ففليكس غالاردو هو رائد الأعمال، وصانع إمبراطورية يتمتع ببصيرة، وباستيعاب مثالي ألمعي لسوقه.
ومن ثَم فإنَّغالاردو بمثابة هنري فورد الكوكايين أو بيل غيتس المخدرات.
After Watching Pablo Escobar and cali cartel cocaine trade .Now Its time to see Félix Gallardo Mexican drug war in the 1980s @NetflixIndia @NarcosNetflix #NarcosMexico #Narcos4 #Narcos pic.twitter.com/EtdVE3fodt
— Aatish Mohite (@AatishMohite) November 16, 2018
كان يكره العنف إلا للضرورة وفقط لحماية أعماله التجارية
في الثمانينيات، شكَّل بيل غيتس المخدرات أول جماعة كبيرة للاتجار في المخدرات داخل المكسيك، التي تركز عملها في الأساس على التوزيع بدلاً من الإنتاج.
يُمكن أن يُنظر إلى كارتل غوادالاخارا على أنَّه كيان موازٍ لعصابات كوزا نوسترا الإجرامية التي يعود أصلها إلى جزيرة صقلية.
كرهت هذه العصابات القديمة ممارسة العنف بغية العنف عندما يتسبب في تعطيل أعمالها الجارية، لكنها لجأت إليه بلا رحمة عندما ساعدها على استمرار هذه الأعمال.
وهو النهج الذي اتبعه غالاردو فيما بعد، عندما يصبح بحق بيل غيتس المخدرات.
لقد بدأ كضابط شرطة وحارس شخصي لعمدة الولاية
ولد غالاردو بالقرب من كولياكان، عاصمة ولاية سينالوا المكسيكية، حيث انضم إلى الشرطة وصار حارساً شخصياً لعمدة الولاية، ليوبولدو سانشيز.
ولكن في ظل ممارسته لوظيفته التي تعتمد على حماية سانشيز، انجذب لاحقاً نحو الأعمال التجارية التقليدية في المنطقة الجبلية الشرسة سييرا مادري أوكسيدنتال.
وبعد أن دمرت عملية "كوندور" إنتاج الأفيون في المكسيك، أصبحت الساحة مهيئة أمام زعيم اتجار بالمخدرات جديد في سينالوا يسمى بيدرو أفيليس كي يمضي قدماً نحو هذه الفجوة ويرتقي بنشاط طرق تهريب الماريجوانا الموجودة بالفعل لتتحول إلى عمليات شاملة لتهريب الكوكايين.
وهنا سيظهر الدور الريادي لغالاردو الذي كان يحمل لقب بيل غيتس المخدرات لأنه قام بدور مماثل لعبقري البرمجيات الأميركي بيل غيتس، ولكن في مجال المخدرات.
ثم أصبح يتزعم أكبر كارتل مخدرات في العالم بعد أن أضفى طابعاً عصرياً على العمل
عندما قُتل أفيليس في تبادل لإطلاق النار عام 1978، كان الوقت قد حان لوريثه فليكس غالاردو، ومعه مساعدين، هما رافائيل كارو كوينتيرو وإرنستو فونسيكا كاريلو، ليتولوا العملية.
وبحلول الثمانينيات، صار كارتل غوادالاخارا الأكبر في العالم.
أضفى غالاردو ومساعداه طابعاً عصرياً وتجارياً ودولياً على الاتجار في المخدرات.
فقد دشنوا طرقاً لتهريب الكوكايين من أمريكا الجنوبية، لتمر عبر المكسيك، متجهة نحو الولايات المتحدة وأوروبا، لتظل هذه الطرق مستخدمة حتى يومنا هذا.
فعلى غرار نجوم وول ستريت أسس للهيمنة المكسيكية على تجارة المخدرات
استوعب غالاردو الأسواق مثلما فعل نظراؤه في شارع وول ستريت في نيويورك أو منطقة كناري وارف في لندن.
فقد تحدث لغة سوق المخدرات بكفاءة.
وبهذه الطريقة أسس للهيمنة المكسيكية على عمليات الاتجار في المخدرات التي لا تزال البلاد تتمتع بها حتى الآن.
Great job @diegoluna_ on playing Miguel Ángel Félix Gallardo. #NarcosMéxico #netflix pic.twitter.com/owodUMCF92
— Minier (@minierlaw) November 17, 2018
وتعايش بسلام لافت مع الدولة
وأرسى غالاردو قواعد نظام من الفساد والتعايش في وئام مع الدولة المكسيكية مما أدى إلى حماية المصالح المشتركة على أساس ما يعرف بـ "Pax Mafiosa"، أو سلام المافيا.
وأدى هذا النظام عمله بنجاح ليساعد في تحقيق أهداف الكارتل، ويضمن قدراً من الهدوء إذا ساعد الموظفون الفاسدون في الحفاظ على تدفق الإنتاج في مواجهة التحديات التي تأتي من خصوم الكارتل من جماعات الاتجار الأصغر.
وبدأوا في تحديث نموذج لغسيل الأموال ليشكل بصورة افتراضية اقتصاداً "قانونياً" شمال وجنوب الحدود.
وأدار غالاردو هذا النموذج الذي اتقنه لاحقاً وريثه غالاردو: خواكين غوزمان المعروف بـ "إل تشابو"، الذي يمثل أمام المحكمة في نيويورك هذا الأسبوع، وإسماعيل زامبادا المعروف بـ "إل مايو".
إلى أن وقعت الكارثة التي تورطت فيها وكالة الاستخبارات الأميركية
لكن عام 1985، تسببت مصيبة في تبدل أحوال الكارتل، وتبدل معه تاريخ الوئام السياسي المكسيكي مع عصابات المخدرات.
فقد تسلل عميل سري من إدارة مكافحة المخدرات الأميركية، وهو إنريكي كيكي كامارينا، بين صفوف الكارتل.
ونجح العميل في الحصول على تفاصيل حول طرق التهريب وأعضاء الكارتل وعلاقاته بالسلطة.
وبعد ذلك تم اكتشاف كامارينا، فاختطف ثم اُستجوب وعُذب وقتل.
ويوجد أدلة تشير إلى أنَّ وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عرفت هذا قبل أن يحدث لكنها لم تفعل شيئاً كي تحمي مصادرها الخاصة.
ومنذ ذلك الحين لم تعود العلاقات إلى طبيعتها بين الوكالة وإدارة مكافحة المخدرات الأميركية مرة أخرى.
وهكذا تم إلقاء القبض عليه، ولكنه حافظ على منظمته من السجن
وأياً كانت الحقيقة الكامنة وراء موت كامارينا.
فقد طالبت واشنطن الحكومة المكسيكية بالتحرك، وتمثل ذاك التحرك الذي توجب على الحكومة المكسيكية القيام به في إلقاء القبض في عام 1989 على الرجل الذي كانت توفر له حماية جزئية: غالاردو.
ولكن غالاردو من سعى داخل السجن إلى الحفاظ على منظمته متماسكة، وخصص المراكز أو المناطق التي تتكون منها منظمته والتي أطلق عليها "Plazas"، ليشكل كل منها قطاعاً يؤدي عمله فيه.
إذ يمكن القول إنَّ فليكس غالاردو أو بيل غيتس المخدرات هو من ابتكر نظام التعهيد في تجارة المخدرات.
فنظامه قام على تقسيم مناطق النفوذ والعمل مع الشرطة
كانت رؤية غالاردو عبارة عن صورة من سلام المافيا (Pax Mafiosa)، حيث تعرف كل عصابة إجرامية على حدة منطقتها ومناطق العصابات الأخرى عند الإشارة إليها.
وتعرف هيئات إنفاذ القانون موقعها بالطريقة نفسها، ويستمر تدفق الإنتاج.
وعرف بيل غيتس المخدرات أن الساسة يستوعبون ثمن هذا الهدوء النسبي: وهو الحماية.
وهكذا وزع بيل غيتس المخدرات الولايات الأميركية بين اتباعه
وبعد حصوله على مباركة شبه رسمية في نطاقات نفوذه، فوَّض غالاردو عصابات التهريب التي تحكم في مواقع بعينها وتسير العمليات على طول الحدود إلى الولايات المتحدة، لتكون مسؤولة عن بمناطق بعينها.
إذ خُصِّص لأقاربه، وهم عائلة أريلانو فليكس، مدينة تيخوانا، وهي المنطقة التي تُهرب المخدرات إلى مدينة سان دييغو بولاية كاليفورنيا الأميركية، التي حظيت بشهرة على إثر فيلم Traffic الذي أخرجه ستيفن سودربرغ.
فيما تولت عائلة بلتران لييفا منطقة صحراء سونورا التي تهرب المخدرات إلى ولاية أريزونا الأميركية في أقصى الشرق.
وخُصص لأمادو كاريلو فوينتس، -الذي اشتهر بلقب "ملك السماوات" لامتلاكه أسطول طائرات كان يستخدمه في تهريب المخدرات، معابر المخدرات التاريخية التي تمر عبر مدينة سيوداد خواريز إلى مدينة إل باسو في ولاية تكساس.
ومُنح ساحل المحيط الهادئ إلى مهربين صغار وصاعدين ممن هم تحت وصاية غالاردو، وهما خواكين جوزمان وإسماعيل إل مايو زامبادا.
ولكن سرعان ما انهار هذا النظام ومعه تنظيمات المافيا القديمة
وفي خطوة كانت حاسمة لما سيعقب هذا، ترك غالاردو الأراضي الواقعة شرق مدينة نويفو لاريدو بولاية تاماوليباس، إلى كارتل الخليج، وهي عصابة تهريب شكلها حديثاً خوان غارسيا أوبريغو.
لكن الكارتلات لم يُكتب لها أن تعمل سوياً بانسجام، ومثلت نهاية عهد غالاردو بداية النهاية لتنظيمات المافيا القديمة المستقرة.
انقسم كارتل غالاردو إلى فروعٍ مختلفة، وحصل كل منها على سطوته في منطقة هنا أو هناك.
وشكل أخوة أريلانو فليكس منظمتهم الخاصة، وهي كارتل تيخوانا.
ومن هنا خرج لنا أكبر تاجر مخدرات في العالم
أسس كارتل تيخوانا بعد ذلك ذراعه الإجرامي الخاص المعروف باسم"لا لينيا".
وتعاون أخوة بلتران لييفا في البداية مع أهم شخصية برزت من بين جميع هؤلاء، وهو غوزمان الذي شكل كارتل سينالوا الخاص به مع زامبادا.
وفي عام 2006، أعلن غوزمان الحرب على جميع الحدود سعياً وراء السيطرة.
وسيصبح غوزمان لاحقاً، أكبر تاجر مخدرات في العالم.
وعندما استهدف غوزمان عصابات الخليج الدموية، بدأ الكابوس الذي تعيشه المكسيك حالياً
لم يستهدف غوزمان زملاءه السابقين في عهد غالاردو وحسب.
بل شملت أهدافه أيضاً المنطقة المحرمة لكارتل الخليج، التي تعرف الآن بجناحها المسلح كارتل لوس زيتاس، الذي صار بمرور الوقت عصابة دموية مستقلة بذاتها.
وعند هذه المرحلة، بدأ الكابوس الذي انزلقت فيه المكسيك منذ ذلك الحين.
وها هو الأب الروحي يهدد الآن بالحديث عن علاقته بالمصارف المكسيكية
احتفظ غالاردو أو بيل غيتس المخدرات بسجلٍ شخصي لكل هذه الأحداث التاريخية.
وبيعت هذه المذكرات إلى الصحفي والكاتب المكسيكي دييغو أوسورنو، ونشرت مقتطفات منها في مقال موسع عن غالاردو بمجلة Gatopardo عام 2009.
يبدو غالاردو عازماً بقوة على تحقيق مراده: إذ يتحدث صراحة عن مصالحه في المصارف المكسيكية التي غسلت أمواله، فيما التمس براءته في اغتيال كامارينا.
نُقل غالاردو إلى سجن خوخوتلا في ولاية موريلوس المكسيكية، حيث لا يزال سجيناً فيه، وأدين في نهاية عام 2017 بقتل كامارينا، بعد عقود من المناورات القانونية.
وبعد تهشم منظمته زادت الأمور سوءاً
وعلى عكس عديدين جاءوا من بعده، أراد غالاردو للعمل أن يسير بسلاسة مع أقل قدر ممكن من العنف، إلى أن تكون الحاجة إليه ضرورية. وهو ما اختبره كامارينا.
ولم يسفر عن تهشم سلام المافيا الذي أقامه غالاردو عن انخفاض في تدفق المخدرات إلى الولايات المتحدة، وأوروبا، والعالم في نهاية المطاف.
وإلى حد كبير فإن تجارة المخدرات توسعت بعد القبض على العراب غالاردو.
ويرجع إلى الرجل الذي اكتشفه غالاردو وهو صغير، والذي تبدأ محاكمته في نيويورك هذا الأسبوع: أي غوزمان، الشهير بـ "إل تشابو".
وحتى مع القبض على غوزمان فقد زاد تدفق المخدرات ويزيد بوتيرة مطردة.
فرغم اختفاء غوزمان وغالاردو من الساحة فإن أرثهما لم ينتهي بل ازداد سوءاً.