رغم أرقام المشاهدات العالية التي تنشرها المحطات عن المسلسلات والإعلانات التي لا تتوقف خلال الحلقات والتقارير عن أجور الفنانين المليونية، فإن منتجو الدراما المصرية لم يعد يروا الأمر مغرياً كما كان في السابق. تغير الظروف المحيطة بالإنتاج سياسياً واقتصادياً، وحتى تبدل سلوك القنوات التلفزيونية، أدت إلى خلافات كبيرة في الوسط الفني وصلت إلى حد زج بعض المنتجين في السجن.
المنتج والممثل تامر عبدالمنعم أوضح مثال على ذلك، إذ يواجه عبدالمنعم كابوساً حقيقياً بعد فشل كل مساعي الصلح بينه وبين المغني محمد فؤاد، الذي قاضاه بتهمة تحرير شيكات من دون رصيد، على خلفية مسلسل "الضاهر". وأيدت محكمة الاستئناف منذ أيام حكماً صدر، في فبراير/شباط الماضي، بحبس عبدالمنعم ثلاث سنوات.
الضاهر يقسم ظهر تامر عبدالمنعم
تعرَّض تامر عبدالمنعم لصفعة مدوية حين قرَّر إنتاج مسلسل "الضاهر" منذ سنوات. فرغم تأييده للنظام السياسي المصري، فإن الشؤون المعنوية للجيش رفضت منحه التصاريح المناسبة للتصوير.
علّق تصوير المسلسل لفترة طويلة، نظراً لحساسية القصة التي يتناولها، وهي لضابط يقع في عشق يهودية فيسقط في العديد من المشكلات.
وبعد الإفراج عن التصاريح اللازمة، توقف التصوير عدة مرات، وحتى الآن لم يعرض المسلسل بعد على أي قناة.
ولم تكن المرة الأولى التي يتعرَّض فيها عبدالمنعم لصدمة كهذه، فقد فشل الجزء الثاني من فيلمه "المشخصاتي" العام 2016 فشلاً ذريعاً، إذ لم يحقق إيرادات تصل حتى إلى 400 ألف جنيه.
ممدوح شاهين يختلف مع عمرو واكد ومي سليم
واكتوى المنتج ممدوح شاهين بنار ظاهرة مقاضاة المنتجين، إذ صدر بحقه هو الآخر منذ أيام حكم بالحبس لمدة 3 سنوات، لإدانته في قضية شيك دون رصيد، لصالح الفنان عمرو واكد.
وسبق لشاهين أن صدر ضده ثلاثة أحكام بالتعويض والحبس لصالح الممثل خالد الصاوي، على خلفية تعثر المنتج في سداد باقي مستحقات الصاوي عن عمله في مسلسلي " الصعلوك" و "دافنشي".
ومنذ عامين قضت المحكمة بحبس شاهين أيضاً 6 أشهر وكفالة 200 جنيه، لاتهامه بعدم سداد شيكات مستحقة للفنانة مي سليم، ولكنه تصالح معها وألغي الحكم. الأمر نفسه كاد يتحقق مع الفنانة اللبنانية هيفاء وهبي.
وهيفاء وهبي تتسبب في إصدار حكم ضد عاطف كامل
ولكن هيفاء وهبي اصطدمت مع منتج آخر، وتسببت في إصدار حكم عليه بالسجن سبع سنوات (عاطف كامل) لإصداره خمسة شيكات بلا رصيد (لم يتم الكشف عن قيمتها)، وهي باقي مستحقاتها عن أجرها عن مسلسل "كلام على ورق".
منتجو الدراما المصرية يفضلون "الخيارات المضمونة" بسبب الظروف المتغيرة
حالات كثيرة شبيهة مرَّت على المنتجين، ما جعلهم يشعرون بالخوف من المغامرة، خاصة بعدما اختلفت ظروف الإنتاج، كما سنعدِّدها لاحقاً في هذا التقرير، ما جعلهم يتمسكون بالخيار المضمون.
فتكرار ظاهرة مقاضاة المنتجين انعكست من خلال الإسهاب في إنتاج الأجزاء الثانية من المسلسلات.
وحسب ما يرى المراقبون، فإن المنتجين يراهنون على أعمال وجدوا فيها الحد الأدنى من النجاح لإنتاج أجزاء أخرى منها، بدلاً من المغامرة على أعمال نجاحها غير مضمون.
إقبال كبير على إنتاج الأجزاء الثانية لنجاحات سابقة
تعرَّض الجزء الثاني من مسلسل "كلبش" للفنان أمير كرارة لانتقادات لاذعة في الحلقات الأخيرة له، وصدرت حملة لمقاطعته بعد اتهامه بتلميع صورة الداخلية المصرية بشكل مبالغ فيه. إلا أن نجاحه في حصد مشاهدات عالية شهر رمضان الماضي، جعل صنّاعه ينتجون منه جزءاً ثالثاً سيعرض رمضان المقبل.
وينطلق تصوير الجزء الثاني من مسلسل "البيت الكبير" مطلع أكتوبر/تشرين الأول المقبل، من بطولة سوسن بدر وأحمد بدير ومنذر رياحنة.
وبعدها بشهر يبدأ تصوير الجزء الثاني من مسلسل "أبو العروسة" لسيد رجب وسون بدر، ليلحق المسلسل برمضان 2019.
كما بدأت التحضيرات للجزء الثالث من مسلسل الهيبة للممثل تيم حسن، بعدما انضمَّت له سيرين عبدالنور.
ويشارك الكوميديان المصري محمد هنيدي أيضاً في رمضان 2019 بالجزء الثاني من مسلسله الناجح "أرض النفاق"، إذ بدأ مؤلف المسلسل في كتابة الجزء الجديد.
وبدأ عرض الجزء الثاني من مسلسل "نصيبي وقسمتك" لمي سليم وكوكبة من النجوم، استغلالاً للنجاح الذي حقَّقه الجزء الأول.
كثرة إنتاج أجزاء ثانية من مسلسلات في مواسم متتالية بهذه الوتيرة، طرحت تساؤلات حول تأثير إنتاج أجزاء ثانية بدلاً من صناعة مسلسلات جديدة على الإبداع والمشهد الدرامي المصري. والسؤال الأهم، ما أسباب اختلاف ظروف الإنتاج التي دفعت المنتجين لهذا الخيار.
تغير مالكي القنوات والأهواء السياسية والفنية أثر على العقود والسيولة
المخرج أشرف فايق عدد لـ "عربي بوست" المتغيرات التي أصابت بيئة الإنتاج بسوء الحالة الاقتصادية في الوطن العربي، و "لعبة الكراسي الموسيقية" كما سمَّاها. وقال: "اليوم تجد شخصاً يمتلك قناة الحياة، وفي اليوم التالي يمتلكها شخص آخر، وبعد يومين شخص ثالث، ما أثر على عملية شراء المسلسلات".
وأردف في حديثه قائلاً: "لم يعد أحد يشتري المسلسل مقدماً كما كان يحدث في السابق". وأوضح أن التعاملات في السابق كانت تتم على الشكل التالي:
- يتوجه المنتج بالعقود المبرمة مع بطل العمل أو بعض الأبطال والمخرج والمؤلف للقنوات لبيع المسلسل الذي لم يصور بعد.
- تعرض القناة رقماً للحصول عليه حصرياً.
- وإن لم يرض المنتج بهذا المبلغ يتوجه لقنوات أخرى حتى يجد ما يرضيه.
- حينها يحصل على 30% من قيمة العقد مقدماً، ثم يبدأ التصوير قبل 4 شهور على الأقل من شهر رمضان وهو مطمئن.
القنوات التلفزيونية تستغل عامل الوقت و "تبتز" المنتجين
أما الآن، كما يضيف فايق، القنوات التلفزيونية لا تشتري المسلسلات إلا قبل فترة قليلة من رمضان، للضغط على المنتجين، وشراء المسلسلات بأقل ثمن ممكن.
تستغل القنوات عنصر ضغط الوقت، الذي بدوره يؤثر على فريق العمل لإنجاز المسلسل في وقت قياسي، ما يتسبب بمشاكل عديدة وأحياناً مأساوية، منها مثلاً وفاة مساعد مخرج رمضان الماضي بسبب ضغط العمل.
ويعتبر فايق أنه لم يعد هناك منتجون وأن الغالبية العظمى تحولوا إلى منتجين منفذين.
فالمنتج هو الشخص الذي يتحمل تكاليف العمل بالكامل حتى ينتهي. ثم يبيعه للقنوات بالسعر الذي يراه مناسباً، مثل محمد فوزي ووائل عبدالله.
أما المنتج المنفذ، فهو الذي يحصل على دفعة من الأموال من القنوات، وينتظر أن يحصل على البقية ليسدد أجور الممثلين والعاملين.
وأكمل المخرج: "أصبح المنتج يحرر شيكات لصالح العاملين في المسلسل ظناً منه أنه سيحصل على باقي مستحقاته عقب عرض المسلسل، ولكن القناة تتحجج بأن الأموال غير متوفرة حالياً، فيدخل في مشاكل مع القناة، ويتحرك العاملون على المسلسل ضد المنتج بموجب الشيكات المحررة، إذ لا يعنيهم تحصيله أموالاً من القناة من عدمه، فليس أمامهم سوى المنتج".
وملاحقة الخيار القانوني للمنتجين مع القنوات ليس خياراً عملياً هو الآخر، إذ إن مقاضاة القنوات المتأخرة في السداد يعني سلك مسار قانوني لسنوات طويلة، أي ما لا يقل عن 3 أو 5 سنوات. وبالتالي لن يكون المنتج قادراً على إنتاج أعمال أخرى في السنة التالية.
وما الحل؟ العرض بالعاجل والإنتاج بالآجل
وكشف فايق أن الكثير من المسلسلات التي حققت نجاحاً باهراً اتفق المنتج مع النجوم ألا يحصلوا على أجورهم قبل 6 أشهر. قبل العديد منهم لعدم وجود بدائل. حتى أصحاب المعدات التي يستأجرها المنتج لتصوير أعماله، باتوا يحصلون على مستحقاتهم بعد شهور، وليس أسبوعياً كما كان الوضع من قبل.
أما القنوات العربية التي تعرض المسلسلات المصرية بكثافة فلم تعد تدفع كالماضي، وفق فايق. وبرَّر ذلك بأن شركات الإعلان لم تعد هي الأخرى تلتزم بمواعيد سداد المستحقات، ما أدى إلى اختلال المنظومة كلها، ومواجهة المنتج جميع هذه العقبات المالية.
الأجزاء الثانية لا تكون أبداً بقوة القصة الأولى وحبكتها
واعتبر المخرج المصري أن جميع هذه العوامل المتغيرة خلف كواليس الدراما المصرية أدت إلى تهافت المنتجين على إنتاج أجزاء ثانية وثالثة من أعمالهم. يستثمرون بعض النجاح الذي حققته، بدلاً من المجازفة بأعمال جديدة، وهذا في رأيه يعصف بالإبداع، فالأجزاء الثانية لا تكون أبداً بقوة القصة الأولى وحبكتها.
وتابع لـ "عربي بوست": "المنتج يحاول استنفاد نجاح الجزء الأول، كما يريد أن يقبل النجوم بأجور أقل من الجزء الأول".
وأردف قائلاً: "لن تجد مخرجاً يفضل أن يخرج أجزاء ثانية من عمله الناجح، إلا من باب أكل العيش، فقد عرض علي عشرات المرات أن أنتج جزءاً ثانياً من فيلمي الزمهلاوية، ولكني رفضت".
لا تنجح الأجزاء الثانية من المسلسلات أو الأفلام من وجهة نظر أشرف فايق إلا نادراً، مثل "ليالي الحلمية"، لأنه دراما اجتماعية أنجب فيها الأبطال، فغطى ثلاثة أجيال، وظهرت شخصيات جديدة.
الجزء الثاني يجعل المسلسل في النهاية "مستهلكاً ومفلساً"
ويتفق معه في الرأي السيناريست والناقد الفني سمير الجمل، الذي يعتقد أن الأجزاء الثانية من المسلسلات هذه الفترة لا تقدم جديداً، ولكنها محاولة لاستغلال نجاح الجزء الأول وإطالة أمده، ما يجعل المسلسل في النهاية مستهلكا ومفلساً، على حد تعبيره.
وأضاف في حديثه لـ "عربي بوست"، أن المسلسلات حالياً تدور حول ثلاث أفكار لا أكثر، وهي: الانتقام والخيانة ومقاومة الشر بالشر.
واعتبر أن هناك قصوراً بالأساس في الإبداع، والإسهاب في إنتاج أجزاء أخرى سيزيد من حالة الفقر الإبداعي، ويعصف أكثر بصناعة الدراما، على حد قوله.
"كلبش 2" غرق في بحر المبالغات
وضرب مثالاً بمسلسل "كلبش" الذي رأى أنه كان جيداً في جزئه الأول، حيث دار حول ضابط يتصدى للشر أو يسقط فيه، لذلك تعلق الناس بالمسلسل.
ولكن في الجزء الثاني تحوَّل بطل المسلسل سليم الأنصاري لوزارة الداخلية نفسه، و "كأنه لا يوجد ضابط غيره، وفي كل موقف مساعد وزير الداخلية يشكره على إنقاذ البلد". لهذا اعتبر الجمل أن المسلسل غرق في بحر المبالغات حينما حاول منتجوه استغلال نجاح الجزء الأول.
وأخيراً.. بعض المنتجين يسيئون تدبير الميزانية
وعن ظاهرة تعثر المنتجين في الفترات الأخيرة، قال الجمل إن المنتجين لا يعلمون الميزانية الفعلية للمسلسل، وليس لديهم رؤية لكيفية تدبيرها، فإن حصلوا على مقدم من قناة يدخلون في إنتاج أكثر من مسلسل دون تخيل عن كيفية السداد.
ونعت الجمل الأمر كله بـ "سوء التنظيم والإدارة"، وقال: "يجب على كل منتج أن يؤمّن نفسه جيداً قبل الشروع في أي عمل، وأن يدرس كيفية تدبير النفقات والسداد حتى لا تكون نهايته الحبس، كما بتنا نرى مؤخراً".