أكثر ما يغيظني في المتحذلقين الذين يعتبرون أنفسهم أنهم من الطبقة المثقفة -إن صح الوصف- المهتمة بالروايات والسينما حين يبدأون في عمليات النقد المبالَغ فيها خلال مشاهدتهم أحد أفلام الخيال العلمي.
كنت أشاهد أحد أجزاء سلسلة فيلم "سيد الخواتم " عندما قال صديقي في امتعاض: "أقزام وعالم من جنّ.. ما هذا السخف!".
تمالكت نفسي وأخبرته بأن من يرغب في مشاهدة فيلم خيالي عليه أن يقبل قواعد اللعبة وإلا فعليه أن يخرج ويبحث عن فيلم واقعي أو حتى وثائقي يتناسب مع واقعيته وتفكيره.
وفي الحقيقة، حتى لا نذهب بعيداً ويعتقد البعض أنني أدعو إلى المشاهدة من دون أي نقد، فإن القبول بقواعد اللعبة أيضاً تربطه قوانين صارمة عند المُشاهِد المتابع -لا المتحذلق بالطبع- تُعرف لدى الكتاب والمؤلفين بالإيهام وعليهم ألا يخرجوا منها وإلا وقعوا في فخ الاستخفاف.
يقول أستاذ الإخراج مدكور ثابت، إن الإيهام عنصر مهم للفيلم، لكن مهما بلغ الإيهام من إتقان فله حدود، ويرى "ثابت" أنه من الاستحالة أن يدخل المشاهد للسينما كناقد ولا يندمج في الأحداث، فهناك دائماً درجة إجبارية من الإيهام وأخرى من اللاإيهام.
مثلاً، رغم كل الخيال الموجود في سلسلة "سيد الخواتم"، فإن هناك قواعد ومواثيق -غير ملموسة- يجب احترامها بين المُشاهِد والمؤلف، حتى مع وجود كل هذه الشخصيات والوحوش الغريبة في الفيلم فإنني مثلاً لن أرضى بأن يرى الأشرار "فرودو" بوضوح رغم ارتدائه الخاتم!
أيضاً، تبتسم بسعادة في أثناء مشاهدتك "سوبر مان" يطير في السماء، لكنك تشتاط غضباً وتتهم المخرج والكاتب بالسخف إذا ما تعرض سوبرمان لمادة الكربتونايت -وهي المادة الوحيدة التي تقتله، بحسب القصص- دون أن يموت أو يحدث له مكروه!
أيضاً، تناول الكاتب المصري أحمد خالد توفيق هذا الموضوع بشكل جميل في كتابه "اللغز وراء السطور"، حيث قال إن الإيهام عملية فنية في ذاته، فعند مشاهدة أحد الأفلام قد تبتلع بعض الأشياء التي لا يمكن ابتلاعها، لكن في الوقت ذاته لدى الإيهام قوانينه، التي لا يجب تجاوزها، فالقارئ يصدّق بعض الأشياء؛ لأنه يريد أن يصدقها، ولأنه يريد أن ينخدع، وهو ما عرفه في كتابه بــ"دعني أخدعك.. دعني أنخدع".
قد أكون قد بالغت في استخدامي وصف "متحذلقين"، إلا أنني أقصد به بالطبع من يعتقد نفسه مختصاً ومتابعاً جيداً لأفلام وروايات الخيال العلمي، وليس عامة الناس غير المهتمين بالأعمال السينمائية، فإذا كان يعتقد فعلاً أنه مهتم ومتابع ولا يفقه في نظريات الإيهام، وكذلك ما يُعرف بـ"التعطيل الإرادي لعدم التصديق"، فهذا يعني أنه فعلاً متحذلق..!
و"التعطيل الإرادي لعدم التصديق"، عبارة ابتكرها الناقد الأدبي والمسرحي "كولردج" عام 1817 رغم أنها قاعدة اعتبرها الكثيرون غير جيدة؛ لأنها تجبر القاريء -والمشاهد الآن- على تصديق أمور سخيفة في بعض الأحيان، وهو أمر وقع فيه الكثير من المخرجين، فبالغوا فيه بشكل أصبح فيه استخفاف بالمشاهدين.
عملية الإيهام واللاإيهام عملية معقدة وصعبة، تحتاج إلى حساسية كبيرة من الكاتب؛ حتى لا تنفلت الأمور من بين يديه فينتقده المتحذلق ويفقد ثقة المشاهد المتابع.
يقول أحمد خالد توفيق إن القارئ يقبل أن يخدعه المؤلف بمزاجه الخاص، لكن هناك لحظة ينقلب فيها عليه ويقتنع بأن كل ما يقرؤه أو يشاهده مجرد احتيال وسخف رخيص… وهذه أسوأ مرحلة يمكن أن يصل إليها أي كاتب ومؤلف.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.