كم مرة يمكنك أن تصادف في مترو الأنفاق فتاة تشاهد باستغراق مسلسلاً مصرياً؟
متى كانت آخر مرة تأثر المتفرجون بواقعية مسلسل، لدرجة أن يتسبب في نقاشات زوجية حامية عن التدرجات الدقيقة للخيانة؟
هكذا سبّب مسلسل "سابع جار" جدالاً اجتماعياً من بداية حلقاته الأولى، ثم لم يلبث أن بدأت ضده حرب شرسة من الجمهور، لأنه يشوه صورة الطبقة الوسطى المصرية، لكن هذا لم يمنع نفس الجمهور من الاستمرار في متابعته.
ولكن كيف استدرج المسلسل نساء الطبقة الوسطى المصرية بهذا الشكل، ولماذا بدأن في الانقلاب عليه؟
العمارة الحقيقية في المعادي
في منطقة شارع 9 في المعادي، تلك الضاحية المعروفة بالهدوء في جنوبي القاهرة، استأجرت شركة The Producers البناية بالكامل، في مغامرة درامية هدفها هو إعطاء أعلى قدر من الواقعية لإنتاج المسلسل، الذي تتوالى أحداثه عبر 60 حلقة، تُعرض على مدى 3 أشهر، وهو متطلب إنتاجي يواكب الخرائط البرامجية الربع سنوية للقنوات.
فريق الإخراج هو مغامرة أخرى، إذ اشتركت 3 مخرجات في العمل به، وكن على الخط الدرامي ذاته، دون أن تحدث بينهن مشكلات أو يتسبب اختلافهن في توقف تصوير المسلسل، كما جرت العادة في أي عمل تشترك فيه مجموعة من الأشخاص بنفس المهمة.
ونجحت المخرجات هبة يسري، ونادين خان، وآيتن أمين في إدارة هذا العمل، وتبين أن لهن رؤية ثاقبة حول توظيف الشخصيات، وأبرز دليل على ذلك كمثال استعانتهن بالمخرج عمرو سلامة الذي لم يظهر كممثل من قبل، لتقديم دور رجل متدين يريد الشئ وضده، وبقدم على فسخ خطبته من امرأة قال أنها تطابق حلمه بفتاة ملتزمة مطيعة، من أجل أختها التي لا يبدو أنها يمكن أن تخضع لأي سيطرة ولا يمكن أن ترتدي الحجاب!
نجاح المخرجات جاء عكس الظنون التقليدية عن طبيعة التنافس النسوي بسيناريو كتبته هبة يسري، وهي أقلهن تواجداً بالمشهد الفني سابقاً، فقبلها قدمت آيتن فيلم "فيلّا 69″، وقدمت نادين "هرج ومرج"، وكلا الفيلمين نالا إعجاب النقاد داخل وخارج مصر.
3 مخرجات مع أكثر من 100 ممثل وممثلة في بناية واحدة.. كيف أدمن الجمهور خلطتهن الدرامية؟
ما نوع صابون المطبخ؟
في أول مشهد بالمسلسل، ندخل إلى مطبخ الأم لمياء (دلال عبدالعزيز)، زجاج الصابون السائل نصف الممتلئة من نوع شائع في البيوت، نوع كيس الأرز والزيت المدعوم، الخلاط القديم، وأواني الطهي الناقصة.. المكان تعمه الفوضى كأي بيت مصري عندما لا يكون الوقت مناسباً.
في كل شقة بالعمارة هناك إصرار على هذا النوع من التفاصيل الصغيرة الواقعية، مثلاً السجادة بغرفة الجلوس في شقة دلال عبدالعزيز تظهر مثنية الأطراف، للدلالة على طول مدة استخدامها، وقطع القماش التي تضعها "جيلان"، زوجة عمرو، الذي يقوم بدوره هاني عادل، على رأس كراسي الجلوس حتى لا يبهت لونها من كثرة الاستخدام، كعادة أغلب البيوت المصرية.
يوميات في تلفزيون الواقع
الكاميرا لا تتحرك أبداً، وزوايا التصوير تعطي الأولوية لإظهار كل عناصر المشهد، هذه عناصر نراها عادة في تلفزيون الواقع الذي تصوره كاميرات ثابتة.
ومثل تلفزيون الواقع، لا توجد أحداث كبرى، مجرد يوميات عادية تفضي إلى نتائج منطقية، لقاء عابر عند المصعد، أو سيارة في غير موقعها قد يؤديان إلى لا شيء، أو أزمة عاطفية وخيانة، وكأن البناية هي حوض أسماك مكشوف للمشاهدين، والأسماك هي ما نعتبره ونطلق عليه "الطبقة الوسطى"، أو هي عينة من المشاهدين أنفسهم.
كلمة السر في إقناع المشاهد هي أن يظل زجاج الحوض شفافاً، ومحايداً.
دلال معلش
في رمضان 2017 شاركت دلال في حملة إعلانات خيرية لصالح "بيت الزكاة"، بهدف توصيل خطوط المياه النقية لقرى فقيرة في صعيد مصر، جاءت منها كلمة "معلش" رداً على عرض الفلاحة للمياه الملوثة التي تشربها وأسرتها يومياً.
"معلش" كلمة يستخدمها المصريون لعشرات الأغراض، واعتبرها الجمهور غير ملائمة في الإعلان، لكن عندما خرجت منها ذات الكلمة عفوياً في المسلسل خلال مشهد تواجد ابنها عبدالرحمن بالمستشفى، غرق الممثلون في ضحك خارج عن النص، وفضلت المخرجات ترك هذا الإفيه الرمزي للجمهور.
هذه العفوية سائدة بكل حوار المسلسل، فتقريباً المسلسل خالٍ من طرق الإلقاء التمثيلية التقليدية، كل الممثلين تقريباً يتحدثون بطرقهم الخاصة والعفوية.
نساء مسيطرات ورجال كوارث
المسلسل نسوي، لكنه ليس غامضاً، ولا حزيناً مثل الدراما النسوية التقليدية. الرجال هنا هم أقلية خاضعة لعالم البناية الذي تدبره النساء يومياً: المراهق المدلل عبدالرحمن (أحمد داش)، المحاصر تماماً وسط شقيقتيه ووالدته، والفتاة التي تتلاعب به.
زوج خالته الأفاق مجدي (محمود البزاوي)، وزوج ابنته "فؤاد" (محمود الليثي)، و"الرجل المُز" طارق (نيكولا معوض)، الذي يستجدي زوجته من أجل لحظة رومانسية بدون نكد.
حتى الرجال غير الخاضعين هم كوارث تمشي على قدمين: علي (محمد علاء) يتلاعب جيداً بعقل مديرته الناجحة، قبل أن تستدرجه هي إلى علاقة زواج منزوعة الالتزامات (أو هكذا يظن)، عمرو المصاب بالوساوس القهرية، وأحمد الذي يتسلل كل ليلة مثل الأطفال إلى سرير حبيبته الأولى.
أي امرأة مصرية يمكنها أن تشاهد هذا إلى ما لا نهاية: الانتقام والسخرية من الرجال الخانقين والمتحكمين في العالم خارج حوض الأسماك.
نجح هذا لدرجة أنه في جروب سري على فيسبوك مخصص لاعترافات النساء المتزوجات، جزمت إحدى العضوات بأن كاتبة المسلسل متواجدة بينهن، وتعبر بصدق عنهن. الحقيقة أن المسلسل تأثر بالكثير من موجات السوشيال ميديا، مثل موضوع الأم العزباء.
كوميديا العزاء
عندما تتوفى زوجة اللواء عصمت، يتكاتف سكان البناية لإتمام الطقوس الاجتماعية الواجبة، بنفس الليلة من المفترض أن تستقبل لمياء عريساً لابنتها دعاء (فدوى عابد)، وبالفعل يصل العريس أثناء العزاء، وعلى دعاء المتشددة دينياً أن تغير ملابسها من الأسود إلى الزيتي، لكن شقيقها عبدالرحمن (أحمد داش) يريد مشاهدة مباراة كرة قدم مهمة.
هوس الأم بالعريس، رفض العروس للتزين أمامه، والرغبة الملحة في متابعة المباراة، هذه كلها مواطن هوس شخصي تتعارض مع حدث العزاء، وهو ما يحدث طوال المسلسل في كل المناسبات الاجتماعية، هناك دائماً زاوية تظهر غرابة العادات والتقاليد، والمَشاهد يتابعها مَن خارج حوض الأسماك وكأنه زائر أجنبي.
هنا يكون المتفرج متقبلاً للسخرية من العادات، لكن تقبل هذه السخرية منه شخصياً يحتاج لعنصر جديد.
العدالة للمحجبات
في الأسابيع الأولى، هناك مساحة كبيرة للملتزمة/المتشددة دينياً دعاء، وهو شيء غير معتاد في الدراما التي تعامل المحجبات ككائنات غريبة، دعاء بتشددها تظل غريبة بالنسبة لمعظم المتفرجات، وكذلك وسط السيرك البشري من حولها، لكنها تنال فرصتها العادلة.. بشكل ما تفرح المشاهدات المحافظات لظهور شخصيات محجبة على النمط التقليدي، لكن العدالة هي ما دفعتهن لتقبل السخرية من النموذج بدون حساسيات.
ثم كيف انهار الزجاج؟
يبحث المسلسل عن تناقضات الطبقة الوسطى في مصر، ويصنع منها دراما ساخرة وحارقة، لكن هذه التناقضات لا تظل فقط في المستوى الشكلي الكوميدي، الخطوة التالية هي الاصطدام بتكوين الطبقة الوسطى، العاجز عن إيجاد حلول للتناقضات، المتفرج يطالب بالحلول، وهنا يتلون زجاج حوض الأسماك ويصبح العرض غير محايد.
مي (هديل حسن)، هي مثال للارتباك العاطفي في التناول النسوي التقليدي: حبيبها أحمد تركها وتزوج من أخرى، على رغبة أهله، بينما هشام شريكها بالعمل يكاد يحترق أمامها لإقناعها بحبه، وعندما يعود أحمد لشقة أهله تفقد توازنها، وبعد لقاء عابر أمام المصعد يتسلل إلى سريرها ليلاً.
من الممكن قبول القصة على أنها رومانسية، أو أنها خيانة قذرة، المسلسل يقدمها على أنها رومانسية من النوع القاسي، وقبلت المشاهدات تلقيها هكذا في البداية، لكن الجميع تجاوز صفة الحياد.
هالة تهشم الزجاج
يسعى علي إلى علاقة صداقة ذات مزايا جنسية (Friends with Benefits)، ترفض هالة (رحمة حسن)، لكنها تقنعه بعلاقة زواج محدودة الهدف بالإنجاب وبدون قيود عليه (No Strings Attached)، في الدراما الغربية يكون هذا الصراع عبارة عن منحنى درامي لوقوعهما في حب والتزام حقيقيين، وصل التغريب لذروته في لحظة اعترافها له (زوجها الآن)، بأنها حافظت على عذريتها طوال عمرها.
ربة البيت المحافظة، والفتيات المحجبات المتطلعات للرومانسية، ربما لا يصادفن هذه الفكرة في محيطهن الاجتماعي، والعلاقة مع المسلسل فقدت صفة الحياد، ولهذا لم يعد هناك المزيد من التسامح.
مع اقتراب هالة من هدفها (في الأسبوع السادس)، تصاعدت موجة الهجوم على المسلسل، فجأة أصبحت دعاء مضطهدة درامياً، والمسلسل ضد المحجبات، يشجع الفتيات على التدخين والرذيلة، طارق حشاش وخائن، لم يعد أحد يتحمل الألفاظ المتكررة منذ أول حلقة، وفجأة لاحظ الجميع أن الحشيش جزء أساسي من بعض الشخصيات.
تهشم زجاج الحوض، الأسماك والمياه سالت لتغرق بيوت الطبقة الوسطى المصرية.