انتهيت قبل أيام من مشاهدة الحلقة الحادية والتسعين والأخيرة من الجزء الثالث لمسلسل قيامة أرطغرل، والذي أنتجته القناة الأولى التركية (تي.ري.تي.1) بدءاً من عام 2014 حتى عام 2017، علماً بأني كنت قد بدأت بمشاهدة أولى حلقاته قبل قرابة ثلاثة أشهر سعياً لسبر أغوار تلك الشخصية من خلال هذا المسلسل الذي لقي بأجزائه الثلاثة صيتاً ذائعاً وشهرةً واسعةً بين المتابعين من الجمهور التركي والعربي وغيرهم، حتى بلغ عدد مشاهدات المسلسل ما يقارب السبعين مليون مشاهدة على مستوى العالم.
وكعادة شعوبنا في البحث عن ذاك المخلص الذي لم يأتِ بعد لينقذها من لعبة الأمم، فقد جذب المسلسل الجمهور من خلال بطل المسلسل الأمير الغازي أرطغرل بك بن سُليمان شاه القايوي التُركماني، الذي استطاع صناعة مجد قبيلته والتمهيد لظهور الخلافة العثمانية على يد ولده الغازي عثمان فيما بعد.
عرض المسلسل من خلال حلقاته الكيفية التي كانت تتبعها القبائل لتأمين سبل عيشها، مثل الصيد والرعي والبحث عن مصيف ومشتى آمن يوفر لها مقومات الحياة التي تحتاجها القبيلة وأفرادها، بالإضافة لتجنب مناطق الحروب والنزاعات بحثاً عن مواطن أكثر أماناً ذلك أن قبيلة الكاي وغيرها من قبائل أتراك الأوغوز نزحوا من شرق إيران إلى الأناضول، هرباً من الغزو المغولي، وصولاً إلى المناطق المحيطة بحلب، ومن ثم تحولوا نحو الحدود الغربية للدولة السلجوقية، وكما تطرق المسلسل للهيكل العام للقبيلة، بدءاً بزعيم القبيلة، ثم مجلس الأسياد، ومن ثم للعامة والجنود المقاتلين، وذكر تفاصيل جميلة عن الحياة اليومية للقبيلة برجالها ونسائها ودور كل فرد من أفراد القبيلة في سير الحياة اليومي، بالإضافة لعلاقات القبيلة السياسية مع الدول المحيطة وصراعاتها العسكرية كذلك، كما لم يغفل المسلسل عن ذكر دور الخونة في كل قبيلة في تقويض خطط القبيلة للاستقرار.
الجميل في المسلسل والذي شد انتباه المتابعين له حتى الحلقة الأخيرة هو قدرته على إبراز الدور البطولي لأرطغرل، والد عثمان الأول مؤسس الدولة العثمانية، في تزعمه لقبيلة الكاي، وحرصه على دعم دولة السلاجقة من خلال تقوية لحمة القبائل التركية وسعيها للتوحد، بالإضافة لدور القبيلة في مقارعة المغول في تلك الفترة، وصدهم عن المنطقة، وتعاونها مع غيرها من القبائل التركية الأخرى آنذاك في حماية الحدود الغربية للدولة السلجوقية، وهذا مما أثبته التاريخ ورواه العديد من المؤرخين بروايات مختلفة ومتباينة أحياناً، فجاء سيناريو المسلسل الذي كتبه المنتج التركي محمد بوزطاغ بوقائع درامية خيالية أسطورية غير تاريخية خدمت الواقع العام للمسلسل في التعبير عن القيم العامة للقبائل التركية، المتمثلة في البطولة، والشجاعة، ونصرة المظلومين، والدفاع عنهم، بالإضافة لمعاني المروءة والكرم والوفاء والرحمة، والتعلق بالشيخ أو الرمز الروحي، الذي يوجه القائد، ويمنحه العزم والطاقة الإيجابية التي تمكنه من تجاوز الأخطار، وتخفيف الآلام، والتهوين من المصائب، ومن هنا نستطيع القول بأن المسلسل يعتبر تحفة درامية فنية في عصر اتخذ من التفاهات فناً وقيماً.
هذه الأسباب وغيرها كانت سبيلاً لترويج المسلسل وإقبال الجماهير عليه، رغم أن كل حلقة تستغرق ما يقارب الساعتين والربع، بحيث يكون مجموع حلقات المسلسل الحادية والتسعون حلقة ما يقارب مائتي ساعة، وبحسبة بسيطة نستطيع القول بأنه لو أراد المتابع أن يشاهد حلقة واحدة كل يوم فإنه يحتاج مدة ثلاثة أشهر متواصلة لإتمامه.
ومع هذا النجاح الذي حققه المسلسل، إلا أن هناك عدة مآخذ على المسلسل، ذلك أنه وباعتبار أن قبيلة الكاي وغيرها من القبائل التركية الأخرى تعتبر من القبائل الرحل التي لم تمكث أمداً طويلاً في مكان واحد، فإن هذا الأمر شكل تحدياً واضحاً للمؤرخين في كتابة تاريخها وتفاصيل حياتها الطويلة، ورغم ذلك فإن كاتب سيناريو المسلسل استطاع رغم ذلك صناعة حكايات أسطورية ودرامية للغازي أرطغرل وجنوده وقبيلته في إطار خرج عن الحقيقة بمراحل وأقحمه في عالم الخيال والأسطورة من ناحية الأحداث وتسلسلها وطريقة سير المعارك والتخطيط لها والانتصار فيها، والخروج منها بأقل الخسائر بعد القضاء على الطرف الآخر تماماً، بالإضافة لصناعة أحداث متكررة وشخوص لم يعرفها أرطغرل ولم يأتِ على ذكرها التاريخ، وكما ذكر الكاتب رودي ليندر في كتابه "البدو والعثمانيين في الأناضول في العصور الوسطى"، "فإنه لا يوجد فعلياً أي شيء معروف على وجه اليقين بخصوص حياة أرطغرل"، علماً بأن هناك خلافاً كبيراً بين المؤرخين الأتراك حول أسماء إخوة أرطغرل وعددهم، وليس هناك أي دليل على لقاء أرطغرل بابن العربي، ولن أخوض هنا بالشطحات الصوفية التي لا يسوغها المشاهد، ولا يستطيع أن يصدق أن نفخة من ابن العربي تمضي عبر سكون الليل لتصل لأرطغرل فتكون سبباً لخلاصه من السم الذي أصابه.
الأمر الآخر هو التقليل من شأن حاكم حلب الأيوبي، الملك العزيز، إلى الدرجة التي جعلت منه ساذجاً مغفلاً يتحكم به فرسان المعبد ويديرون قصره، وكذلك تعظيم دور الأمير السلجوقي سعد الدين كوبيك، وحبكه للمؤامرات المتكررة وتأليب القبائل على بعضها، رغم علم السلطان السلجوقي علاء الدين كيكباد وسكوته على ذلك، الأمر الذي لا يقبله عقل، ولا ينطوي على ذي لب.
ورغم أن بعض الأعمال الدرامية التاريخية العالمية عرضت التاريخ كما جرى دونما تركيز على الخلط الدرامي مثل فيلم الرسالة الذي استقطب نسب مشاهدة عالية، وترجم لعدد من اللغات، فإن مسلسل قيامة أرطغرل لم يخضع لمراجعات تاريخية تعرض التاريخ دونما تشويه أو مبالغات تستغفل المشاهد وتصور بطولات لم تحدث، وتصنع قصصاً لم تكن يوماً ما، الأمر الذي يفرض علينا صناعة أعمال درامية تروي التاريخ، كما كان للمشاهد دون إسراف في التفاصيل ولا تفريط في الحقيقة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.