على مدار فترة زمنية قصيرة بالجمعية المعمارية بلندن خلال الثمانينيات من القرن الماضي، كانت مياه بيرير المتلألئة رائجة. ولم يكن الهدف منها هو الشراب، بل كان يتم استخدامها في مزج ألوان الأكريليك.
وكان الطلاب يراقبون في رهبة محيرة إلى حيث تم إلقاء مجموعة من الزجاجات الخضراء بصلية الشكل إلى أعلى نحو الأستوديو الموجود بالطابق الثالث، حيث كانت زها حديد منشغلة في إعداد لوحة لأحد المعارض، وكانت اللوحة عالماً من المناظر المنحرفة والأشكال المسننة التي تسعى وراء الحرية، وفق ما ذكرت صحيفة الغارديان البريطانية.
نفس السحر
أمِل مساعدوا زها حديد أنهم إن استخدموا نفس المياه الغازية، فقد تمنح أعمالهم نفس السحر الذي تبدعه زها. ومع ذلك، فقد اعترفت حديد في وقت لاحق بأن الزجاجات كانت تحتوي على مياه صنبور؛ وكانت مجرد وسيلة يقوم من خلالها مساعدوها بنقل الماء من البار بالطابق السفلي.
وتتذكر الفنانة ماديلون فريسندورب، التي عملت مع حديد خلال ورش عمل الرسم في السبعينيات وعرفتها على الألوان الزاهية بدلاً من درجات اللون الرمادي والبني اللتين كانت زها تفضلهما: "حتى حينما كانت زها طالبة، كانت هناك هالة أسطورية حولها. كانت كائناً رائعاً عادة ما ترتدي طبقات متأنقة من الأوشحة والريش وأحذية بيرسبكس. وكانت تعتاد حرق أطراف لوحاتها. وكانت اللوحات تبدو كالكنوز المستقبلية التي تم التنقيب عنها في باطن الأرض. كنت أحب لوحاتها ولكني لم أحاول فهم معناها".
وقد يكون لدى زوار معرض سربنتاين ساكلر نفس رد الفعل. وبعد وفاة المعمارية العراقية التي جابت العالم بتسعة شهور جراء أزمة قلبية في ميامي عن عمر يناهز 65 عاماً، تم عرض إنتاجها المبكر من اللوحات والرسومات الرائعة – التي تم العمل عليها قبل الانتهاء من أول مبانيها عام 1993.
وتمتلئ الصفحات الموجودة بمتجر كينسنجتون جاردنز، الذي حولته حديد إلى معرض ساكلر عام 2013، بالطاقة المتفجرة، حيث تم عرض أركان كراسات الرسم الخاصة بها للمرة الأولى على لوحات الكانافا بارتفاع 3 أمتار.
ويوفر المعرض رؤية منقطعة النظير للعملية الإبداعية خلال السنوات الأولى من عمل الفنانة، ويكشف عن كيفية دمج الخطوط الغريبة ضمن أعمالها، التي تمثل عالماً سرياً من النقاط والحركات والدوائر التي تتطور تدريجياً إلى عمل فني. ومثلما تخترق الحيوانات المنوية البويضة، تشق ذبذباتها طريقها إلى الشكل الجنيني للمنظور الداخلي أو إلى الفكرة المتعلقة بكيفية شغل أي مبنى لموقع ما قبل الانتقال من الصفحة وبدء الرسومات واللوحات الجدارية.
ويذكر مدير المعرض هانز أولريتش أوبريست، الذي رغم تعاونه مع حديد على مدار 20 عاماً، لم ير كراساتها الفنية سوى خلال محاضرتها أثناء الفوز بالميدالية الذهبية الملكية RIBA في وقت سابق من هذا العام "حينما فتحنا صندوق الكراسات، شعرنا بأننا نرى بطارية تحتوي على طاقة هائلة. لقد كان اكتشافاً رائعاً حينما رأينا هذا المستودع الهائل من الأفكار التي تقف وراء أعمالها، وتتنبأ بالعصر الرقمي قبل ظهور الحاسب الآلي بوقت طويل".
وبينما اشتهرت مباني حديد بالأشكال المتعرجة الناجمة عن الحاسب الآلي، كما لو كانت قد تم نحتها من خلال كريمة مخفوقة ذات أطراف مدببة، كانت أعمالها الأولى مفعمة بالزوايا المتقاطعة والأشكال الهندسية الحادة التي تشتهر بها العمارة الروسية. وكانت ترى أن الحداثة مشروع لم ينته. وفي الوقت الذي تصاعدت فيه المعارضة النقدية الأدبية، قالت إنها وجدت أن الأفكار التجريبية الروسية توفر منجماً من "الابتكارات التي لم تخضع للاختبار وتمتلئ بالتعقيد والنشاط". وذكرت معلمتها السابقة ريم كولهاز أثناء ذكرى تأبينها التي أقيمت في كاتدرائية سانت بول خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول "أخذت زها مادة العمارة وحولتها بلمساتها الشخصية على مدار 50 عاماً إلى لغة معمارية تناسب القرن الحادي والعشرين بكل سهولة ويسر، كما لو كانت صادرة عن علبة رش".
أسابيع وشهور
لم تكن علبة رش، بل فرشاة دقيقة هي التي أنتجت هذه اللوحات الرائعة، التي تحظى بدقة المصغرات الفارسية، التي يتعامل معها فريق من المساعدين على مدار أسابيع وشهور.
وتذكر شومون بسار، التي التحقت بمرسم حديد في منتصف التسعينيات بينما كانت متخرجة حديثة من الجامعة في العقد الثالث من عمرها، أن المكتب كان كورشة عمل أحد فناني عصر النهضة، وكانت اللوحات نتاجاً لجهود جماعية كبرى، وغالباً ما كان العمل متركزاً في وقت متأخر من الليل.
وتقول بسار، التي تضمنت جهودها نقل حديد من مكان إلى آخر بردائها الأسود: "في منتصف الليل تقريبًا، كانت زها تبدأ في الاستقرار. وكانت تدعو أحدنا لتصفح لوحاتها الأخيرة ولا تذكر سوى كلمات قليلة للغاية وكنا نقوم بتصويرها وتطوير كل فكرة من الأفكار في لوحة فنية. وفي الصباح التالي، كانت تعود وتخبرها بأي اللوحات قد أعجبتها وأيها لم تعجبها".
وكانت اللوحات نتاجاً لجهود تعاونية يتم بذلها خلال عمل شاق يتمثل في النقل والتكبير ورسم خطوط بدقة 0.35 مم على ورق شفاف، ثم استخدام المشارط في تسويد تقاطعات الخطوط قبل شفها للمرة الأخيرة ونقلها على لوحات الكانافا باستخدام ورق الفحم. وكانت حديد توجه مساعديها من خلال الترغيب والترهيب وكانت موجودة دائماً لرسم الأجزاء الرئيسية بنفسها.
وقالت بسار: "يقول الناس إنه يمكنك التعرف على اللوحات التي رسمها رمبراندت بنفسه، وأعتقد أنك ترى لمسات زها بلوحاتها. فقد كانت بارعة للغاية في صنع درجات الألوان، بما يجعل الانتقال بين الألوان بسيطاً للغاية".
ويبدو أن الانتقال بين الألوان يمثل جزءاً رئيسياً من معجم حديد. فالأرضيات تنتقل إلى الجدران والمساحات العامة إلى مساحات خاصة والسماوات الزرقاء إلى اللون القرمزي.
ويظهر الانتقال بين الألوان بكراسات الرسم، بالإضافة إلى الرموز التي تسند لها أسماء معينة، وهي رموز مرئية يمكن أن تتطور يوماً ما إلى جدران مائلة لمبانيها.
وتذكر فريزندروب أنها "ابتكرت كلمات عديدة لأنها لم تتمكن من تذكر الأسماء الفعلية لأي شيء وأي شخص. وكان العاملون الجدد بالمكتب يُعرفون دائماً باسم "بوبسي" لحين التوصل للقب أكثر ملاءمة. وتضمنت أسماء مساعديها ليكي وسليزي ويون وبوتيتو ورومان وكلينتون – وكان للاسم الأخير علاقة بالمتدربين.
وامتدت ألعاب القوى إلى عملائها أيضاً. ففي كتاب الذكريات الذي تم نشره من أجل المعرض، يتذكر أحد العملاء كيف هددت حديد بعدم الالتفات لافتتاح المبنى حينما شهدت قائمة الصحفيين المدعوين ورفضت في البداية صعود السلم لتناول العشاء.
ويصف صديقها بريان كلارك لقاء مجموعة من العملاء اليابانيين الذين كانوا ينتظرون ظهور حديد بمنزلها ويحاولون الجلوس على أحدث أريكاتها، "حيث كانوا يلوون أعناقهم بكل أدب أو يحاولون تجنب التزحلق على ممرات الفيبر جلاس أو التوازن دون سقوط بجوار درج السلم". وحينما ظهرت حديد في النهاية، "تبعتها سيدة تحمل مقعداً تقليدياً كي تجلس حديد عليه وقد فعلت".
وكان معرض سيربنتاين يعتبر معرضاً للفنون الجميلة، ومن ثم، فلا يوجد نص يساعد على توضيح ماهية ما تنظر إليه من لوحات، ولكن تطور حديد من حيث الأسلوب كان واضحاً للغاية. وبدءاً من مشروع تخرجها، بعنوان "ماليفتش تكتونيك" عام 1977 – وهو مقترح بناء أعلى نهر التايمز يمكن أن يأتي مباشرة من الثورة الروسية – يوضح المعرض كيف أن الأشكال الهندسية الناجمة عن تأثيرها المعماري المبكر أصبح أكثر تمرداً تدريجياً بمرور الوقت. ويضم تخطيط متحف القرن التاسع عشر عام 1978 لمسات الفنان التكعيبي التي يفضلها كولهاز، وبعد عامين فقط، وخلال مقترح لبناء مقر إقامة رئيس الوزراء الأيرلندي، امتدت أشكالها الهندسية في الفضاء، بما هدد بنقل مقر رئاسة الوزراء الأيرلندية إلى بعد جديد.
مقترح فائز بجائزة
وخلال الثمانينيات من القرن الماضي، كانت اللوحات تصف المناظر الطبيعية المقسمة المفعمة بالقشور الفخارية والمسطحات وتكبير الأجسام نحو زوايا متعددة، كما لو كانت تمر من خلال ثقب ضيق. ويوضح مقترحها الفائز بجائزة خلال إحدى المسابقات عام 1983 لصالح نادي Peak Leisure في هونغ كونغ انفجار المبنى خلال عاصفة ثلجية من الحلوى.
وتتراقص الصور المختلفة لأحد مشروعاتها في هامبورج عام 1989 مثل القوارب المبحرة التي تهزها الرياح، وتنهار الواجهات والمقاطع والمخططات بعد ارتطامها ببعضها البعض مثل صف من مكعبات الدومينوز. وتبدأ في فهم مخاوف العملاء من بناء هياكلها، نظراً لأنها فضلت وصفها بأنها تتحطم إلى قطع صغيرة.
ويذكر نيغل كوتس، أحد الفنانين المعاصرين لها: "كانت هياكلها الأصلية تبدو دائماً أثقل مما كانت تريد". ولم يخضع الصلب والخرسانة مطلقاً لإرادة الفنانة التي تتحدى الجاذبية. ومع ذلك، جاءت الثقة تدريجياً ولحق بها الحاسب الآلي؛ وحينما توفيت، كانت حديد قد انتهت من 56 مشروعاً في 45 مدينة حول العالم، بدءاً بمقر شركة BMW في ليزبيغ إلى مركز حيدر ألييف في باكو، بأذربيجان. وتم افتتاح معرضها للحساب المستقبلي بمتحف العلوم هذا الأسبوع؛ ولا يزال نحو 30 من مشروعاتها لم تُستكمل بعد. ومنذ وفاتها، تراجع العملاء واستغنى المكتب عن بعض العاملين نتيجة لذلك. وتم حالياً وقف خطط نقل العمل إلى المبنى السابق لمتحف التصميم في شاد تيمز بلبندن؛ ومن الأرجح أن يتم بيع الموقع.
سيكون طريقاً وعراً أمام الشركة، ولن تُسهّله الأعمال العامة الأخيرة لمساعد حديد على مدى فترة زمنية طويلة ومدير الممارسة باتريك شومخر، الذي دعا في برلين خلال الشهر الماضي لإلغاء الإسكان الاجتماعي وخصخصة المدن.
وقال صديق مقرَّب من حديد كان من بين جمهور الحاضرين: "شعرت بالغضب الشديد بنهاية كلمته. كانت مؤلمة حقاً. ما كانت زها ستوافق على أي مما ذكره". وأصدر أوصياء مؤسسة زها حديد ومديرو أملاكها بياناً شديد اللهجة رداً على ذلك، نصه كالتالي: "يمكننا من خلال معرفتنا بزها أن نصرح بأنها كانت ستعارض هذه الآراء مطلقاً. ونحن شخصياً لا نتفق مع هذه الآراء". وجاء الرد قائلاً إن رأي شومخر: "لا يعكس ماضي زها حديد المعماري، ولن يمثل مستقبلنا".
انضم شومخر إلى الشركة عام 1988 وساعد في استحداث تقنيات التصميم من خلال الحاسب الآلي والتوسع في مجال العمل والوصول إلى العالمية. ومع ذلك، فقد رأى بعض النقاد أن تقنيات وضع النماذج الخاصة به ونطاق الممارسة قد شهدت تراجعاً في حجم العمل عما كان عليه الحال في الماضي.
ويكاد ينتهي بناء مبنى سكني فاخر بجوار هاي لاين في نيويورك. وهناك مبنى زجاجي هائل قيد الإنشاء في دبي على شكل مكتب، ولكنه أصبح مبنى سكنياً به تجويف متموج في المنتصف، وهو شكل هندسي لا يمكن مضاهاته من خلال اللوحات المستطيلة اللامعة.
وذكر أحد أصدقاء زها: "كانت بعض الأشياء التي أنتجها المكتب مؤخراً أقل جودة. وكانت زها ستتخلص منه. ولا أعتقد أن الأبراج التي تم اقتراحها قد أعجبتها. وتواجه الممارسة الآن نفس التحدي الذي يواجهه بيوت الموضة مثل ألكسندر ماكين أو إيف سان لوران للحفاظ على حجم الإنتاجية بنفس الأسلوب المبتكر والحقيقي. وتتمثل الخطورة في أن تصبح زها مجرد علامة تجارية يمكن الاعتماد عليها. فلو كانوا حكماء، لفكروا جيداً في ماهية تراثها".
- هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.