كلما ذهبت إلى وسط بروكسل، وتحديداً المنطقة الحيوية ما بين "رو نوف" و"الجراند بلاس"، أكاد اصطدم كل عدة أمتار بأحد المبشرين! تجده يقف بمفرده وهو يرتدي بدلة سوداء مع ياقة بيضاء ظاهرة وفي يده الإنجيل بالطبع، وقد تجده مع مجموعة ومعهم حامل يرصون عليه كتب التبشير بالفرنسية والهولندية والإنجليزية، ويعترضون الرائح والغادي.
وهؤلاء المساكين ينتمون في الغالب لأحد الاتجاهات المسيحية المتطرفة وعلاقتهم بالكنيسة الرسمية غير واضحة، ولكن لديهم الآن تركيز عجيب على اللاجئين، فما أن يلمح سحنتك الشرقية حتى يتقدم منك بابتسامة عريضة وهو عازم على قطع حبل أفكارك، وفي هذه اللحظة بالذات تخطر في بالي أم كلثوم، وكأنها تغني "متبشرنيش ما خلاص"، فيقول لك أو لي: "لو سمحت يا أخي هل أجد عندك دقيقة واحدة واحدة للرب؟"، ونصيحتي هنا خاصة للجدد في بروكسل بضرورة البعد عن كل مَن يلقاك بابتسامة عريضة دون معرفة سابقة!
أما عن المبشرين وابتسامتهم فالأفضل أيضاً أن لا تقف له، وأن تواصل سيرك كما كنت، ولا مانع من أن تقذفه باعتذار سريع وأنت تبتعد عنه، والبعض قد يتفاكه ليؤذي مشاعره أو مشاعرهم! وقد سمعت مرة أحد المارة يجيب قائلاً: "للرب! ولا ثانية. إنه لا يستحق!"، مثل هذه الإجابة تزعج مَن يسمعها من المارة، فلا داعي لها ولا لما يشابهها، في الغالب هذا المبشِّر وأمثاله لا يعتقد ولا يظن أنك ستتبعه مباشرة وإلا لخاف منك وظن بك الظنون، هو فقط يريد الحوار ويعتبره نجاحاً له، وسواء كنت لاجئاً أو مقيماً أو زائراً، فالأفضل في كل الأحوال أن تتجاهله ولا تقف له، أنا أفعل هذا الآن، وأقول هذا لنفسي أولاً ولزائري بروكسل أو اللاجئين إليها من العرب والمسلمين.
قديماً أثناء دراستي في ألمانيا كان يمكنني الحديث مع أحدهم لدقائق طويلة ودون ملل من الجدال وعنفه، أذكر مرة أن أحدهم وكان ألمانياً ظل يكلمني عن الخطيئة الأصلية، وكيف أن الله غضب على آدم وحواء وطردهما من الفردوس، وظل وبنوه من بعده حاملين لهذه الخطيئة الأصلية، وفي النهاية بعث ابنه يسوع فتعذب وصُلب ليخلصنا، بالطبع دخلت معه في جدال طويل لكن مألوف.
وقلت له بحماس الشباب واندفاعهم: "يا أخي، أنتم كألمان أهل منطق فكيف تؤمنون بإله يأتي بتصرفات غير منطقية، ما الداعي لكل هذا اللف والدوران، آدم غلط وعوقب بالطرد من الجنة وانتهينا، فما ذنب بقية الأجيال؟ ولو فرضنا أن لهذا الإله ابناً، وهذا غير منطقي أيضاً، فلماذا يترك الآخرين يعذبونه ويصلبونه فقط حتى يخلص هؤلاء الآخرين من جريرة آدم التي لا ذنب لهم فيها، لو كان إلهاً منطقياً لغفر من البداية وأراحنا من هذه العملية الدموية، وخلصنا من هذا الموضوع وارتحنا من العداوات المستمرة ومن المبشرين الأغبياء"، بالطبع كاد أن ينتهي الأمر بشجار، ولكننا اكتفينا بالعداء القلبي.
ولأن مثل هذا السيناريو كان يتكرر كثيراً كنت أضطر لقطع الموضوع وإنهائه بأي طريقة، أتذكر خلال دراستي في ألمانيا أنني كنت أتردد كثيراً على مكتبة معهد اللاهوت في الجامعة، وفي إحدى المرات أعجبني كتابان، كان أحدهما بمثابة توثيق لعلاقة ديلسيبس (صاحب مشروع قناة السويس) مع البعثات التبشيرية في القرن التاسع عشر، خصوصاً التي كانت تخطط لطريق الحواريين، أما الكتاب الآخر فكان عن تاريخ المبشرين في العالم كله، حياتهم وأعمالهم وكنائسهم، فقررت استعارة الكتابين وتصويرهما لمشروع محتمل خطر ببالي في لحظتها، وعندما خرجت من المكتبة جلست في الحديقة المجاورة التي تفصلها عن مكتبة الدراسات الإسلامية، وما إن جلست حتى جاء أحدهم، كنت رأيته قبل أن أجلس وعرفت ماذا يفعل، ولأن أحداً لا يقف له، فبالتأكيد سيأتي إليّ، وقد كان.
فجلس بالقرب مني، وقال لي كالعادة: "هل ممكن أسألك عن شيء ما؟"، ولأنني كنت أبحث عن تسلية، قلت له "تفضل"، فسألني إن كنت أعرف يسوع المخلص، قلت: "طبعاً أعرفه كأنه صديق مقرب لي، فأنا أدرسه وأعايشه ليل نهار"، قال: "كيف؟ ولماذا؟"، فقلت أعابثه: "ربما لا تعلم أنني أستاذ مصري متخصص في مقارنة الأديان، وأنا هنا كي أعطي ثلاث محاضرات عن "مخطوطات نجع جمادي"، وعن أن أناجيل برنابا ومارية المجدلية ويهوذا الإسخريوطي، وحتى إنجيل رمسيس، كلها تعطي صورة أصح للمسيح وأقرب للحقيقة من تلك التي في الأناجيل الأربعة الرسمية لدى الكنيسة"، ثم سكت ونظرت إليه متخابثاً أنتظر تعليقه، ولكنه سكت وطال سكوته، ثم وقف مستأذنا، وقال إنه مضطر لقطع الحديث؛ لأن لديه موعداً آخر، ونفد بجلده!
الآن لم تعد لدي هذه القدرة على المعابثة، ربما لأنني أصبحت، بعد الخمسين، سريع الملل وأسرع من ذلك في البعد عن الجدال والنقاشات الطويلة، ولذا عندما أرى أحد هؤلاء المبشرين قادماً باتجاهي لا أجد إلا الحل الكلثومي الجميل "متبشرنيش ما خلاص أنا فاض بي ومليت"، ومن ثَم أتجاهله ولا أقف له ولو لثانية واحدة، وحتى الاعتذار عن ذلك لم يعد في مقدوري.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.