مستدعيا ذاكرة جيلٍ من مناضلي اليسار المغربي، قدم المخرج عبد القادر القطع أمام نقاد السينما والصحافيين فيلمه الجديد "نصف السماء"، والذي يستعرض تداعيات الاعتقالات السياسية في حقبة "سنوات الرصاص"، التي امتدت من الستينيات إلى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي.
إستدعاء لذاكرة اليسار
وفي محاولة لاستدعاء فصول الذاكرة الأليمة، عرض القطع معاناة تلك المرحلة من خلال سيرة آلام ومكابدات من هم خارج السجون، فأبناء وزوجات وآباء المعتقلين ظلوا يعيشون علاقة توتر مستمرة، يحصون الأيام في انتظار طويل لحرية رجال دفعوا غالياً ثمن اختياراتهم السياسية والفكرية.
عبد القادر القطع، السينمائي المعروف بتوجهاته الحداثية المناصرة للحريات وحقوق الانسان، يعيد سرد الحكاية بصرياً. وهو ليس الأول في ذلك، فقد انفتحت السينما المغربية قبل سنوات على مسألة ماضي انتهاكات حقوق الانسان وواكبت اتجاه الدولة والمجتمع نحو المصالحة مع هذه الذاكرة الجريحة، من خلال العديد من الأفلام على غرار "جوهرة بنت الحبس" لسعد الشرايبي، و"درب مولاي الشريف" (أحد اشهر المعتقلات السياسية المغربية) لحسن بنجلون، و"ذاكرة معتقلة" لجيلالي فرحاتي وغيرها.
الزوجة المناضلة
الجديد في فيلم عبد القادر القطع هو عرض أحداث الاعتقال بصوت الزوجة المناضلة الصابرة والقابضة على الجمر من أجل استعادة زوجها للحرية. إنه صوت جوسلين، بدمعها وصمودها، وانتظارها الطويل إلى حين فتح الباب الحديدي الذي خرج منه زوجها الشاعر والروائي وعضو منظمة "إلى الأمام" اليسارية الماركسية آنذاك بعد حوالي 12 سنة من الاعتقال.
فيلم القطع مبني على سيناريو شارك في كتابته المخرج مع الشاعر عبد اللطيف اللعبي، عن مذكرات جوسلين اللعبي، الفرنسية التي وجدت نفسها منخرطةً في نضالات اليسار المغربي من أجل الديموقراطية بعد اقترانها بالشاعر، الذي كان قد أصدر مجلة يسارية باسم "أنفاس".
يبدو الفيلم وكأنه يقتل درامياً حضور عبد اللطيف اللعبي كي تبرز الشخصيات التي لا يقف عندها التاريخ طويلا، ومنهم الزوجة الصابرة: كيف واجهت القيود والتهديدات، كيف اعتنت بأطفال صدمهم اختفاء الأب فجأة، وكيف قادت عمليات التنسيق والتضامن مع عائلات المعتقلين للضغط من أجل إطلاق سراح أبنائها.
الممثلون والقضية
لعبت دور جوسلين الممثلة سونيا عكاشة، الاكتشاف المتأخر في السينما المغربية، والتي كانت قد فازت بجائزة أحسن ممثلة في المهرجان القومي للسينما عن دورها في فيلم "زيرو" لنور الدين الخماري.
وجسد دور اللعبي الممثل الشاب أنس الباز، في فيلم تضمن لحظات قوية لامست قلوب المشاهدين الذين عاشوا تلك الحقبة السوداء عن قرب.
عودة المخرج لسينما بلده
يعود عبد القادر القطع للسينما المغربية بعد غياب طويل، وهو الذي قدم انطلاقا من 1992 "حب في الدار البيضاء"، و"بيضاوة" (1998)، و"الباب المسدود" (2000و)، "وجها لوجه" (2003)، و"ياسمين والرجال" (2007)، والوثائقي التلفزيوني "بين عشق وتردد".
يقول القطع إن الفيلم يتناول فترة راسخة بقوة في الذاكرة الوطنية، وإن كان يقوم على وقائع حقيقية، فإنه يظل فيلماً روائيا. كما أن تجذره في الواقع هو ما يمنحه، حسب القطع، بعده الكوني، "لأن هذه الدراما كان يمكن أن تحدث في أي مكان آخر يشهد ذلك الصراع بين التطلع الى الحرية والعدالة من جهة والتسلط من جهة أخرى".
ويعتبر الناقد عبد الإله الجواهري أن "نصف السماء" فيلم مصنوع بعناية فائقة فنياً وتقنياً، كما يتميز باستعراض رصين لمرحلة سوداء من تاريخ المغرب المعاصرة. وقد وجد الجواهري في الفيلم "شاعرية قاتلة وأداءاً رفيعاً وتوثيقاً بليغاً ورؤيةً فنيةً عاليةً للمرحلة، وكتابةً بصريةً تشد الأنفاس"، حسب تعبيره.