فيما كانت المجتمعات التقليدية تُوصد على النساء كل بابٍ قد ينفذن عبره، ليكون لهن صوت مسموع، انفلت بعضهن من القيود، وأصبحن يملكن من الجرأة والجسارة ما يكفي ليرتفع صوتهن عالياً، رغم كل المحاذير.
تلك القلة من النساء، كُن يخرقن السائد ويتحايلن على القواعد المحافظة، بالغناء ونظم الزجل، وقرع الدفوف، وهكذا تواترت على مر الحقب التاريخية في المغرب فرق نسوية في كل قرية وقبيلة، أوكلت إليهن مهمة إبهاج المحتفلين، وتخليد المناسبات، وإحياء الأعراس وأُطلق عليهن لقب "العونيات".
تجاوزت أدوارهن الوظائف الفلكلورية الغنائية التي اختصت بها مجموعات الفنون الشعبية، في أغلب المجتمعات التقليدية، إلى أشكال تعبيرية سيوسيولوجية خاصة، أودعت فيها المرأة المغربية جزءاً من ذاكرتها، ومن تاريخ صراع الإرادات غير المتكافئ الذي كان يصر على أن يجعلها قابلة للضبط.
من قلب تلك الذاكرة الثاوية في كل بلدة مغربية، ومن حاضرها الذي ما انفك مسكوناً بالماضي، مازالت تلك النسوة يشدون ويبهجن، وإن بصرخة مكتومة تواري قصص معاناة ومحاولات صبورة لأجل العيش.
العونيات.. شقاء يصنع الفرح
متكئات على وسائدهن بقسمات تتقلب بين الضجر حينا والحماسة حيناً آخر، تقبض كل واحدة على مرآة صغيرة، يضعن آخر اللمسات على زينة وجوههن، ليوارين شقاءهن، بينما تنهي كلثوم مكالمتها مع السائق، تطلب منهن الاستعجال، وقد صار أمام باب منزلها في انتظارهن.
"لا تنسين كماماتكن"، تصيح رقية، وهي ترتب "قفطانها".
تلح عليهن مرة أخرى كلثوم بالاستعجال، وهي تبحث بتوتر عن حقيبتها الصغيرة، قبل أن يقاطعها صوت زمور سيارة "الحاج علي"، فهو مثلها، لا يطيق الانتظار.
الأكياس مليئة بالعدة، بمشقة يحملنها إلى السيارة، وهن في كامل زينتهن، كل شيء جاهز، لتشق فرقة "العونيات" طريقها إلى مركز البلدة، حيث تقام أحد الأعراس، وستصدح أصوات هؤلاء النسوة بالغناء الشعبي، وإليهن ستعهد مهمة نشر البهجة، وإطراب الحاضرين.
الغناء.. مهنة تتحايل على المحظور
تنعرج السيارة يميناً في اتجاه الطريق المؤدية لمركز البلدة، فيما تبدو قسمات فنانات السهرة الموعودة، ذاهلة عما حولهن، مستغرقات في التفكير، في مسارات حيواتهن الشاقة، التي اضطرتهن ليغامرن ويحترفن مهنة محفوفة بالشبهات في مجتمع رغم كل التحولات التي طرأت عليه، مازال لا يتسامح كثيراً مع من يمتهن الغناء حرفة يتكسبن منها.
تلك الأسئلة تقرع رأس كلثوم كل يوم، تحكي لـ"عربي بوست"، لا تجد لها جواباً، سوى محاولة التعايش معها، والإصرار على مواصلة الكد لأجل لقمة العيش.
تلاحق السيارة المنعرجات، وقد اقتربت من بيت العرس المقصود، لا تستهوي مشاهد الخضرة كلثوم كثيراً، لكنها تواصل باهتمام بالغ سرد قصة البدايات لـ"عربي بوست"، قبل نحو خمس وثلاثين سنة، اختارتني مؤسسَة فرقتنا، إلى جانب بضع نساء أخريات من نفس القرية، وأطلقت علينا اسم "إست العين"، وتعني باللغة الأمازيغية المحلية "بنات العين"، نسبة لقريتهن "عين سيدي بلقاسم"، وهي قرية كائنة ببلدة تدعى "التمسية"، على بعد نحو 20 كيلومتراً من مركز مدينة أكادير، جنوب المغرب.
ست نساء مغربيات، أمازيغيات، في فرقة غنائية، على يد معلمتهن المعروفة في المنطقة باسم يامنة عبدالملك، تعلمن أصول الحرفة، توفيت هي منذ سنوات، فيما يواصلن هن على ذات الطريق.
لكن طريق كلثوم لم يكن يسيراً ولا سالكاً كحال كثيرات ممن امتهن الغناء في مجتمع تقليدي محافظ.
تحدثنا كلثوم قائلة: "لم يجاوز عمري عشرين سنة حين تطلقت من زوجي، وبقيت مع أولادي الثلاثة، دون معيل، عملت في ضيعات فلاحية، ومساعدة منزلية، لأعيل أبنائي، لكن العوز والفقر ظل ملازماً لنا وكأنه القدر".
قسوة الظروف لم تسرق من كلثوم شغفاً صاحبها منذ الصغر، كان الغناء والموسيقى متنفساً تلوذ إليه كلما اشتدت عليها الأزمات، حتى ذاع صيتها في القرية كأحسن من يغني ويرقص من نسائها.
الغناء في زمن الوباء
بعدما كان جدول أعمال فرقة "إست العين" لا فسحة فيه للراحة على امتداد سنوات مسيرتهن المهنية، يتنقلن بين الأفراح والمناسبات على اختلافها، من أعراس وحفلات عقيقة وختان وأعياد ميلاد، كما الاحتفالات التي تنظمها بعض جمعيات المجتمع المدني في كل رأس سنة أمازيغية.
تغير الحال كثيراً، مع تفشي وباء كورونا، واقع عمل هؤلاء النسوة تبدل عما كان عليه من قبل، بمشقة يحصلن على فرصة أو ينادي عليهن أحدهم لمشاركته فرحته في عام كثرت فيه مواسم المآتم والأحزان.
لا تخفي "كلثوم" أن أجرهن ليس ثابتاً، بل يختلف حسب الوضع المادي لزبئانهن.
وتضيف أن وباء كورونا حرمهن من العمل ومردوده المادي،"صرنا نتوق إلى الفرجة والفرح اللذين نشعر بهما حين نغني".
أغلب نساء الفرقة من ربات البيوت، ولا يعرفن عملاً آخر غير ما احترفنه كل تلك السنوات، ليلتحقن أيضاً بعاطلين كثر عن العمل كانوا ضحايا سياسات الإغلاق والإجراءات الاحترازية التي تتبعها السلطات العمومية لمنع تفشي الوباء، وتضررت منها بشدة قطاعات غير مهيكلة، كانت مصدر دخل للكثير من العائلات المغربية.
العرس.. احتفالية بصيغة المؤنث
كانت والدة العروس في انتظارهن، بفرح بادٍ استقبلتهن، لكن المصافحة والعناق ممنوعان، إنه زمن الوباء.
إلى الصالة الفسيحة دلفن، قُدمت لهن وجبة الغداء، "الدجاج محمر واللحم بالبرقوق"، أكلات الأعراس المغربية التي لا يكتمل الاحتفال إلا بها.
بعد الغداء، طلب منهن الصعود إلى سطح البيت، هناك ستجري أطوار الاحتفال.
وسط السطح الفسيح، جلسن على شكل دائرة، وضعت والدة العروس صينيتين، في واحدة قُدم الشاي، وفي الأخرى وضع السكر والورد، وفيها لاحقاً ستوضع "الغرامة"، تلك الهبات المالية التي تستعرض فرق "العونيات" مهاراتهن لأجلها، يغدقن في الإطراء الذي يستفز أهل العريس والعروس، ليبذل كل طرف ما يستطيع من المال لهن حتى يصدحن أمام الحضور بمزيد من المديح.
خلعت نساء الفرقة كماماتهن، كل شيء جاهز إذن، انطلق الحفل، بأغنية أمازيغية، تلتها أخرى بالعربية العامية المغربية (الدارجة)، بدأت الحاضرات في التقدم إلى وسط الدائرة للرقص، كما لو أنها خشبة مسرح، لمن تشاء الرقص، لكن قبل ذلك، لابد أن تضع في صينية الورد والسكر ورقة مالية، لا تنقص في أغلب المرات، عن عشرين درهما (2 دولار)، لتلقى نصيبها من المدح غناء.
فيما تتوافد ضيفات العرس، بعد تناول وجبة الغداء، فهكذا جرت العادة في أعراس البلدة، يصل الضيف حاملاً هديته أو بعض المال، يقدم له الأكل، ومن ثم يشارك في الاحتفال.
ارتفع الإيقاع، ومعه طلب الحاضرات رقص كلثوم، تضع "تعريجتها" جانباً وتقوم لترقص، طبعاً، فهي أفضل من يتولى المهمة.
تواصل الحفل نحو ثلاث ساعات، قطعه تنبيه شفهي أرسله أحد أعوان السلطة المحلية، انتهت المدة الممنوحة للاحتفال بالعرس، لأن إقامة أي حفل أو تجمع، يستوجب الحصول على رخصة من السلطة المختصة، تحدد فيها عدد ضيوفك ومدة احتفالك.
وضعن عدتهن في الأكياس، وما اجتمع لهن في صينية" الغرامة" من مال وسكر، وتركن الورد.
كما استقبلتهن، تودعهن أم العروس، وتقدم لهن إلى جانب الأجرة، بعض الطعام.
كان ذلك مشهد ختام يوم عمل آخر في حياة فرقة "إست العين"، ستعود النسوة إلى بيت كلثوم ليقتسمن ما جنينه، يوزعن كل شيء بالتساوي، المال كما الطعام.
صانعات الفرح.. عبر التاريخ
يقول الشاعر والباحث في الفن الشعبي المغربي حسن نجمي، في حديثه لـ"عربي بوست"، إن "العاونيات" هو الاسم الذي يطلق على المغنيات الشعبيات، ويختلف من منطقة إلى أخرى بين "اللعابات" و"العياطات" و"تيهدارين".
وهن فرقة من النساء اللائي يأدين الأغاني الشعبية، ويصنعن الفرجة في الاحتفالات المختلفة، بحضور النسوة فقط، في غالب الأحيان ولا يغنين أمام الذكور.
واعتبر نجمي الجمال والصوت الجيد والمهارة في الأداء واحترام أصول المهنة من المحددات الأساسية للمغنية الشعبية المقبولة والمؤثرة فنياً واجتماعياً، إلى جانب كل ذلك، لابد لها من موهبة التواصل الإنساني والقدرة على تلقين النساء كل جديد عن ثقافتهن.
ويستشف الباحث المغربي، من دراساته المختلفة في الفن الشعبي، أن غناء النساء في تاريخ المغرب يعود إلى الدولة الموحدية.
وأورد في كتابه غناء "العيطة" بأن يعقوب المنصور الموحدي حين زار جده في توبقال بالأطلس الكبير، استُقبل من طرف النساء بالدفوف، ويعني هذا أن حضور المرأة في الغناء التقليدي ليس ظاهرة جديدة.
وفي العصر المريني، كان حضور النساء المغنيات قوياً في المحلات السلطانية، ولعبن دوراً في تحفيز وتقوية الجند عن طريق الأغاني والزغاريد وعبارات التشجيع.
أما في بداية العهد العلوي، فيستعيد الباحث في تصريح لـ"عربي بوست" أن مشهد قصر المولى إسماعيل بمكناس، حيث كانت هناك زهاء أربعمئة من الموسيقيات.
غير أن ظاهرة المرأة التي تحترف الغناء والرقص بغية أجر مادي تعيل به نفسها أو أسرتها، بدأت نهاية القرن الـ19 مع فرض الاستعمار.
فمع التغلغل الاستعماري الفرنسي والإسباني في المغرب، خاصة بعد الهزيمة التي تكبدتها المقاومة المغربية على يد الجيش الفرنسي في الحدود الشرقية للبلاد، وكذلك في معركة تطوان في مواجهة الاحتلال الإسباني آنذاك، شهد المغرب تحولات سوسيوثقافية وتحديثاً استعمارياً، كان ظهور المقاهي والمطاعم والفنادق بعض أوجهه البارزة.
حينذاك ظهرت الفرق الغنائية النسائية، على اختلافها من "عونيات" و"عياطات" و"شيخات"، إذ صارت النساء، خاصة المطلقات والأرامل، واللائي في وضع مادي واجتماعي هش، ويجدن في أنفسهن بعض المميزات، من قبيل الصوت والشكل الجميلين، يكون فرقة غنائية ويعملن في الاحتفالات مقابل أجر مالي، حسب الباحث المغربي.
ولم يفوت حسن نجمي في حديثه لـ"عربي بوست"، الإشارة إلى أن نساء فرق "العاونيات"، ورغم أن أغلبهن فقيرات، ولا يجدن القراءة والكتابة، وهذا ما يفسر نشاطهن في الأحياء الشعبية والقرى والأرياف على وجه الخصوص، إلا أنهن أسهمن بشكل حيوي في التأريخ لواقع النساء المغربيات والتحولات المختلفة التي شهدها المجتمع.