شارك في 500 بحث علمي في مجال تخصصه بالفيزياء النووية، لكن القدر اختار له طريقاً مختلفاً فأصبح اسمه مقترناً بفن العيطة العتيق في المغرب، فقدمه في حُلة جديدة عصرية محافضاً على أصالته في نفس الوقت.
هو نسيم حداد، دكتور الفيزياء النووية ومغني فن العيطة في المغرب في لقاء خاص مع "عربي بوست"، تحدث عن علاقته الخاصة بالغناء، وكيف قرر التخلي عن دراسته الأصلية من أجله.
نسيم الحداد اليوم يحاضر في الجامعات في فن العيطة، ويُطالب بتوثيقه وجعله تراثاً مغربياً شعبياً، وحمايته من الاندثار.
كيف انتقلتَ من مجال الفيزياء النووية للعيطة؟
هو ليس انتقالاً، الفيزياء النووية هي مجال دراستي، وأنا أفصل بين الدراسة والعمل، لذلك لم يكن هناك انتقال لأني لم أغيّر مجال عملي، درست الفيزياء لكني فضلت الفن كميدان للعمل.
ماذا عن بدايات نسيم حداد الفنية؟
البداية كانت بالأغنية الغيوانية التي تعتبر مدرسة جامعة للأنماط الغنائية المغربية سواء العيطة أو كناوة أو عيساوة، إضافة إلى الطرب الحساني. في المدرسة الغيوانية تعلمت حب التراث، لكن قررت التخصص في العيطة نظراً لأُصولي التي تعود لمدينة أبي الجعد المنتشر فيها هذا النوع من الموسيقى، فأُذناي تربت على هذا النوع من الموسيقى وعلى النمط العيطي منذ الصغر.
غنيت لمجموعة الغيوان ثم لعيساوة، الملحون وكناوة، والآن أنا في تجربة العيطة لأنها لسان حال المغاربة كما يقول الذين يحبون هذا الثرات الفني.
كيف توفق بين الأبحاث التي تقوم بها واحتراف فن العيطة؟
أظن أن مجال الفيزياء النووية مع الفن يخلقان توازناً في شخصية نسيم حداد، كُنت أدرس بموازاة مع الفن لكن الآن هناك تفرغ تام للمجال الفني.
كنت من بين أعضاء المجموعة العلمية الدولية التي اكتشفت الجسيم الجديد "البوزون هيگز" المسهم في تكوين نواة الذرة، حدثنا عن هذا الاكتشاف؟
في عام 2014 تم الإعلان عن اكتشاف "البوزون هيكز" الذي يُعد من أكبر الاكتشافات، وحصل مكتشفها على جائزة نوبل، لذا فالمجموعة التي اشتغلت على هذا الاكتشاف هي المجموعة التي توجد في الخلية، سواء "الديطيكتور أطلس" أو"سي م س" ومختبرات المغرب شاركت في عمل الخلية، ومن حسن الحظ أني كنت أتواجد في خلية المركز الأوروبي للأبحاث النووية يوم الإعلان عن نتائج اكتشاف "البوزون هيكز".
تظل تلك اللحظة تاريخية لأنها طبعت التاريخ العلمي الإنساني، وهذا يشرفني ويشرف كل المغاربة.
لنتحدث عن العيطة.. كيف يمكن الانتقال بهذا الفن من هياكله التقليدية نحو العالمية؟
لقد حاضرت في عديد المناسبات حول موضوع الانتقال بفن العيطة من هياكله التقليدية نحو العالمية. توجد طرق علمية للوصول إلى العالمية، فأنا أظن أن العيطة بمنظومتها الشعبية عاجزة عن الوصول للعالمية لأن هذه الأخيرة تحتاج لمراحل تبدأ من الأغنية التقليدية ذات البنية المغلقة سواء من ناحية النص أو اللحن، وصولاً إلى التعامل مع العيطة كنمط.
العالمية تستوجب إقحام آلات موسيقية متنوعة، ألا يشكل هذا الإدخال إذا تم خطراً على التراث؟
ليس من الضرورة إقحام آلات موسيقية جديدة للوصول للعالمية، لكن إذا استوجب الأمر ذلك فيجب استخدامها في محلها كما حدث مع بعض الآلات التي لم تكن موجودة في القدم (الطبلة، الكمان، العود..)، إضافة آلات جديدة يستوجب حضورها المساهمة في إشعاع العيطة.
غياب التوثيق النصي واللحن في هذا الفن هل يمكن أن يشوّه موروث العيطة؟
أكيد، فعندما نتكلم عن العيطة فنحن نتكلم عن نمط غنائي ذي تناقل شفهي من شيخ لشيخ أو من جيل لجيل آخر، لكن هذا الموروث الشعبي الفني يُعاني من غياب التوثيق نظراً لمجموعة من الأسباب أهمها ما يُسمى "سمو التدوين" الذي يعني أننا لا ندون سوى ما جاء باللسان الفصيح، لكن ما جاء باللسان الدارج فيُعتبر فقط ثقافة شعبية، وهذا ما يؤثر بشكل سلبي على الأنماط التراثية ويشوهها ما يمنعها من الوصول للعالمية.
علاقة العيطة بالسياسة في القديم؟
من يربط العيطة بالسياسة فهو يستقي فقط ما يروج في منصات التواصل الاجتماعي والأفلام، لأن العيطة نمط غنائي نابع من كل ما يخالج نفوس المغاربة، زيادة على أن ناظمي العيطة لا تربطهم أي علاقة بالسياسة وكانت تغنى في بيوت صناع القرار الوطني، في نظري السياسة خدمت العيطة وحافظت على هذا الموروث الشعبي وليس العكس.
وفاة رواد العيطة.. هل يهددها بالاندثار؟
مع وفاة كل شيخ حافظ للنصوص العيطية يذهب معه كنز كبير من هذا الفن بسبب غياب التوثيق.
"الشيخة" وصف قدحي في الدارجة المغربية.. كيف يمكن تصحيحه؟
المعروف أن الشيخة هي الضابطة والمتمكنة من أصول فن معين، في البداية كان الشيوخ هم لسان حال القبائل ويغنون دون مقابل، لكن مع دخول الاستعمار دخل نظام الأجر لمفهوم العيطة، وهذا النظام دفع العديد من الدخلاء لاقتحام العيطة، الشيء الذي جعل الشيخة تحمل تلك الصفة القدحية، خاصة أن الشيخة كانت متحررة وسط مجتمع محافظ، والإعلام يلعب دوراً كبيراً في تصحيح مفهوم الشيخة حالياً.
الفنانات المشهورات في الأغنية الشعبية يحملن صفة "شيخات" هل تتوفر فيهن المعايير اللازمة لهذا اللقب؟
الشيخات المحاضرات في الساحة يستأهلن اللقب فهن معروفات كـ"خدوج ميطيشتي"، "مينا"، "دونا"، أما تسمية الفنان لنفسه بلقب "الشيخ أو الشيخة" فيبقى شأنه الخاص، فكل حر في تسمية نفسه كما يريد، لكنّ شيوخ العيطة معروفون وللأسف يذهبون تباعاً.
كيف دخلت مجال التقديم التلفزيوني؟
تلقيت دعوة من الشركة المنتجة للبرنامج لتقديم السهرة الأسبوعية "جماعتنا زينة" على القناة الأولى فرحبت بالفكرة لأني لمست فيها تشجيعاً على سماع التراث، والحمد لله ترك البرنامج أصداء طيبة.
وماذا عن تجربة التقديم؟
لم أتدرب على التقديم لأني متعود على المحاضرات في أكبر المراكز العلمية العالمية، إضافة إلى أنني مغنٍّ لديّ إلمام بأجواء التصوير والأضواء والكاميرات. حاولت أن أقدم للجمهور شخصية جديدة في التقديم التلفزيوني بعيداً عن ضوابطه، وأن تكون شخصية نسيم حداد ببساطته وعفويته حاضرة.
هل سبق وتلقيت عروضاً من فنانين للمشاركة في السهرة؟
دوري في برنامج "جماعتنا زينة" يقتصر فقط على التقديم ولا دخل لي بالإعداد، لكن هذا لا يمنع أني أتلقى عروضاً كثيرة من فنانين للمشاركة في البرنامج، لذا أقدم كل العروض التي تلقيتها لفريق الإعداد من أجل النظر فيها، لأن شعار البرنامج والقناة كان دائماً هو "التلفزة من أجل جميع المبدعين".
نسيم حداد الزوج والأب..
شخصيتي في التلفزيون هي نفس شخصيتي مع أسرتي، هادئ وعفوي بطبيعتي، ولا أحاول أن أتقمص شخصيات مختلفة.
كيف توفق بين الحياة الزوجية وباقي انشغالاتك الكثيرة؟
التوفيق بين كليهما صعب، خاصة في الميدان الفني، في ظل تصوير برامج وسهرات داخل الوطن وخارجه، والأكيد أن زوجتي تتفهم طبيعة عملي وأحاول ما أمكنني أن أتواجد في البيت خلال وقتي الحر.
هل يؤثر مسارك على حياتك الزوجية؟
لا أظن، لأن الوضوح والتفاهم هما أساس استمرارية العلاقة الزوجية، وعلى عكس ما يعتقد الناس أن الفنان يغوص في النوم طيلة اليوم في حالات غياب السهرات، فأنا أعمل كذلك سواء عن طريق البحث في المجال التراثي أو أحضر لأعمال جديدة، وأشكر زوجتي التي تتحمل هذه الصعاب.
كيف يعيش نسيم حداد أجواء الإغلاق وغياب المهرجانات بسبب كورونا؟
ظروف الإغلاق صعبة لأن الفنان يقتات من حب الجمهور، واللقاء المباشر معه هو الذي يدفع بنا للإبداع، للأسف لمدة سنتين ونحن نتواصل مع الجمهور افتراضياً ونتمنى أن تعود الأمور لنصابها.
ما جديدك الفني؟
جديدي هو ألبوم "كو دو كور" الذي شرعت في تنزيل بعض أغانيه، بالإضافة لأعمال أخرى أحاول من خلالها أن أنعش الساحة الفنية الشعبية، وأنا بصدد التحضير كذلك لمشروع ضخم له علاقة بالعيطة سأعلن عنه قريباً، وستكونون أول من يطلع على تفاصيله.