لم تمر الزيارة التي أداها الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي إلى مدينة سوسة –مسقط رأس بن علي- دون أن تخلِّف جدلاً كبيراً بين التونسيين، بسبب ما وصفوه بالمبالغة في مظاهر الاحتفال الفلكلوري والتطبيل للحاكم، في تصرفات ذكرت الكثيرين بعهد الرئيس السابق بن علي.
الإعلام العمومي في قفص الاتهام
اتهامات لم يسلم منها الإعلام التونسي الرسمي، الذي ظنَّ كثيرون أنه تحرَّر بعد الثورة من سلطة الحاكم وإملاءاته، حيث دعت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري -هيئة دستورية مهامها مراقبة وتعديل المشهد الإعلامي في تونس- مساء أمس الجمعة، في بيانٍ لها، المشرفين على التلفزيون الحكومي "إلى النأي بالمرفق الإعلامي العمومي عن التوظيف السياسي الضيق".
واعتبرت أن ما جاء في ريبورتاج بث في النشرة الرئيسية للأخبار على القناة الوطنية الأولى حول زيارة السبسي لمدينة سوسة "لم يخل من طابع دعائي ومن تحشيد وتسخير لإمكانات المؤسسات العمومية في خدمة شخص، في ظلِّ تجاهل تام لمشاغل الشعب".
كما دعت الهيئة في ذات البيان الصحفيين للدفاع عن استقلالية خطهم التحريري، واتباع الحياد الصحفي، التزاماً بقواعد المهنة وأخلاقياتها دون الانحياز أو التوظيف.
غياب المهنية وسطحية التغطية
بدوره انتقد الإعلامي والمحلل السياسي كمال الشارني خلال حديثه لـ"عربي بوست" التغطية الصحفية للتلفزيون الحكومي لزيارة السبسي لمدينة سوسة، واصفاً إياها بعدم الحرفية والسطحية، وتأتي تذكيراً بحقبة الرئيس السابق بن علي، وتساءل: "شخصياً أسأل نفسي بعد الثورة، ما الذي يمنع صحفياً تونسياً من أن يكون محايداً وموضوعياً، ويترك ميولاته السياسية وآراءه جانبا".
واعتبر في ذات السياق أن الإعلام العمومي في تونس ضيَّع على نفسه كلَّ الفرص، ليعيد الثقة بينه وبين التونسيين، ويؤسس لإعلام حر ومحايد، مستدلاً على حادثة انهيار عمارة في سوسة بعد يوم من زيارة الرئيس التونسي، حيث قتل فيها أربعة أشخاص: "لكن الإعلام العمومي لم يكلف نفسه مجرد وضع خبر عاجل أسفل الشاشة، أو التنقل إلى عين المكان لتغطية الحادث، رغم توفر كل الإمكانات اللوجستية والتقنية"، وفق قوله.
الشارني دعا في ختام حديثه هيئة الإعلام السمعي البصري أن تمارس مهامها كهيئة مستقلة، وأن تنتقد وتراقب أداء كل وسائل الإعلام في تونس وليس فقط العمومي، بنفس المعايير والضوابط دون تمييز أو تصفية حسابات.
جرّ الإعلام لبيت الطاعة
من جهته، نبَّه النائب في البرلمان عن الجبهة الشعبية -يسار معارض- عمار عمروسية لمحاولات السلطة الحالية في تونس، جرّ الإعلام العمومي لبيت الطاعة، ليكون بوقاً دعائياً لـ"ساكن قصر قرطاج"، في إشارة قوية لعودة ممارسات النظام السابق.
وحذَّر في تصريح لـ"هاف بوست" من تراجع هامش الحريات، واصفاً تغطية التلفزيون الحكومي لزيارة الرئيس بـ"الفضيحة"، داعياً الهيئات الدستورية الرقابية، على غرار "الهايكا" لتحمل مسؤولياتها كاملة، للحد من توغُّل يد السلطة في القطاع الإعلامي بعد الثورة.
عمروسية وجَّه أصابع الاتهام في تراجع مناخ الحريات في تونس وفرض الإملاءات إلى مستشاري الرئيس السبسي، مضيفاً: "هناك دور مباشر من قصر قرطاج في التدخل في مضمون ما يُبثّ في الإعلام العمومي، لاسيما المتعلق بالسياسة، وقد لاحظنا ذلك جلياً في تغطية سابقة للتلفزيون الحكومي، إبان بثِّ جلسات تمرير قانون المصالحة الاقتصادية مع رجالات بن علي، حيث تم تجاهل نواب المعارضة إعلامياً، كما لدي معلومات مؤكدة حول تورُّط المستشارين ذاتهم في التدخل في اختيار الضيوف الحاضرين في البرامج الحوارية على القناة الحكومية، وغيرها من الإذاعات".
اجتهاد أو أمر؟
عضو المكتب التنفيذي لنقابة الصحفيين التونسيين زياد دبار، أقرَّ في حديثه لـ"عربي بوست" بعدم وجود إرادة سياسية واضحة لإصلاح منظومة الإعلام العمومي في تونس منذ 2011.
وندَّد في ذات السياق بمحاولات السلطة بالطعن في مشروعية الهيئات الدستورية المستقلة، والتي أنشئت بعد الثورة، وتعتبر من أهم مكاسبها.
دبار انتقد غياب المهنية والحرفية في تغطية التلفزيون الحكومي لزيارة الرئيس، مضيفاً: "إذا كان ذلك مجرد اجتهاد تلقائي من الزملاء فهو حتماً اجتهاد خاطئ، وإذا كان بأمر سياسي فذلك حتماً خطير جداً".
ونبَّه في السياق ذاته لخطورة ما وصفه بـ"العقلية المريضة" لبعض السياسيين الذين يرحِّبون بالحرية والحياد في الإعلام، حين يكونون في المعارضة ويستهجنونها حين تسلمهم للسلطة.