أخيراً تحرك البنك المركزي الأوروبي وقرر رفع سعر الفائدة لأول مرة منذ أكثر من 11 عاماً، بعد أن أصبحت قيمة اليورو أقل من الدولار للمرة الأولى منذ أكثر من 20 عاماً، فإلى أين يتجه الصراع بينهما؟
كان مجلس الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي) قد بدأ رحلة رفع سعر الفائدة بالنسبة للدولار منذ شهر مارس/آذار الماضي، في أعقاب اندلاع الهجوم الروسي على أوكرانيا وتسببه في رفع أسعار النفط والغاز عالمياً. وواصل الفيدرالي الأمريكي مسار رفع سعر الفائدة خلال مايو/أيار ويونيو/حزيران، ثم مرة رابعة في يوليو/تموز، وسط مؤشرات على استمرار ذلك النهج التصاعدي.
ويأتي التضخم على رأس أسباب رفع الفائدة؛ إذ كرر مجلس الاحتياطي الأمريكي مصطلح التضخم أكثر من 15 مرة في تقريره الخاص برفع أسعار الفائدة، حيث أصبح التضخم الشغل الشاغل للبنوك المركزية التي أعلنت منذ الربع الأول من العام الجاري حالة الطوارئ، بهدف تحقيق الهدف الرئيسي الآن وهو خفض أسعار السلع الرئيسية للمستهلكين في الأسواق.
أوروبا والمحافظة على سعر الفائدة
لكن على النقيض تماماً، استمر البنك المركزي الأوروبي في سياسته الرافضة لرفع سعر الفائدة، على الرغم من التراجع في قيمة العملة الأوروبية مقابل الدولار الأمريكي، حتى وصلت لأدنى مستوياتها منذ أكثر من 20 عاماً.
وأخيراً تحرك البنك المركزي الأوروبي وأعلن الخميس 8 سبتمبر/أيلول رفعاً غير مسبوق لأسعار الفائدة بلغ 75 نقطة أساس بهدف كبح جماح التضخم، رغم تزايد احتمالات دخول التكتل الأوروبي في حالة ركود، في وقت خسر فيه الإمدادات الروسية الحيوية من الغاز الطبيعي، بحسب تقرير لرويترز.
ورفع المركزي الأوروبي سعر الفائدة على الودائع من صفر إلى 0.75 بالمئة، ورفع سعر الفائدة الرئيسي على إعادة التمويل إلى 1.25 بالمئة، في أعلى مستوى منذ عام 2011.
وقال البنك في بيان: "خلال الاجتماعات التالية، من المتوقع أن يرفع مجلس المحافظين أسعار الفائدة بشكل أكبر لخفض الطلب وتفادي احتمالات استمرار الاتجاه التصاعدي لتوقعات التضخم".
ويعني التضخم زيادة الطلب على السلع عن المعروض منها؛ ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار. فأسعار القمح، على سبيل المثال، تضاعفت منذ بداية الحرب في أوكرانيا؛ لأن روسيا وأوكرانيا معاً تمثلان نحو ثلث تجارة القمح العالمية، ومع انخفاض أو توقف الصادرات ارتفع السعر. والأمر نفسه ينطبق على النفط أيضاً، على الرغم من وجود عوامل أخرى بطبيعة الحال، فإن العرض والطلب يمثلان العامل الرئيسي.
وجرى تداول اليورو، الخميس 8 سبتمبر/أيلول، منخفضاً 0.3 بالمئة عند 0.99795 دولار، ليتماسك فوق أدنى مستوى منذ أواخر عام 2002 عند 0.9864 دولار، إذ تبقي أزمة الطاقة في أوروبا العملة الموحدة تحت ضغط فيما يتعزز الدولار مع تكرار مجلس الاحتياطي الاتحادي التزامه بخفض التضخم إلى المعدل المستهدف.
وارتفع مؤشر الدولار الأمريكي، الذي يقيس أداءه مقابل ست عملات رئيسية، 0.1 بالمئة إلى 109.82 نقطة، بعد أن سجل ذروة عند 110.79 يوم الأربعاء، وهو مستوى لم يشهده منذ يونيو/حزيران 2002.
ونزل الجنيه الإسترليني 0.4 بالمئة إلى 1.1486 دولار، متجهاً من جديد نحو أدنى مستوى في 37 عاماً المسجل في الأربعاء 7 سبتمبر/أيلول عند 1.1407 دولار، قبيل إعلان رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة ليز تراس عن خططها للتعامل مع ارتفاع فواتير الطاقة.
لماذا تراجعت قيمة اليورو؟
كانت العملة الأوروبية الموحدة قد انخفضت الإثنين 5 سبتمبر/أيلول إلى ما دون 0.99 دولار أمريكي وهو أدنى مستوى له في 20 عاماً بعد أن أدى وقف روسيا لإمدادات الغاز عبر خط الأنابيب الرئيسي إلى أوروبا إلى تصاعد المخاوف من تفاقم أزمة الطاقة في جميع أنحاء المنطقة.
وبحسب تقرير لموقع دويتش فيله الألماني، ارتبطت قيمة العملة الأوروبية المشتركة، خلال الأشهر الماضية، بشكل متزايد بأسعار الغاز الطبيعي، وتزامن انخفاض اليورو مع ارتفاع أسعار مصادر الطاقة.
وتسعى أوروبا جاهدة للابتعاد عن إمدادات الطاقة الروسية وتكوين احتياطيات قبل أشهر الشتاء الباردة، لكن المستثمرين يعتقدون أن الضربة التي ستلحق باقتصاد القارة ستكون ضخمة. وجاء الانزلاق الحالي في قيمة العملة سريعاً، فقبل أن تشن روسيا حربها على أوكرانيا، كان اليورو يساوي 1.15 دولار.
أدى التدهور العام في توقعات منطقة اليورو -وسط ارتفاع أسعار الغاز والمخاوف من قيام روسيا بقطع إمدادات الغاز الطبيعي- إلى انخفاض العملة المشتركة، كما أدى الاعتماد الكبير للاقتصادات الكبرى مثل ألمانيا وإيطاليا على الغاز الروسي إلى إثارة قلق المستثمرين، حيث توقع الاقتصاديون حدوث ركود بشكل أسرع وأكثر إيلاماً في منطقة اليورو مقارنة بالولايات المتحدة.
يضاف إلى ذلك الاختلاف في مستويات أسعار الفائدة في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو؛ إذ كان الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أكثر جرأة في رفع أسعار الفائدة في معركته ضد التضخم. ففي حين رفع البنك المركزي الأمريكي أسعار الفائدة الرئيسية بمقدار 225 نقطة أساس مجتمعة منذ مارس/آذار، رفع البنك المركزي الأوروبي (ECB) معدل الفائدة حتى الآن بمقدار 50 نقطة أساس فقط.
وفي هذا السياق، قال كارستن برزيسكي، كبير الاقتصاديين في شؤون ألمانيا والنمسا لدى بنك "ING"، للموقع الألماني: "ستذهب الأموال إلى المكان ذي العائد المرتفع".
لكن انخفاض قيمة اليورو إلى أدنى مستوياتها خلال 20 عاماً ليس هو الخبر السيئ الوحيد، إذ إن الأسوأ هو أن تراجع العملة الموحدة قد لا يتوقف عند هذا الحد. فعلى الجانب الآخر من المعادلة، يستفيد الدولار الأمريكي من جاذبيته كملاذ آمن؛ إذ إنه وسط كل الكآبة والإحباط وعدم اليقين بشأن الاقتصاد العالمي، يشعر المستثمرون بالراحة تجاه الأمان النسبي الذي يقدمه الدولار، حيث هم أقل تعرضاً لبعض المخاطر العالمية الكبيرة في الوقت الحالي.
ماذا يعني تكافؤ اليورو والدولار؟
التكافؤ يعني بشكل أساسي أن دولاراً واحداً يشتري يورو واحداً. إنه ليس أكثر من حاجز نفسي للمشاركين في السوق والمعروفين بولعهم بالأرقام المتقاربة. وقال برزيسكي: "الأسواق المالية تحب دائماً العثور على نوع من المعنى الرمزي".
غالباً ما يكون مستوى التكافؤ بين العملات هو النقطة التي يقوم عندها المضاربون بتحديد الاتجاه الذي تسير فيه العمليات. كان هذا هو الحال عندما انخفض اليورو باتجاه التكافؤ الشهر الماضي. تجنبت العملة الأوروبية الإغلاق دون حد التكافؤ بعد أن كانت قد انخفضت بالفعل لفترة وجيزة إلى هذا المستوى.
وفي هذا السياق، سيزيد انخفاض اليورو من العبء على الأسر والشركات الأوروبية التي تعاني بالفعل من ارتفاع معدلات التضخم. وضَعف العملة سيجعل الواردات -والتي في الغالب يتم تقديرها بالدولار- أكثر تكلفة. عندما تكون هذه العناصر عبارة عن مواد خام أو سلع وسيطة فإنه من الممكن أن تؤدي تكاليفها المرتفعة إلى زيادة الأسعار المحلية.
في الأوقات العادية، يُنظر إلى ضعف العملة على أنه خبر جيد للمصدرين والاقتصادات ذات الصادرات الثقيلة مثل ألمانيا؛ لأن ذلك يعزز من الصادرات بجعلها أرخص بالدولار. لكن هذه الأوقات ليست عادية بسبب المشكلات الحادثة في سلاسل التوريد العالمية والعقوبات على روسيا والحرب في أوكرانيا. وقال برزيسكي: "في الوضع الحالي مع التوترات الجيوسياسية، أعتقد أن الفوائد الناتجة عن ضعف العملة أقل من العيوب".
لكن بالنسبة للمسافرين الأمريكيين المتجهين إلى أوروبا، يعتبر ضعف اليورو أمراً رائعاً. على سبيل المثال، على مستوى التكافؤ، من الناحية النظرية، سيكون بإمكان هؤلاء الأشخاص استبدال 1000 دولار مقابل 1000 يورو بدلاً من أقل من 900 يورو في فبراير/شباط. بعبارة أخرى، فإن قيمة دولاراتهم ستكون أكثر من ذلك بكثير، وبالنسبة للشركات التي تستورد البضائع الأوروبية فستكون الأشياء أرخص بالدولار.
وارتفعت الرهانات على استمرار انخفاض اليورو مع تفاقم أزمة الطاقة في أوروبا. وتوقع المحللون الاستراتيجيون في النادي الاقتصادي "Nomura International" أن اليورو قد ينخفض إلى 0.95 دولار، فيما يتوقع بنك الاستثمار الأمريكي Morgan Stanley أن تنخفض العملة إلى 0.97 دولار هذا الربع من العام.
وفي الوقت الذي يتطلع فيه الاتحاد الأوروبي إلى التخلص من النفط والغاز الروسيين، فإنه يسعى جاهداً لإيجاد بدائل وسط مخاوف من انقطاع التيار الكهربائي وترشيد استهلاك الطاقة. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع تكاليف إنتاج الطاقة واستخدامها.
كتب جورج سارافيلوس، رئيس أبحاث العملات الأجنبية في مصرف "دويتشه بنك" الألماني، في مذكرة للعملاء قال فيها: "إن فاتورة استيراد الطاقة المتضخمة هي مسألة سلبية بالنسبة لليورو، وتوقعاتنا على المدى القصير حتى سبتمبر/أيلول تستمر أن يبقى الصراع بين اليورو والدولار الأمريكي مستقراً حول نقطة التكافؤ"، وذلك في إشارة إلى زيادة قيمة فاتورة واردات الغاز الطبيعي المسال والانخفاض المتوقع لاحقاً في الطلب على الغاز مع تحول الصناعة إلى أنواع الوقود الأخرى.
وأخيراً فإن ضعف اليورو وارتفاع الأسعار الذي يغذي هذا الضعف يضيفان تحديات جديدة إلى التحديات التي يواجهها البنك المركزي الأوروبي، والذي تعرض لانتقادات بسبب شروعه في رفع أسعار الفائدة في وقت متأخر عن أقرانه.
وما جعل الأمور أسوأ بالنسبة للبنك المركزي الأوروبي الذي يحمل تفويضاً لترويض التضخم، أن الأمر لم يتوقف عند ضعف اليورو مقابل الدولار فحسب، بل أيضاً أمام العملات الأخرى مثل الفرنك السويسري والين الياباني.
وقال فيراج باتيل، محلل استراتيجي للعملات الأجنبية لدى شركة الأبحاث العالمية المستقلة "فاندا ريسيرش"، لموقع دويتش فيله: يساهم هذا الأمر في أن يتمدد نطاق تأثير ضعف اليورو، وبالتالي يصبح مشكلة تضخم كبرى بالنسبة للبنك المركزي الأوروبي".