"إن غداً لناظره قريب".. عادة ما نسمع باستخدام هذه العبارة للتهديد والوعيد بالعقوبة، رغم أن العرب استخدموها قديماً للتصبر والفأل الخير، إذ استخدمت أول مرة في موقف أنقذ حياة قائلها وكتب له عمراً جديداً.
الحكمة العربية "إن غداً لناظره قريب"، أي لمنتظره، يعود أصلها إلى عهد مملكة "المناذرة"، وهي مملكة عربية من حضارات العالم القديم، حكمت العراق.
تعود الحكمة تحديداً إلى عهد النعمان بن المنذر بن امرئ القيس اللخمي المعدي، الملقب بأبي قابوس (552-609 م).
أصل حكمة "إن غداً لناظره قريب".. يوم النعيم والسوء
كان للنعمان بن المنذر عادة شهيرة، فمن يأتيه في يوم بؤسه يقتله، ومن يأتيه يوم نعيمه يكرمه.
ويقال إن أعرابي ذهب إلى النعمان في يوم بؤسه فقرر قتله، احتمى الأعرابي بوزير الملك النعمان وطلب إمهاله 3 أيام ليودع بها أهله.
كفل وزير النعمان هذا الأعرابي بمنحه الأيام الثلاثة. مر اليوم الأول على الأعرابي وقبيل انتهاء الثاني قام الوزير باستعجال الأعرابي لتنفيذ حكم الملك. هنا رد الأعرابي قائلاً:
إن لك صدر هذا اليوم وليلته، فإن غداً لناظره قريب
وبالفعل؛ قبل انتهاء اليوم الثالث عاد الأعرابي لتنفيذ الحكم بقتله، لكن من حظه الحسن يومها أن الملك كان في يوم سروره فعفا عنه وأكرم الأعرابي وأجزل له العطاء.
كما يقال إن الملك النعمان ألغى عادته السيئة، حسب ما ورد في كتاب قصص الأمثال وروائع الأشعار العربية للشاعر محمد حسين العزة الصادر عن دار الأسرة للإعلام ودار عالم الثقافة للنشر بالأردن.
لذلك؛ ربط العرب قديماً هذه الحكمة بالصبر المحمود والفأل الخير، وليس الوعيد بالعقاب والحساب، كما أصبح يشيع استخدامها حالياً.
إكرام الملك النعمان، والوفاء الذي أثناه عن القتل
هناك قصة أخرى عن الملك النعمان ويوم نعيمه وسوئه، إذ يقال إن الأعرابي كفل رجلاً أكرم الملك النعمان قبل زمن من الحادثة، وكان وفاء هذا الرجل هو سبب عفو الملك عن القتل وإبطال سنته السيئة.
يعود ذلك حينما خرج النعمان على فرسه اليحموم لصيد الغزال، ولكن فرسه اليحموم ذهب به بعيداً عن جمل كان يسير خلفه، ليبتعد بذلك عن أصحابه.
وحينما حلَّ المساء على الملك النعمان ذهب لخيمة يطلب اللجوء لها ليلاً، وكانت هذه الخيمة لرجل من طيء يدعى حنظلة. حينما شاهد حنظلة الملك النعمان أنزله عن فرسه واستقبله من دون أن يعرفه.
أخبر الرجل الطائي زوجته قال لها: إني أرى رجلاً ذا هيئة (شأن) فما الحيلة، فقالت له إن لديها دقيقاً وشاة وحيدة، وأخبرته أن يذبحها لتعد له الطعام.
أكرم حنظلة وزوجته النعمان بالشاة الوحيدة التي يملكانها، وجلس حنظلة مع النعمان وتسامرا في الليل، ولما جاء الصباح امتطى النعمان فرسه وأخبر مضيفه: يا أخا طيء اطلب ثوابك فأنا الملك النعمان، فقال له الرجل أفعل إن شاء الله.
مر زمن على الاستقبال، ولم يطلب حنظلة ثوابه إلا حينما مر بضائقة ونصحته زوجته بالذهاب للملك عله يحسن إليه.
بالفعل؛ ذهب الطائي إلى الملك النعمان، لكنه صادف يوم بؤس للنعمان، وعرفه النعمان بمجرد رؤيته وقال له: أأنت الطائي المنزول به؟، ويقصد الذي نزل عنده، فأجاب حنظلة بالتأكيد.
ليسأله الملك لماذا لم يمر عليه بيوم آخر؟ وأجاب حنظلة بأنه لا يعمل بهذا (يومي النعيم والبؤس). وقال الملك النعمان: والله لو سنح لي في هذا اليوم قابوس ابني لم أجد بداً من قتله، فطلب الطائي أن يمهله حتى يذهب ليخبر أهله ويودعهم ويهيئ حالهم ثم يعود إليه.
وافق الملك وطلب من يكفل حنظلة، فكفله رجل من الحضور يدعى قراد بن أجدع، وعاد الطائي لأهله ليودعهم، وأعطاه النعمان أيضاً خمسمئة ناقة، ومنحه عاماً كاملاً كمهلة.
مر عام إلا يوم من المهلة، ويقال إن النعمان نظر لقراد وقال له: إن صدر هذا اليوم قد ولى، فرد قراد: فإن غداً لناظره قريب، وأصبح هذا مثلاً.
ويقال إنه لما أتى اليوم، همّ النعمان بقتل الكفيل قراد لتأخر وصول الطائي، فقيل له: ليس لك أن تقتله قبل أن يستوفي يومه، وانتظر على اقترب المغيب، ولما همَّ بقطع الرأس أطل رجل من بعيد، وإذ به الطائي.
سأل النعمان الطائي ما حمله على الرجوع رغم إفلاته من القتل، فأجاب إنه أوفى بكلمته، وسأله النعمان وما حملك على الوفاء، قال: ديني، وكان الطائي نصرانياً.
طلب النعمان عرض دينه، فتنصر النعمان وأهل الحيرة بمملكة المناذرة، وذلك قبل زمن من الإسلام، كما أشار كاتب الرأي في جريدة "الجريدة" الكويتية طلال عبد الكريم العرب.
ويقال إنه عفا عن قراد والطائي، وأبطل عادته في يوم النعيم والسوء من حينها.