مغالطة "الشعب اليهودي" بديلا عن "الجماعات اليهودية"..
مع دخول العدوان على غزة شهره الثالث، واشتداد حدة المعارك بين جيش الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية في كثير من مناطق القطاع، عاد الكثير من المتبنين للرواية الصهيونية في الأوساط الإسرائيلية الشعبية وفي وسائل الإعلام الغربية للادعاء بأنّ اليهود شعب لهم حق تاريخي وديني في فلسطين اتكاءً على بعض نصوص التوراة، بأنّ أجدادهم سكنوها فترة من الزمن، وأنّ إبراهيم عليه السلام عهد إليهم بأرض فلسطين.
هذا الزعم العاري عن الصحة ببعديه الديني والتاريخي كان مختفياً طوال القرون الماضية، ولم يخرج للشمس سوى مع ظهور الحركة الصهيونية التي أسسها تيودور هرتزل عام 1897، والتي أطلقت نظريتها عن حق الجماعات اليهودية في إقامة دولة لهم في فلسطين.
فكيف حلّ مصطلح "الشعب اليهودي" بديلاً عن "الجماعات اليهودية"؟ وكيف استخدمتها الآلة الدعائية الصهيونية في التهجير الممنهج لليهود إلى فلسطين وتوطينهم فيها حتى اليوم؟
ظهور الهويّات اليهودية واختفاؤها
الوجود اليهودي المقتصر على فترات تاريخية منقطعة
بحسب رواية التوراة نفسها فإنّ أول وجود لليهود على أرض فلسطين كان بعد عام 1460 قبل الميلاد، حين جاء بنو إسرائيل مع سيدنا موسى إلى فلسطين هرباً من بطش فرعون مصر، وقد كانوا قد دخلوا في التيه 40 سنة في أرض سيناء في الفترة (بين 1500ق.م إلى 1460ق.م تقريباً) وفق ما تجمع عليه الروايات التاريخية، بحسب ما جاء في موقع هيئة علماء فلسطين.
الوجود الفلسطيني لم ينقطع أبداً على أرض فلسطين
يسكن العرب الكنعانيون أرض فلسطين منذ عصور ما قبل التاريخ، وفي العصر البرونزي الممتد بين (3200ق.م – 2000ق.م) وصل تطور الحياة في فلسطين إلى مرحلة "الدويلات"؛ حيث كانوا يعيشون التمدّن والاستقرار وازدهار الزراعة والحياة التجارية، كما ظهرت المعتقدات الدينية والزخارف الفنية على الأدوات.
في تلك الحقبة التاريخية أُسست أول مدينة في تاريخ الإنسانية، وهي مدينة أريحا، وسميت "حضارة جريكو"، وفق ما أثبتته الحفريات.
معركة يوشع بن نون
تذكر الروايات اليهودية أنّ يوشع بن نون قاد معركة اليهود الذين تمكنوا من اقتحام أريحا وإحراقها، وقد يسكنها الكنعانيون في ذلك الوقت، وهي رواية تناقض نفسها بالتأكيد بأنّ هناك سكاناً سبقوا الوجود اليهودي في أرض كنعان، وكان لهم ملك ودولة.
إلا أنّ أبحاث البريطانية كاثرين كينون أثبتت أن هذه الرواية لا أساس لها من الصحة، حيث إنه لم يعثر على أي أثر لحرق حدث في أريحا في الفترة التي تذكرها التوراة.
هيكل سليمان المزعوم
نفى علم الآثار الحقيقي وجود أية آثار ترجع إلى بني إسرائيل حتى أيامنا هذه، وذلك رغم الحفريات الهائلة التي يقوم بها الاحتلال في القدس وأسفل المسجد الأقصى وفي عدة مواقع في فلسطين.
وهو ما يثبت زيف ادعاءات اليهود بالاستناد إلى علم الآثار التوراتي لإثبات وجود هيكل سليمان المزعوم مكان المسجد الأقصى.
على مدار كل العصور السابق ذكرها كانت فلسطين محط أطماع المحتلين، ما يعرّضها للاحتلال في بعض الفترات التاريخية، ومع أنّ هذه الصراعات على الأرض كانت تستمرّ لقرون لكن لم يثبت أبداً في أي فترة من التاريخ غياب الوجود الفلسطيني، فكما جاء في إحصائية بعهد محمد علي وضحت عدد اليهود في فلسطين، وجد أن نسبة اليهود لا تتجاوز 2%، حيث بقيت فلسطين فارغة من اليهود منذ هزيمتهم أمام الرومان.
شعب يهودي واحد أم جماعات يهودية عديدة؟
من هو اليهودي؟
يلفت الأكاديمي المصري عبد الوهاب المسيري في كتابه "من هو اليهودي؟" نظرنا إلى أن أعضاء الجماعات اليهودية لم يكونوا قط شعباً واحداً ذا "وحدة يهودية عالمية يتسق بهوية واحدة، ويبحث عن وطن قومي" وفق تعبيره، وأن القضايا الخاصة بالهوية اليهودية لم تحسم بعد.
ويستشهد المسيري بأنّ أعضاء الجماعات اليهودية ينقسمون إلى أشكيناز وسفارديم ويهود البلاد الإسلامية: "هناك جماعات يهودية هامشية لا حصر لها ولا عدد؛ فهناك السامريون الذين لا يؤمنون بالتلمود، ولا بمعظم العهد القديم، إنما يؤمنون بأسفار موسى الخمسة بنسخها المختلفة عن تلك المتداولة بين اليهود، ومركزهم في جبل جرزيم في نابلس المحتلة".
وهناك "القراؤون" الذين تمردوا على التلمود وزلزلوا اليهودية الحاخامية من جذورها، ولم يبقَ منهم سوى بضعة آلاف في كاليفورنيا وبعض مناطق روسيا و"إسرائيل".
وهناك بقايا يهود كايفنج في الصين، وهم يعبدون يهوه الذي يسمونه "تين السماء"، ويتعبدون في معبدين يهوديين؛ أحدهما لعبادة الإله، والاَخر لعبادة الأسلاف. وبحسب المسيري، فهم لا يعرفون التلمود ولا التوراة، وملامحهم صينية، ويقدمون لأسلافهم لحم الضأن.
ويشير المسيري إلى يهوديتهم بأنها كونفوشيوسية تماماً، مثلما نجد أن يهودية بني إسرائيل في الهند يهودية هندوكية. وهناك العشرات من الجماعات والطوائف والفرق اليهودية الأخرى.
وبحسب الباحث الديني الكاهن حسني السامري: "يعرّف السامريون أنفسهم بأنهم فلسطينيون، وأنهم السلالة الحقيقية لشعب بني إسرائيل، وينفون قدسية القدس في التوراة، ويرون في اليهودية انشقاقاً. ويتحدث أبناء الطائفة، التي تعتقد أنها تملك أقدم نسخة من التوراة، ويعود تاريخها إلى 3600 عام، اللغة العربية بطلاقة، إلى جانب اللغة العبرية اليهودية، كما يتقنون اللغة العبرية القديمة التي نزلت بها التوراة".
لا يوجد شعب يهودي ، بل شعب بني إسرائيل
يستطرد السومري إثباتاً لعدم انتساب اليهود إلى وحدة وهوية وقومية معينة بأنّ اليهود صاروا قبائل متفرقة يعود نسلهم إلى بني إسرائيل منذ انشقوا عن الدين واتخذوا القدس مكاناً مقدساً لهم، تاركين قدسية جرزيم، وهناك 7 آلاف خلاف بين التوراة القديمة وما يدعيه اليهود الذين غيّروا حتى اللغة العبرية… هناك فجوة كبيرة بيننا".
بالتالي فقضية تعريف اليهودي ليست مجرد قضية دينية أو سياسية، بل إنّها قضيّة "مصيرية" تتعلق برؤية الذات والعالم، وهي ما تضفي شرعية على "الدولة العبرية" كما أطلق عليها المسيري.
لعل أدلّ مثال على ذلك قانون العودة الذي صدر بعد إعلان قيام "الدولة" عام 1948، ينصّ على أحقية اليهود في الهجرة إلى "إسرائيل"، لكنّهم غيّبوا تعريف من هو هذا اليهودي المعني بالهجرة لإسرائيل، وما هي اليهودية تحديداً التي تتعدد أشكالها وتعريفاتها مع غزارة الموروثات الدينية والعرقية للجماعات اليهودية.
"أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"
تطوّرت هذه الفكرة التي تروّج لـ"الجماعات اليهودية" على أنهم "شعب يهودي" إلى تصوير "فلسطين" أرضاً بلا شعب، أو على أكثر تقدير كسكان مؤقتين، سريعي الزوال، ينتظرون قدوم ذلك الشعب الذي ظلّ دون أرض لتكون فلسطين أو "أرض الميعاد"، كما تسمى في معتقداتهم، موطناً لهم، في تعمية واضحة لتاريخ الشعب الفلسطيني، وإنكار أحقّيته بالأرض.
وهو الشعار الذي أطلقه القس الأمريكي وليام بلاكستون عام 1888، والمتمثل في أن (فلسطين هذه تركت هكذا أرضاً بغير شعب، بدلاً من أن تعطى لشعب بغير أرض). ذلك الشعار الذي حولته الصهيونيّة اليهوديّة فيما بعد إلى "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".