في الثاني من مايو/أيار 1972، كانت خلية تابعة لمنظمة "أيلول الأسود" على متن طائرة أقلعت من بيروت إلى روما، حاملين جوازات سفر مزيفة. ومن العاصمة الإيطالية توجهوا إلى ألمانيا، هناك حصلوا على جوازات سفر إسرائيلية مزورة، وفي الثامن من الشهر نفسه استقلوا طائرة الرحلة "571" التابعة لشركة "سابينا" والمتجهة إلى تل أبيب، وقد استطاعوا تهريب مسدسين وقنبلتين يدويتين وحزامين ناسفين على متن الطائرة.. لتبدأ فصول عملية "سابينا 571".
أحكمت الخلية سيطرتها بسهولة على الطائرة ووجهتها إلى مطار اللد "بن غوريون"، وبدأت مفاوضات مع وزير الدفاع الإسرائيلي موشي ديّان، ووزير المواصلات حينها شمعون بيريز، لعقد صفقة تقضي بالإفراج عن 315 أسيراً فلسطينياً ونقلهم إلى دولة عربية، مقابل ترك الطائرة ومن فيها سالمين. المسؤولان الإسرائيليان لم يمتلكا أدنى نية للتفاوض أو تحقيق رغبات المقاومين، فماطلا في المفاوضات لكسب الوقت ريثما تستعد وحدة "سيرت متكال" الخاصة لاقتحام الطائرة وتحرير الرهائن.
جزء من الخطة الإسرائيلية كان إعلام الخاطفين بالموافقة على طلباتهم، مع طلب الوقت بحجة الحاجة لوقت أطول لنقل الأسرى والإفراج عنهم، على أن يتوسط الصليب الأحمر عملية التبادل ويشرف عليها.
في الصفحة الـ10 من مذكراته التي كتبها بنفسه، يروي بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي وأحد أعضاء وحدة "سييرت متكال" في تلك العملية التالي: "في إحدى ساحات المطار، تدربنا على اقتحام طائرة مماثلة. علمنا أن للطائرة عدداً كبيراً من أبواب الطوارئ التي يمكن فتحها إذا ما ضُربت من الخارج، وتدربنا على فتحها. استعضنا عن بنادق الكلاشينكوف ورشاشات أوزي بمسدسات صغيرة، وطلب منا إخفاؤها في جواربنا.. ثم أخبر ديان الخاطفين بأن إسرائيل سترسل ميكانيكيين لإعداد وتجهيز الطائرة لرحلة إلى دولة عربية من اختيارهم.
كانت الخطة بسيطة وعبقرية: 16 فرداً من جنود الوحدة سيرتدون ملابس ميكانيكية بيضاء. سوف نتظاهر بأننا جئنا لتجهيز الطائرة للإقلاع ثم نقوم بعد ذلك باقتحام المداخل وقتل الإرهابيين وتحرير الرهائن.. استقل "الميكانيكيون" قطار الأمتعة وتوجهوا إلى الطائرة المختطفة. توقفنا على بعد حوالي 100 متر عند نقطة تفتيش أقامها أفراد الصليب الأحمر. إذ تم الاتفاق على أن يقوم أعضاء الصليب الأحمر بتفتيش جسدي دقيق للتأكد أن "الميكانيكيين" غير مسلحين". (انتهى الاقتباس)
وبينما كان الخاطفون يراقبون عملية التفتيش من قمرة القيادة والباب الأمامي للطائرة، قام أحد مسؤولي الصليب الأحمر بتفتيش نتنياهو، ولقد لمس السلاح الذي أخفاه في حذائه، لكنه تجاهل الأمر، ورفض إبلاغ الجانب الفلسطيني، ولم يوقف عملية التبادل، واكتفى بالهمس في أذن نتنياهو قائلاً: "يا إلهي". فأجابه نتنياهو: "الله أكبر"، ثم سمح له بالمرور.
واستشهد إثر الاشتباك مع الجنود المقتحمين اثنان من المنفذين واعتقل اثنان آخران، بينما أصيب نتنياهو برصاصة في يده.
الصليب الأحمر في خدمة الـCIA
قرب نهاية عام 2007، نشرت صحيفة "إل بايس" الإسبانية تقريراً مطوّلاً عن "معتقل غوانتانامو" سيئ السمعة والانتهاكات التي تحدث للمعتقلين فيه. أحد فصول التقرير أشار إلى "تواطؤ" جزء من بعثة "الصليب الأحمر" مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "CIA" داخل المعتقل. ادعت الصحيفة أن عدداً من طاقم المؤسسة الدولية قد عملوا لصالح وكالة الاستخبارات، وحاولوا خلال زياراتهم للمعتقلين إقناعهم بالتعاون مع الوكالة، والإدلاء بما لديهم من معلومات للحصول على حريتهم. وقد استخدموا في ذلك الترهيب والضغط والابتزاز النفسي. ونقل "إل بايس" عن المعتقل بغوانتانامو، الحسن إيكاسرين، إسباني من أصول مغربية، أنه كان أحد من تعرضوا لذلك الابتزاز.
يروي الحسن أن أحد أعضاء البعثة الدولية للصليب الأحمر زاره في مقر اعتقاله، وقال له: "لقد أحضرت لك خطاباً من عائلتك.. أنت شخص طيب وذكي، فلم لا تتعاون مع الأمريكيين وتخبرهم بكل ما تعرف لتخرج من هنا فوراً؟ فالوضع في غوانتانامو صعب للغاية ولا يحتمل". ويروي الحسن أيضاً أن أعضاء الصليب الأحمر كانوا يباشرون مقابلاتهم مع المعتقلين بالسؤال عن "ماذا فعلت لتأتي هنا؟".
بعد 4 سنوات من الاعتقال والتعذيب، قامت الولايات المتحدة بتسليم الحسن إيكاسرين إلى السلطات الإسبانية، وبدأت محاكمته هناك ثم تمت تبرئته!
وفي العدوان الحالي على قطاع غزة، انتشرت أقاويل على منصات التواصل الاجتماعي تدعي قيام مسؤولي الصليب الأحمر بعمليات تجسس لصالح الاحتلال الإسرائيلي. إذ تم تداول فيديو لما وصف أنه تورط لأحد موظفي الصليب الأحمر في عملية تجسس على حماس. يزعم متداولون للفيديو بأن موظفاً ظهر وهو يلصق جهاز تعقب صغير في ظهر أحد عناصر حماس الذين كانوا يقومون بتسليم محتجزين إسرائيليين إلى الصليب الأحمر.
وقد أثار الفيديو غضباً واستنكاراً واسعين في منصات التواصل، وطالب الكثيرون بإيضاحات من المنظمة. ما دفع الهيئة الدولية إلى إصدار بيان ينفي تلك الادعاءات ويؤكد أن الهيئة موجودة في الميدان لتقديم المساعدات وفقط.
هذه الاتهامات ليست من فراغ، إذ إن للمؤسسة الدولية سوابق في اتهامات بالتجسس في مناطق النزاع.
عمليات تجسس
في عام 1982، اتهمت نيكاراغوا مسؤولي الصليب الأحمر بالتجسس لصالح الولايات المتحدة الأمريكية. ففي جلسة يوم 20 نوفمبر من ذات العام، وجه البرلمان النيكاراغوي اتهامات بالتجسس وتقديم معلومات حساسة إلى مسؤولين أمنيين ملحقين بالسفارة الأمريكية. والهدف من وراء عملية التجسس المزعومة تلك هو تقويض النظام الثوري الذي ولد قبل 3 سنوات من ذلك التاريخ. ولم يأت ذلك الاتهام اعتباطاً بل جاء عقب اعترافات مصورة لرئيس عمليات الصليب الأحمر في البلاد.
وبعد ذلك التاريخ بـ40 عاماً تقريباً، قامت السلطات الرسمية في نيكاراغوا بحل فرع الصليب الأحمر في البلاد، بعد خرقه مبدأ الحياد، حسب البرلمان النيكاراغوي.
اتهم البرلمان الصليب الأحمر بمساعدة المحتجين والمتظاهرين في الاحتجاجات التي اندلعت ضد النظام الشرعي في البلاد عام 2018. واعتبرت الحكومة احتجاجات ربيع 2018 التي طالبت باستقالة الرئيس أورتيغا، محاولة انقلابية تقف وراءها واشنطن.
ليست تلك حادثة نادرة في تاريخ المؤسسة، ففي عام 2014، وشرقي مدينة دونيتسك قامت مجموعة انفصالية موالية لروسيا باعتقال 9 أعضاء من بعثة الصليب الأحمر والتحقيق معهم في اتهامات متعلقة بالتجسس عليهم، قبل أن تفرج عنهم مرة أخرى.
تواطؤ مع الاحتلال
بعد أن صدرت أوامر إخلاء شمال قطاع غزة من سلطات الاحتلال الإسرائيلي والتوجه جنوباً، توقف الصليب الأحمر في غزة عن تقديم أي مساعدات لمستشفيات الشمال، وهو الذي يمتلك مولدات كهرباء في مخازنه، لكنه رفض منحها للمستشفيات التي تحولت إلى مراكز إيواء. رئيس قسم الحروق في مستشفى الشفاء أحمد المخللاتي وصف الصليب الأحمر بأنه "جزء من التواطؤ الذي يحصل بين الاحتلال والمؤسسات الدولية".
الصليب الأحمر نفسه رفض تقديم أي مساعدات لطواقم الدفاع المدني في قطاع غزة، كما وردت شهادات حول تجاهل الصليب الأحمر مناشدات الناس تحت الأنقاض والمصابين داخل بيوت أهالي غزة.
هذا ليس الفصل الأول في ملف الصليب الأحمر في فلسطين الذي عليه عديد علامات الاستفهام. فمنذ عام 2016، نظمت العديد من الوقفات الاحتجاجية في الضفة الغربية ضد "صمت وتجاهل" مؤسسة الصليب الأحمر لأوضاع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال. وكذلك ضعف دوره في مساندة ودعم الأسرى وعائلاتهم.
حتى أن عشرات النشطاء المتضامنين مع الأسرى قاموا في عام 2016 بإغلاق مقر الصليب الأحمر في مدينة البيرة قرب رام الله، وعلقوا على أبوابه يافطات تدعوه إلى وقف ما وصف بـ"التواطؤ" مع سياسات الاحتلال.