كانت القنابل الذرية التي ألقتها أمريكا على اليابان في هيروشيما وناغازاكي في 6 و9 أغسطس 1945، التي راح ضحيتها نحو 129 إلى 226 ألف شخص، هي ثمرة برنامج "مشروع مانهاتن" الهندسي السري، الذي شارك فيه نحو 1500 عالم فيزيائي وكيميائي وعسكري، بهدف إنجاز تصميم أول قنبلة ذرية.
لكن بعدها بأيام في مختبر "لوس ألاموس" بولاية نيو مكسيكو الأمريكية، كان العلماء العاملون في مشروع مانهاتن -البرنامج السري الذي قاده يوليوس روبرت أوبنهايمر وأشرف خلاله على تطوير أول قنبلة ذرية- لا يزالون يجرون الاختبارات على العناصر المشعة.
وخلال تلك الفترة وقعت حادثتان سببهما أخطاء بشرية وإهمال أدت لوفاة اثنين من العلماء العاملين في المشروع بسبب التسمم الإشعاعي. من كتلة كبيرة من مادة البلوتونيوم، أُطلق عليها بعد ذلك هذا اللقب المشؤوم: "نواة الشيطان".
"طوبة" في مشروع مانهاتن تودي بحياة عالم فيزياء
بعد إسقاط القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي كان العالم الفيزيائي هاري دغليان يجري الاختبارات على كتلة كروية من البلوتونيوم يبلغ وزنها 6.2 كيلوغرام. ولم تكن تلك الكتلة لتبدأ تفاعلاً نووياً متسلسلاً من تلقاء ذاتها.
كانت تلك التجربة تهدف لإيصال نواة البلوتونيوم إلى ما يعرف بـ"حافة التحفيز"، وهي المرحلة التي تسبق حدوث التفاعل الذي يسبب انفجار القنبلة الذرية
في 21 أغسطس/آب 1945، أي بعد أقل من أسبوعين من تفجيرات هيروشيما وناغازاكي، كان الفيزيائي الشاب هاري دغليان، والذي كان عالماً عبقرياً يبلغ من العمر 24 عاماً آنذاك، وتخرج في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وهو في 17 من عمره، يُجري تجربة على كتلة البلوتونيوم المعروفة باسم "نواة الشيطان" في مختبر لوس ألاموس مقر مشروع مانهاتن.
كان دغليان يستخدم طوباً خاصاً مصنوعاً من مادة "كربيد التنغستن"، وهي مادة شديدة الصلابة وتعتبر عازلاً قوياً، استخدمت لبناء حاجز حول "نواة الشيطان".
كان الغرض من الطوب أن يعكس النيوترونات التي تتسرب بعيداً عن البلوتونيوم المشع إلى النواة. ويعتبر "عاكساً نيوترونياً" يدفع النواة إلى الاقتراب من المرحلة الحرجة ويمنع حدوث التفاعل المتسلسل للانشطار النووي.
بدأ دغليان في بناء الحاجز من الطوب، وترتيب بعضها الواحدة فوق الأخرى، وأراد وضع طوبة فوق مركز النواة، لكن قبل أن يكمل عمله انطلق جهاز الإنذار يحذره من أن وضعها في هذا المكان قد يسبب تفاعلات نووية وبالتالي يمكن أن تنفجر.
بسبب الارتباك سارع دغليان بسحب يده، لكنه عن طريق الخطأ حرّك الطوب الذي وضعه، فأسقطه مباشرة فوق نواة الشيطان. كانت تلك الضربة كافية بأن تتسبب بإطلاق تفاعل بسيط،
ولكنه في نفس الوقت أطلق كمية إشعاع كافية لتصيب دغليان بالتسمم الاشعاعي.
وخلال ثوانٍ كان جسم دغليان تشبع بجرعة قاتلة من الإشعاع المنبعث عن "نواة الشيطان" المكونة من البلوتونيوم الذري. وتدريجياً بدأت تظهر أعراض التسمم عليه، ولم يمضِ سوى 25 يوماً فقط بعد تلك الحادثة حتى توفي متأثراً بالتسمم الإشعاعي.
"دغدغة ذيل التنين النائم" يتسبب بموت عالم آخر
رغم الحادثة التي حصلت وموت هاري دغليان متأثراً بالتسمم الإشعاعي، لكن ذلك لم يكن رادعاً كافياً لبقية العلماء بالتوقف عن الأبحاث والتجارب على نواة الشيطان.
بل إن أحدهم وهو الفيزيائي الكندي لويس سلوتن الذي كان يبلغ من العمر 35 عاماً، عُرف عنه بين زملائه في مشروع مانهاتن أنه لا يعبأ بالأخطار، حتى في تجارب حساسة تتعامل مع مواد قد تتسبب بكارثة نووية.
بعد مضيّ عدة أشهر على وفاة دغليان، كان سلوتن يحاول تكرار التجارب التي قام بها هاري دغليان على "الكتلة الحرجة"، بل إنه سعى في تجربته إلى الاقتراب من الكتلة الحرجة أكثر حتى مما اقترب زميله دغليان، ولكن بطريقة مختلفة.
بدلاً من الطوب الذي استخدمه دغليان، قرر سلوتن استخدام كرة معدنية مغطاة بمادة البريليوم، مقطوعة إلى نصفين ووضع "نواة الشيطان" داخلها، لكن كان عليه أن يحرص على عدم إغلاق الكرة الحديدية بالكامل حول "نواة الشيطان" لأن ذلك سيؤدي لتفاعلات التي من شأنها أن تطلق كميات مميتة من الإشعاع الذري.
فاستخدم سلوتن حلاً بدائياً للغاية وقرر حشر مفك براغي بين قسمي الكرة الحديدية حتى لا تغلق بشكل كامل على نواة الشيطان. كشف تقرير للأمن القومي صدر عن مختبر الفيزياء التطبيقية بجامعة جونز هوبكنز الأمريكية، أن التجربة عُرفت باسم "دغدغة ذيل التنين النائم". وأن التجربة كانت خطيرة، لكن سلوتن أجراها عدة مرات من قبل.
رغم تحذيرات زملاء سلوتن له من أن طريقته هذه في إجراء التجربة قد تتسبب بمقتل المشاركين فيها، بسبب التسمم الإشعاعي والتسريب الذي يمكن أن يحدث من نواة الشيطان، لكنه لم يكن يهتم بتلك التحذيرات.
وأورد تقرير مختبر الفيزياء التطبيقية بجامعة جونز هوبكنز أن الفيزيائي الشهير إنريكو فيرمي الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1938، والمشارك في الفريق الذي أنتج أول قنبلة ذرية، أنذر سلوتن وباحثين آخرين بأنهم "سيموتون في غضون عام" إذا واصلوا هذه التجارب.
وبالفعل في يوم 21 مايو/أيار 1946، عندما كان سلوتن على وشك الانتهاء من تجاربه وتسليم منصبه لباحث آخر ليكون بديلاً له، قرر سلوتن إجراء تجربة "دغدغة ذيل التنين النائم". وبنفس الطريقة باستخدام الكرة الحديدية ووضع مفك البراغي بين شقي الكرة.
وبينما هو يقوم بالتجربة انزلق المفك من يده وانغلقت الكرة الحديدية بالكامل، وهو ما تسبب بتفاعلات ذرية في نواة الشيطان، وانطلق منها وميض أزرق وموجة من الحرارة، ورغم تمكن سلوتن من فتح الكرة الحديدية بسرعة، لكنه في تلك اللحظة كان قد فات الأوان.
خلال 9 أيام تالية مات سلوتن ميتة بطيئة ومؤلمة جراء إصابته بالتسمم الإشعاعي، وأدركه انهيار كامل في وظائف الجسم، فعانى الإسهال والقيء والتقرح والدوخة، ثم الفشل الكلي للأعضاء في النهاية.
بعد تلك الحادثتين حظر مختبر "لوس ألاموس" على علمائه إجراء اختبارات الكتلة الذرية الحرجة مرة أخرى. أما نواة الشيطان فقد تم صهرها وإعادة تدويرها في نوى أخرى لإجراء الاختبارات عليها.