حين انفجرت القنبلة النووية لأول مرة ضمن التجارب التي قام بها أوبنهايمر في "مشروع مانهاتن" السري لتصنيع السلاح الأشد فتكاً الذي عرفته البشرية. قال الفيزيائي روبرت أوبنهايمر لنفسه وهو يشاهد الانفجار: "الآن أصبحت الموت.. مُدمّر العوالم".
يثير هذا الاقتباس الشهير، المأخوذ من كتاب هندوسي مقدس قديم يعرف باسم "البهاغافاد غيتا"، سؤالاً مهماً كثيراً ما يجري إغفاله: لماذا وافق أوبنهايمر وزملاؤه على صنع سلاح قتل مئات الآلاف من المواطنين اليابانيين، بالإضافة إلى قدرته يوماً ما على إنهاء الحياة بكل أشكالها على كوكب الأرض.
في الحقيقة من بين 130 ألف شخص شاركوا في "مشروع مانهاتن"، لم يكن لدى الغالبية العظمى منهم أدنى فكرة عمَّا كانوا يصنعونه بالضبط. وعندما اكتشف أولئك الأشخاص حقيقة المشروع، تباينت مواقفهم بين من استمر بالعمل مدفوعاً برغبة في الانتقام من اليابان بسبب قصفها ميناء بيرل هاربر الأمريكي وقتل الآلاف من الجنود الأمريكيين.
وبين من استمر طمعاً في المجد ودفع حدود العلم والاكتشاف حتى لو كان شيئاً مدمراً مثل القنبلة النووية، على سبيل المثال كان الكيميائي غلين سيبورغ، الذي ترأس قسم عنصر "البلوتونيوم"، يقول لأعضاء فريقه: "نحن نعمل على شيء أهم من اكتشاف الكهرباء". هذا تقريباً ما كان يجعلهم دائماً متحمسين لمواصلة العمل.
أو حتى من بقي من أجل المال، إذ ورد أنَّ أجور العمل في "مشروع مانهاتن" كانت أعلى من المتوسط. وبين قسم آخر قرر بعضهم إما الانسحاب من المشروع، أو شعر بالندم لمشاركته وتحدث عن ذلك علانية، وبين قسم آخر لم يكتفِ بالانسحاب فقط وإنما أصبح من أشد المعارضين للأسلحة النووية وبذلوا جهداً لمنع استخدامها.
مناشدات ورفض تصنيع أو استخدام القنبلة النووية
في البداية، لم يكن لدى العديد من العاملين في مشروع مانهاتن أي فكرة عن هدفه. لم يعرف البعض حتى إلى أين هم ذاهبون، أخبرتهم السلطات أنهم يعملون على مشروع سري فقط ولم يكن يعلم حقيقة المشروع وهدفه الحقيقي في البداية سوى مجموعة صغيرة.
تدريجياً أدرك الفيزيائيون والكيميائيون وغيرهم ما كانوا يبنونه. على الفور تقريباً، سجلوا مخاوفهم. عقدوا مناظرات في الكنيسة والمسرح في معملهم في لوس ألاموس، نيو مكسيكو. ناشدوا مدير المشروع روبرت أوبنهايمر، الذي اعترف بأن ما كانوا يبنونه سيُطلق عليه "أداة". ولكنه في الحقيقة قنبلة.
لم يرغب العديد من العلماء المشاركين في مشروع مانهاتن في صنع القنبلة. خاصة أنهم لا يريدون استخدامه على الناس. وقوبلت تلك المخاوف بالرفض من القادة العسكريين والمدنيين المسؤولين على مشروع مانهاتن.
بدأ كبار العلماء في المعارضة. ناشد ليو زيلارد، الفيزيائي الذي اخترع المفاعل النووي، السيكلوترون والمجهر الإلكتروني، الرئيس فرانكلين دي روزفلت للحد من "قسوة أمريكا".
كتب: "قواتنا الجوية، في ضرب المدن اليابانية، تستخدم نفس أساليب الحرب التي أدانها الرأي العام الأمريكي قبل بضع سنوات فقط عندما طبقها الألمان على مدن إنجلترا. إن استخدامنا للقنابل الذرية في هذه الحرب سيقود العالم شوطاً طويلاً على طريق القسوة هذا".
قاد جيمس فرانك، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء، مجموعة من العلماء الذين أعلن تقريرهم أن الأسلحة الذرية قضية سياسية مدنية وليست عسكرية. "وجدنا أنفسنا.. مجموعة صغيرة من المواطنين مدركين لخطر جسيم على سلامة هذا البلد وكذلك على مستقبل جميع الأمم الأخرى، والتي لا يعرفها باقي البشر".
آرثر كومبتون، الحائز على جائزة نوبل أخرى، استطلع آراء 150 من رؤساء أقسام المشاريع. ما يقرب من ثلاثة أرباعهم أيدوا مظاهرة علنية للقنبلة، والتي اعتقدوا أنها ستجعل اليابان تستسلم. أيد 15% فقط الاستخدام العسكري المباشر للقنبلة.
وصل الفيزيائي البولندي البريطاني، جوزيف روتبلت، إلى المختبر في لوس ألاموس عام 1944 ليتولى رئاسة القسم النظري للمشروع، لكنه غادر في وقتٍ لاحق من ذلك العام عندما علم العلماء أنَّ ألمانيا النازية بعيدة عن تطوير قنبلة نووية خاصة بها. (كانت مواجهة الترسانة النووية المحتملة للنازيين هدفاً رئيسياً لـ"مشروع مانهاتن").
لم يُسمح لروتبلت، الذي واجه منذ فترة طويلة اتهامات بالتجسس لصالح السوفييت، بالعودة إلى الولايات المتحدة الأمريكية حتى عام 1964. ومع ذلك، لم توقف مثل هذه الاتهامات حملته المناهضة لإنتاج أسلحة نووية. نشر روتبلت كتاباً في عام 1993 دعا فيه إلى تفكيك جميع أسلحة الدمار الشامل الموجودة على كوكب الأرض.
في النهاية، كان لدى البعض في الجيش مخاوف. كتب وكيل البحرية رالف بارد إلى وزير الحرب هنري ستيمسون: "يجب أن يكون لدى اليابان بعض التحذير الأولي".
علماء رفضوا المشاركة في مشروع مانهاتن من البداية
لم تكن وعود الشهرة والثروة تستحق تكلفتها الأخلاقية بالنسبة لعدد قليل من العلماء. عندما تواصل مسؤولو "مشروع مانهاتن" مع ليز مايتنر، وهي فيزيائية نمساوية يُنسب إليها الفضل في اكتشاف الانشطار النووي، للانضمام إلى المشروع، رفضت قائلة: "لا شأن لي بإنتاج قنبلة".
اتَّخذ عالم الفيزياء النووية الإيطالي، فرانكو راسيتي، وكذلك العالم الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء، إزيدور إسحاق رابي، نفس موقف ليز مايتنر. رفض رابي عرضاً من أوبنهايمر ليصبح نائب مدير المشروع بأكمله.
الندم على المشاركة في صنع القنبلة النووية يعني الاتهام بالخيانة
انضم العالم الفيزيائي المجري الأمريكي، ليو زيلارد، إلى قائمة العلماء النادمين على العمل في مختبر لوس ألاموس. كان زيلارد أحد الذين ساعدوا، جنباً إلى جنب مع ألبرت أينشتاين، في إطلاق "مشروع مانهاتن".
في عام 1945، انتقل زيلارد من قسم إلى آخر لجمع توقيعات على التماس لإثناء الرئيس الأمريكي آنذاك هاري ترومان عن اتخاذ قرار إسقاط قنبلتهم المُروّعة على هيروشيما وناغازاكي.
جادل الالتماس، الذي وقَّعه أكثر من 70 خبيراً، بأنَّه بينما كان يجب الوصول سريعاً إلى نهاية موفقة للحرب العالمية الثانية، فإنَّ أي هجوم على اليابان سيكون غير مبرر ما لم تُمنح البلاد فرصة للاستسلام.
تسبب هذا الالتماس في إثارة العداء بين ليو زيلارد من جهة والحكومة الفيدرالية والجيش وأوبنهايمر، الذي تأكَّد من أنَّ العلماء الموجودين في مختبر لوس ألاموس لم تسنح لهم أي فرصة للتوقيع على تلك الوثيقة.
أوبنهايمر شعر بالسوء لكنه لم يكن نادماً بشكل واضح
في خطابه الوداعي الذي ألقاه أمام علماء لوس ألاموس في خريف عام 1945، لم يبدُ على أوبنهايمر أي تردد أو ندم على ما قام به. فقد شعر أن شخصاً ما كان سيصنع القنبلة دائماً في نهاية المطاف.
قال أوبنهايمر في خطابه: "إذا كنت عالماً، فلا يمكنك إيقاف شيء من هذا القبيل. إذا كنت عالماً، فأنت تؤمن أنَّه من الجيد معرفة كيف يعمل العالم ومن الجيد معرفة الحقائق ومن الجيد أن نقدم للبشرية بأسرها أكبر قوة ممكنة لإدارة العالم والتعامل معه وفقاً لمفاهيمه وقيمه".
فقد شعر أنه من المهم أن تصل الولايات المتحدة إلى هذا الإنجاز أولاً، لا سيما عندما كان من الواضح أن النازيين كانوا يحاولون أيضاً لتطوير سلاح نووي. وبهذا المعنى، فإن إيمان أوبنهايمر بالواجب جعله، إن لم يكن دائماً فخوراً، فعلى الأقل استسلم لدوره في صنع القنبلة.
في وقت من الأوقات، زار أوبنهايمر اليابان عام 1960 في رحلة مع زوجته. وفقاً لموقع Japan Today، قال: "لا أعتقد أن المجيء إلى اليابان قد غير إحساسي بالضيق بشأن دوري في هذا الجزء من التاريخ بأكمله. كما أنه لم يجعلني أشعر بالندم تماماً على مسؤوليتي عن النجاح التقني للمشروع. ليس الأمر أنني لا أشعر بالسوء. إنني لا أشعر بأنني أسوأ الليلة مما أشعر به الليلة الماضية".
لذا، شعر أوبنهايمر بالسوء، على مستوى ما، لدوره في التفجيرات، لكن بقدر ما يمكن أن تقول الروايات التاريخية، فإن أوبنهايمر لم يقدم مطلقاً اعتذاراً رسمياً أو غير رسمي عن مشاركته في صناعة القنبلة النووية، أو استخدامها في مواقع الاختبار، أو استخدامها في اليابان.
ظل مهتماً بطبيعة القنبلة كتهديد وجودي للبشرية لبقية حياته، لكن لم يقدم اعتذاراً صريحاً. ومع أنه غيَّر بالفعل وجهة نظره في وقتٍ لاحق من حياته عندما عارض القنابل الهيدروجينية باعتبارها أكثر تدميراً من نظيراتها الذرية. لكن مناشداته، على غرار مناشدات زملائه من قبله، جاءت متأخرة للغاية.