منذ أكثر من 120 عاماً، وصل إلى شواطئ أستراليا الآلاف من رعاة الإبل الأفغان ومن مقاطعات باكستان والهند، تاركين منازلهم وعائلاتهم خلفهم. كان هؤلاء الرجال هم أول المسلمين في أستراليا.
كان الرجال يرتدون العمائم ويحملون المصاحف، ويُعرفون باسم "الجمّالين" أو "الأفغان" أو "الغان".
كانت مهمتهم هي قيادة قوافل الجمال عبر أراضي أستراليا النائية، ونقل الإمدادات من المدن إلى البلدات الإقليمية، ومناجم الذهب، والمحطات. وكانوا أيضاً مرشدين في الرحلات الاستكشافية، وتحديد مصادر المياه، وضمان رحلات آمنة للمسافرين.
بدون مساهمتهم، لم تكن الكثير من المجتمعات من السكان البيض في أستراليا قادرة على البقاء على قيد الحياة. وعلى الرغم من كل ما قدموه من خدمات، قد تتصور أنهم حصلوا على التقدير والعرفان على الأقل، لكن الواقع كان عكس ذلك تماماً.
رحلة رعاة الإبل الأفغان في أستراليا
مع بداية القرن الثامن عشر، حينما غزا البريطانيون أستراليا، ولأن البراري الأسترالية تغطي أكثر من ستة ملايين كيلومتر مربع، ومناخها شديد الحرارة، لم تستطِع الخيول التوغل كثيراً في تلك الأجواء.
ومن أجل إنشاء البنية التحتية المطلوبة، مثل خطوط القطارات والطرق، كان الحل أن يستورد البريطانيون نحو 20 ألف جمل إلى أستراليا من شبه الجزيرة العربية والهند وأفغانستان. ومع هذه الإبل جاء ما لا يقل عن ألفي راعٍ من تلك المناطق نفسها.
كان الرجال الذين رافقوا هذه الإبل وقاموا برعايتها وقيادتها، يُطلق عليهم "الجمّالين الأفغان".
تم إحضار أول رعاة الإبل الأفغان إلى جنوب أستراليا في عام 1838؛ للمساعدة أيضاً في استكشاف المناطق الداخلية من البلاد، حيث لعبت الجمال في أستراليا دوراً أساسياً في التنقل عبر التضاريس الصحراوية القاسية التي قد تكافح الخيول معها.
وعلى الرغم من أن رعاة الإبل جاءوا من مجموعات عرقية مختلفة ومجموعة مختلفة من المناطق مثل بلوشستان وكشمير والبنجاب، فإنهم عُرفوا باسم "الأفغان"، واختصرت تلك التسمية فيما بعد إلى "الغان". وكان غالبيتهم منهم من المسلمين.
عمل "الغان" بجميع أنحاء القارة، في نقل المنتجات والمياه والبريد والمعدات، في وقت كانت الطرق والسكك الحديدية لا تزال محدودة.
وكان استخدام الجمال في أستراليا أمراً حاسماً في المشاريع الضخمة مثل بناء التلغراف، والتي حملت قوافل الجمال من أجلها، الإمدادات والمواد المستخدمة في أعمال المسح والبناء.
كما رافقوا عدداً كبيراً من رحلات الاستكشاف في المناطق الداخلية غير المعروفة في القارة. وساهم هؤلاء المسلمون الأوائل بشكل كبير في تنمية المناطق الريفية والنائية بأستراليا.
وخلال فترة جفاف شديد ضربت شرق أستراليا من عام 1895 إلى عام 1902، كان للغان دور كبير في إنقاذ التجمعات السكنية من الموت، بنقل الإمدادات إليهم من المناطق البعيدة.
وفي كتاب "جمّالو أستراليا المسلمون"، تقول المؤلفة آنا كَني: "كان لهؤلاء الأشخاص إسهاماتٌ ثقافية واقتصادية مهمة في المجتمع الأسترالي، برغم أنهم لم يلقوا اعترافاً كافياً من جانب المكونات الرئيسية لهذا المجتمع".
العنصرية وتشويه السمعة كانا جزاء رعاة الإبل الأفغان
لم يُسمح للغان بالعيش مع البِيض في المدن نفسها، وعاشوا بشكل عام، بعيداً عن السكان البيض، في البداية بمخيمات مؤقتة للإبل، ثم أصبحوا يعيشون في بيوت متداعية من القصدير. وفي سنة 1882، قرر اثنان من رعاة الإبل الأفغان، شخص يدعى عبد القادر والآخر الملا عاصم خان، بناء أول مسجد في أستراليا.
كان ذلك المسجد مجرد بناء متواضع من الطين والخشب، وتم تطويره لاحقاً، وبقي ذلك المسجد قائماً حتى تهدم في عام 1956، ولكن عام 2003، قام أحفاد "الغان" من المسلمين في أستراليا بإعادة بنائه مرة أخرى.
على الرغم من مساهمتهم الفعالة في أستراليا، فإن "الغان" تعرضوا للتمييز على أساس مظهرهم ولون بشرتهم ودينهم. ولم يُسمح لهم بإحضار عائلاتهم إلى البلاد. لذلك تزوج "الغان" من نساء السكان الأصليين لأستراليا. ونادراً ما كانت تحدث زيجات بين الغان والنساء البيض.
في عام 1898، كان هناك 300 مسلم في مدينة اسمها "كولجاردي"، كان هؤلاء المسلمون يقدمون الخدمات الأساسية من نقل الإمدادات لمناجم الذهب، كانت الجمال لا غنى عنها، في غرب أستراليا حيث انتشرت تلك المناجم، حملت الجمال بقيادة "الغان" الطعام والماء وأدوات التنقيب عن الذهب، والإمدادات الأخرى.
ومع ذلك رأى عمال مناجم الذهب من البيض، الأفغان كعمالة رخيصة ومنافسة غير مرغوب فيها، وتم شيطنة "الغان" في الصحافة، واتهامهم بارتكاب أعمال عدوانية مختلفة، من ضمنها احتكار آبار المياه، وأنهم كانوا يلوثون تلك الآبار بغسل ملابسهم والاستحمام فيها.
الطرد والحرمان من الجنسية ونهاية رعاة الإبل الأفغان
أُدخلت تشريعات تمييزية ضد "الغان"، من قبل الحكومات الاستعمارية بأستراليا، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ لمنعهم من الحصول على الجنسية والحرص على طردهم من أستراليا.
ومن الأمثلة على ذلك، قانون عام 1895 الذي منع "الغان" من التعدين في مناجم الذهب بغرب أستراليا، وكذلك قانون تقييد الهجرة أو ما يعرف بـ"سياسة أستراليا البيضاء"، 1901-1958، ورفض منحهم الجنسية.
وكان من يسافر منهم لزيارة أسرته خارج أستراليا، يتم رفض دخولهم مرة أخرى لأستراليا بحجج وأعذار مختلفة.
بعد ظهور الطرق المعبدة والشاحنات، انتهى عصر "الغان"، وعاد بعضهم إلى ديارهم، بينما بقي بعضهم ليعيشوا ما تبقى من أيامهم بهدوء في بلداتهم، وقرب مساجدهم، حيث تم الاعتناء بهم ودفنهم في مقابر المسلمين بأستراليا، من قبل جيل الشباب من المسلمين من أبنائهم وأحفادهم.
الجمال في أستراليا لم تكن هادئة مثل "رعاتها"
مع انتشار المحركات والسيارات في ثلاثينيات القرن الماضي، لم تعد هناك حاجة للإبل، وأُطْلِقَ سراح آلاف منها إلى البرية، ومع عدم وجود حيوانات تفترس تلك الإبل أو تحافظ على تعدادها تحت السيطرة، تكاثرت بشكل كبير لتتجاوز أعدادها اليوم نحو المليون جمل، ضمن قطعان تتجول بالمئات وأحياناً بالآلاف.
تكمن المشكلة في أن تلك القطعان تشرب المياه بكميات كبيرة، بما يساهم في استفحال الجفاف؛ ومن ثم ارتفاع درجات الحرارة وانتشار الحرائق، ويمكن أن تقوم بتخريب الممتلكات وخزانات المياه في المناطق السكنية، من أجل أن تروي عطشها، في عام 2009، حاصر قطيع من 6 آلاف جمل، مدينة "أليس سبرينغز" شمالي أستراليا.
وهو ما اضطر سكان المدينة إلى البقاء حبيسي منازلهم لعدة أيام؛ خوفاً من تعرضهم للأذى على يد الحيوانات التي يبلغ ارتفاعها أكثر من 3 أمتار، وتزن ما يقارب 900 كيلوغرام، والتي تتحول لحالة من الهيجان بسبب شعورها بالعطش الشديد، الذي قد يدفعها إلى مهاجمة من يقف في طريقها.
دمرت تلك الجمال خزانات المياه، وهاجمت حدائق المنازل؛ في محاولة لشرب المياه من كل ما يمكنها شرب المياه منه، سواء كانت خراطيم المياه، أو الحمامات الخارجية، حتى إن بعض تلك الجمال حطمت وحدات التكييف بحثاً عن الماء، بسبب تجمع بعض الرطوبة على أنابيب وحدات التكييف.
الأسوأ أن جثث بعض الجمال قُتلت في التدافع بمناطق تخزين المياه والبحيرات، وتفسخت ولوثت إمدادات مياه الشرب.
خصصت الحكومة حينها 19 مليون دولار أسترالي لبرنامج لخفض أعداد الجمال البرية، بما في ذلك إطلاق النار عليها من الطائرات المروحية، وتتكرر حملات القتل تلك باستمرار؛ لمحاولة السيطرة على أعداد الجمال المتزايدة، في عام 2007، تم التعاقد مع صيادين لقتل 100 جمل أسبوعياً.
في بعض المناطق يكون الإعدام هو الخيار الوحيد. وفي حالات ثانية يتم تصدير معظم الجمال إلى دول جنوب شرقي آسيا حيث يتم ذبحها.
عام 2020 أعدمت السلطات الأسترالية أكثر من 5 آلاف رأس من الإبل، بسبب ما سمته "استجابة عاجلة للتهديدات" التي يمثلها ارتفاع عدد الإبل البرية وسط انتشار الجفاف. بينما تجوب قطعان الجمال في أستراليا شاهدة على حقبة تاريخية مهمة في القارة، وعلى شريحة منسية من رعاة تلك الحيوانات وما قدموه من خدمة في بنائها.