يزخر عالمنا العربي بالعديد من الأماكن الدينية التاريخية التي لها دلالة خاصة، خاصة إذا كان يحمل قصة تاريخية مميزة، بالقيروان على سبيل المثال، عاصمة تونس الإسلامية، والتي تستقطب سنوياً عدداً كبيراً من السياح من مختلف أنحاء العالم، توجدمسجد عقبة بن نافع أحد المعالم الحضارة الإسلامية التي يعود تاريخ بنائها للعديد من القرون.
هذه المدينة المميزة أدرجت ضمن قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونيسكو" سنة 1988، إذ يمثل مسجد عقبة بن نافع القابع داخلها أحد أهم معالمها، والذي يعود تاريخ بنائه إلى سنة 50 بعد الهجرة، أي ما بين سنة 670 و671 للميلاد.
بداية القصة والدخول الإسلامي
قبل الدخول الإسلامي إلى شمال إفريقيا وتونس على وجه الخصوص كان الرومان يستوطنون هذه المناطق إذ جعلوا من مدينة القيروان والمدن المحيطة بها أماكن للعيش، خاصة أنها مليئة بأشجار النخيل والزيتون بالإضافة إلى الثروات المائية.
من بين أهم المعالم المسيحية التابعة للرومان في المنطقة كانت كنيسة "دوناتيا" وتُنسَب هذه الكنيسة "للحركة الدينية الدوناتية المنشقة عن المذهب الكاثوليكي، وكانت معارَضة اجتماعية انضم إليها المستضعفون الذين لم تستوعبهم الحضارة الرومانية.
ولكن الكنيسة عادت مجدداً إلى أيدي الكاثوليكيين حتى جاءت طلائع الفتح العربي الإسلامي سنة 49 للهجرة على يد القائد الإسلامي عقبة بن نافع، الذي قرر دخول هذه المنطقة الاستراتيجية عن طريق الصحراء، فيما تجنب الطريق الساحلي خوفاً من الهجوم البيزنطي.
من بين أولى الخطوات التي قام عقبة بن نافع بها بعد فتح القيروان: تحويل كنيسة "دوناتيا" إلى مسجد حَمل اسمه بعدما اعتنق سكان المنطقة الإسلام، وبهذا يكون هذا المسجد أول مسجد يشيد بالقيروان ودول المغرب العربي سنة 50 للهجرة.
مسجد عقبة بن نافع "المسجد الكبير"
حسب كتاب "ابن نافع" للكاتب ضيف الله يقال إن المسجد بني على يد عقبة بن نافع القائد العسكري الذي يعد من أبرز قادة الفتح الإسلامي للمغرب في عهد الخلافة الراشدة ثم الدولة الأموية، ثم أصبح والياً على إفريقية "تونس" مرتين في عهدي معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية، وكان عقبة بن نافع يلقّب بـ"فاتح إفريقية".
وأمر عقبة بن نافع ببناء القيروان لتكون معسكراً لرباط المسلمين، واستمر بناؤها من سنة 51هـ إلى سنة 55هـ، وبُني بها المسجد الأعظم المعروف اليوم بمسجد عقبة بن نافع.
وكان الجامع حين أنشئ صغير المساحة تستند أسقفه على الأعمدة مباشرة، أما بناؤه في شكلهِ وحجمهِ وطرازهِ المعماري الحالي فيعود أساساً إلى عهد "الدولة الأغلبية" في القرن الثالث الهجري، أي القرن التاسع الميلادي، وقد تواصلت أعمال الصيانة والتحسينات خصوصاً في ظل الحكم الصنهاجي ثم في بداية العهد الحفصي.
وتبلغ مساحة مسجد عقبة بن نافع قرابة 10 آلاف متر مربع، وحرمُ الصلاة فيهِ واسع ومساحته كبيرة، ويستند إلى مئات الأعمدة الرخامية، هذا إلى جانب صحن فسيح الأرجاء تحيط بهِ الأروقة، ومع ضخامة مساحته يعد أيضاً تحفة معمارية وأحد أروع المعالم الإسلامية.
مسجد القيروان والتغيرات المعمارية
حافظ مسجد عقبة بن نافع على المعمار الروماني من الأعمدة والتيجان التي لا تزال موجودة إلى اليوم، بالإضافة إلى بعض اللمسات الإسلامية مثل المحراب، كما كان هذا المسجد شاهداً على العديد من المذاهب، فبين سنة 777 إلى 909 للميلاد خلال حكم الدول الرستمية شهد المسجد المذهب الإباضي، والذي أضاف إليه صومعة دائرية.
كما حُطمت العديد من مظاهر الزينة التي كانت موجودة داخل المسجد وألغي أغلبها، بالإضافة إلى توسيع المسجد بتشييد ساحة كبيرة للتدريس، ثم تحول إلى مدرسة لتعليم هذا المذهب.
أما التحول الكبير في تاريخ المسجد فحدث خلال حكم الدولة المرادية ما بين سنة 1631 و1702 التي أتاحت لمفتيها استعمال الجامع لتقديم دروس جديدة تشجّع الناس على التوطين بالمدينة وتحرّم النهب وتحث على التهدئة الاجتماعية وطاعة الحاكم.
أما خلال فترة الاستعمار الفرنسي لتونس قام المستعمر بهدم المسجد بالإضافة إلى خلفه بوَعد إعادة بنائه، وبعد الاستقلال استرجع المسجد دوره في تقديم الدروس الدينية بعدما قامت الحكومة التونسية بإعادة ترميمه.
إد هدم جزء كبير من المنارة التاريخية، بالإضافة إلى العديد من الآثار باهظة الثمن، ورغم الصيانة إلا أن المعالم الرئيسية للمسجد لم تعد موجودة بالكامل، إذ لم يتبق من أوّل مسجد بُني في إفريقيا سوى أعمدة وتيجان رومانية مرصوفة في صحنه بلونها الأحمر الأصلي، شاهدة على العصر وعلى عراقة هذا الصرح.