يستعمل الكثير منا ماركات العطور الفرنسية الفخمة، وفي ظنّ الكثير أنّ فرنسا أو في أقل تقدير بلد أوروبي هو أوّل بلدٍ اخترع العطور، لكن في الحقيقة أنّ القارة الأوروبية بأكملها لم تعرف العطور إلّا في منتصف القرن الـ16، وكانت حصراً على الطبقة الثرية بهدف تغطية روائح أجسامهم، نتيجة قلة الاستحمام وعادات النظافة الشخصية السيئة التي كانت منتشرة في أوروبا خصوصاً بين الفرنسيين.
فقد استخدم الناس العطور بعدة طرق مختلفة على مر السنين، قبل أن تصبح عنصراً أساسياً في عالم الموضة والأزياء.
ففي العديد من الحضارات والثقافات القديمة، اُستخدمت العطور لتمييز النبلاء، فقد كان بإمكان الطبقات الغنية فقط حينها الحصول على المنتجات المعطرة لأنها كانت باهظة الثمن ويصعب الوصول إليها.
العطور بدأت قبل 5 آلاف سنة
من بين العديد من حضارات العالم القديم، كانت الحضارة الهندوسية أول من استخدم الزيوت العطرية في التاريخ، وكان ذلك قبل 5 آلاف سنة، فحسب موقع healthy، وجدت بعثة أثرية استكشافية بقيادة عالم الآثار باولو رفيستي في عام 1975، جهازاً غير عادي مصنوعاً من الطين، معروضاً مع حاويات عطور من الطين، في متحف تاكسيلا، كان ذلك الشيء عبارة عن جهاز تقطير لفصل الزيوت الأساسية الموجودة في النباتات في وادي السند.
حتى لو كانت الزيوت الأساسية متوفرة في مثل ذلك التاريخ المبكر، ففي الواقع، كان الشكل الأول للعطور عبارة عن البخور، الذي صنعه سكان بلاد الرافدين لأول مرة منذ حوالي 6 آلاف عام، إذ كانت الحضارات القديمة تحرق مجموعة متنوعة من الراتنجات والأخشاب في احتفالاتهم الدينية.
وعرف ذلك الشكل من العطور، تطوراً كبيراً حين شق البخور طريقه إلى مصر قبل 5 آلاف سنة من الآن، وهناك كانت العطور الناتجة عن البخور تستخدم فقط في الطقوس الدينية، وسرعان ما أصبحت هذه العطور البخورية متاحة لجميع المصريين، حيث تخلى الكهنة تدريجياً عن حقوقهم الحصرية في استخدام البخور، وحينها شرع المصريون في استخدامات جديدة للبخور عبر تنقيعها في الماء ودهن بشرتهم بالزيوت المعطرة الناتجة عن ذلك من أجل المتعة.
كانت امرأة من بابل تعرف باسم "تابوتي" أوّل كيميائية تصنع العطور، إذ توصل الباحثون إلى وجودها على لوح مسماري عام 1200 قبل الميلاد في بلاد الرافدين أيام الحضارة البابلية، قامت تابوتي بكتابة رسالة عن صناعة العطور وطورت تقنياتها المختلفة بما في ذلك التقطير، والتشبع البارد، والصبغة، واستخراج الرائحة، كما طورت أيضاً تقنية استخدام المذيبات، مثل الماء المقطر والكحول لجعل الروائح أخف وزناً وأطول تأثيراً من أي زيوت عطرية أخرى.
الفراعنة وضعوها في الزجاجة، والرومان اعتبروها نجاسة
عرفت العطور تطوراً على مدى مرّ السنين، وكان أول استخدام لزجاجات العطور عند الفراعنة، ويعود ذلك إلى حوالي ألف سنة قبل الميلاد، بعد أن اخترع الفراعنة الزجاج، وكانت زجاجات العطور من أول الاستخدامات الشائعة للزجاج.
ولم يكن الفرس القدماء أقل افتتاناً بالروائح من المصريين، فقد حكموا تجارة العطور لمئات السنين، ويُنسب إليهم الفضل بوصفهم مخترعي العطور غير الزيتية، فقد ساعد الكيميائيون الفرس والعرب في تقنين إنتاج العطور وانتشار استخدامها في جميع أنحاء العالم القديم.
أمّا الرومان، فبعد أن انبهروا بالبخور وصار جزءاً من طقوسهم الدينية، صارت العطور نجساً ومرتبطة بالإغراء والمعتقدات الشريرة والوثنية وحتى السحر، وذلك بعد سقوط روما في القرن الثالث.
وعلى العموم فقد شهدت فترة صعود المسيحية انخفاضاً في استخدام العطور في معظم العصور الوسطى المظلمة بأوروبا، بالمقابل كان العالم الإسلامي هو السبب الذي أبقى تقاليد العطور على قيد الحياة خلال هذه الفترة، وساعد على إعادتها للحياة مع بداية التجارة الدولية خلال تلك الفترة.
وقبل اكتشاف عملية التقطير، كانت العطور السائلة تتألف من خليط من الزيت والأعشاب المطحونة، وكان ماء الورد أكثر حساسية، واكتسب شعبية على الفور.
أثرت المكونات الخام وتكنولوجيا التقطير بشكل كبير على صناعة العطور والتطورات العلمية الغربية، وخاصة الكيمياء.
العطور تعرف عصرها الذهبي مع الإيطاليين والفرنسيين
رغم أنّ أوروبا التي كانت غارقة في الظلام خلال العصور الوسطى، كانت تعتبر العطور نجاسة في وقت ما، إلا أن اعتقاداً انتشر سريعاً بين الأوروبيين بأنّ الهواء السيئ يمكن أن يسبب المرض، فقد كانوا يحملون معهم كرة من المواد المعطرة داخل حقيبة مفتوحة جميلة لدرء العدوى والحفاظ على الهواء من حولهم نظيفاً.
كانت تلك الفكرة قد استوردت من شبه الجزيرة العربية بعد أن عاد الصليبيون من الحروب حاملين معهم أسرار صناعة العطور.
ثمّ سرعان ما اهتم الأوروبيون بصناعة العطور
بحلول القرن الـ14م، كان الإيطاليون قد أتقنوا تقريباً عملية صنع العطور وبدأت العطور السائلة في استبدال العطور الصلبة، أعاد المستكشف ماركو بولو العديد من العطريات الفريدة من رحلاتهم التي حولت البندقية إلى مركز رئيسي لتجارة العطور.
غالباً ما يُنسب الفضل إلى كاثرين دي ميديسي، وهي إيطالية ثرية تزوجت من الملك الفرنسي في عام 1519، في جلب العطور إلى بقية أوروبا. ابتكر عطارها الإيطالي، رينيه لو فلورنتين، عطراً مميزاً لها من زهر البرتقال والبرغموت، كما ساعد النبلاء الآخرون مثل الملكة إليزابيث ملكة المجر في نشر شعبية العطور في جميع أنحاء أوروبا.
فكان أول عطر حديث (زيوت ممزوجة بمحلول كحولي) هو ماء المجر، وكان هذا العطر عبارة عن مزيج من الليمون وزهر البرتقال والزعتر وإكليل الجبل.
شهد القرن الـ16 انتشار العطور في فرنسا، وخاصة بين الطبقات العليا والنبلاء، بمساعدة "محكمة العطور"، المحكمة التي أسسها لويس الخامس عشر، بحيث تم تعطير كل شيء: الأثاث والقفازات والملابس الأخرى، كما ساعد اختراع ماء كولونيا في القرن
الـ18 على استمرار نمو صناعة العطور.
وفي القرن الـ19، كان نابليون وزوجته الإمبراطورة جوزفين يحبان استخدام ماء الكولونيا مع الفواكه الحمضية الطازجة والروائح الخفيفة.
كان تركيز المواد الخام العطرية في ماء الكولونيا منخفضاً جداً، حيث احتوت في المتوسط على 2 إلى 3% من الزيوت الأساسية. ومن ثم، كانت هذه المياه العطرية رخيصة الثمن، مما أدى إلى انتشارها بسرعة.
وبذلك، كان القرن الـ19 نقطة تحول حقيقية في تاريخ انتشارها وصناعتها أيضاً. فقد جرى اختراع تقنيات استخراج روائح طبيعية جديدة، والتي وسّعت إلى حد كبير من نطاق ابتكارات خبراء العطور.
وفي الوقت نفسه، سمح ظهور الكيمياء بتطوير الجزيئات الاصطناعية؛ مما جعلها اليوم في متناول عامة الناس وأتاح تعطير كل شيء من الغسيل والملابس، إلى الخزانات والأماكن العامة والمنازل.
وعلى الرغم من استمرار صانعي العطور المتخصصة في تلبية احتياجات الأثرياء، إلا أنّ العطور تتمتع اليوم باستخدام واسع النطاق، وليس فقط بين النساء.
ومع ذلك، لم يعد بيع العطور من اختصاص صانعي العطور فقط، في القرن الـ20، بدأ مصممو الملابس في تسويق الروائح الخاصة بهم، ويمكن العثور تقريباً على أي شخص مشهور يحمل علامة تجارية، تجده يبيع عطراً يحمل اسمه.