من الأعياد إلى الحروب، والخوف من الكوارث الطبيعية، وحتى الاحتفال باستكمال المشاريع المعمارية، كانت بعض الحضارات القديمة تعتبر القرابين والتضحيات البشرية أمراً عادياً ومألوفاً.
وصف الغزاة الإسبان التضحية البشرية في حضارة الأزتيك على سبيل المثال بتفاصيل مروعة، حيث تصف المخطوطات احتفالاً بعد الانتهاء من بناء الهرم الأكبر في "تينوختيتلان" بالمكسيك.
في تلك الاحتفالات، كان هناك كاهن قيّد ضحية بشرية بينما استخدم كاهن آخَر أداة حادة لقطع قلبه، ليتدفق الدم إلى أسفل الهرم حيث يتم جر ضحية سابقة تم قتلها، وصدرها مفتوح ووجهها تم سلخه، وعلى الرغم من أن كثيراً من القصص حول التضحية البشرية التي تعود إلى العالم القديم تبدو أقرب للخيال، فإن آثار الحضارات القديمة بينت أن التضحية البشرية كانت ظاهرةً حقيقية جداً.
1- أطفال لولايلاكو التضحيات البشرية في حضارة الإنكا
في عام 1999 وبالقرب من قمة بركان "لولايلاكو" بالأرجنتين، تم العثور على 3 مومياوات في حالة جيدة جداً لأطفال من الإنكا، قُتلوا ضمن طقوس القرابين البشرية في إمبراطورية الإنكا القديمة.
وبحسب المصادر فحتى منتصف القرن السادس عشر، على سبيل المثال، كتب المؤرخ الإسباني "خوان دي بيتانزوس" عن طقوس التضحية البشرية التي تضمنت التضحية بالأطفال على نطاق واسع، ضمن طقوس "كاباكوتشا".
كان ضحايا تلك الطقوس من الأطفال المعافين جسدياً، الذين يؤخذون من عائلاتهم ويخضعون لطقوس تطهيرية تستمر لشهور وأحياناً لسنة كاملة في عاصمة الإنكا، ومن هناك، كانوا يُحملون إلى موقع جبلي ويتركون ليلقوا حتفهم، أو يحظوا بمساعدة من أجل أن يموتوا عن طريق ضربات عنيفة.
وبينما تُظهر بقايا جثث أخرى أدلة على العنف، مثل ضربة قوية على الجمجمة، كانت مومياوات الأطفال الـ3 مختلفة، وأتاحت جثثهم المحفوظة بشكل جيد معرفة ظروفهم المعيشية في الفترة الزمنية التي سبقت وفاتهم.
وعلى ما يبدو فإنهم حصلوا على حمية غذائية عالية البروتين، وحصلوا على كثير من الكحول وأوراق الكوكا، كما أن الأطفال خُدروا عندما وُضعوا داخل مقبرتهم، بينما لم يتم حسم سبب إعطائهم نبتة الكوكا، بعض الآراء ترجح أنها كانت جزءاً من الطقوس، فيما يرى بعض المختصين أن الكوكا كان الهدف منها تخدير أولئك الأطفال، لتقليل مقاومتهم.
هذه النظرية مدعومة من خلال وضعية إحدى المومياوات التي كانت لطفلة تبلغ من العمر 13 سنة، حيث تم العثور عليها في وضعية الجلوس داخل الهيكل الشبيه بالمقبرة، وتم العثور على أوراق الكوكا الممضوغة في فم المومياء، وحقيقة أن القطع الأثرية المحيطة بها لم يتم تحريكها تدل على أنها كانت مخدرة في أثناء ممارسة طقوس التضحية البشرية، حتى ماتت من البرد لاحقاً.
2- رُضَّع قرطاج قرابين بشرية في جِرار
بعد نهاية الحروب البونيقية المدمرة التي استمرت أكثر من 100 عام بين القرطاجيين وخصومهم، بين عامي 246 و146 قبل الميلاد، تم تدمير قرطاج بالكامل على يد الرومان، ولم يتبق ما يمكن الاعتماد عليه لمعرفة المجتمع القرطاجي، سوى روايات المنتصرين، التي وصفت طقوس التضحية البشرية التي مارسها القرطاجيون.
المختلف في طقوس التضحيات البشرية بقرطاج أنها كانت تستخدم الأطفال الرضَّع قرابين للآلهة، وبسبب كون هذه الروايات صدرت من أعداء قرطاج، شكك فيها البعض على أنها مجرد دعاية رومانية، لكن الاكتشافات الأثرية الحديثة ربما تؤكد هذه الرواية.
وذلك بعد أن عثر علماء الآثار على مواقع دفن تسمى "توفة"، احتوت على عدد ضخم من الهياكل العظمية للرضع مدفونة داخل جرار بعد حرقها.
وفوق المقابر كانت هناك شواهد تشكر الآلهة وتقول: "الآلهة سمعتني وأسعدتني"، واستُبعد الرأي القائل إن هذه المواقع ربما كانت مجرد مقبرة أطفال توفوا لأسباب طبيعية، بسبب أن أعمار الرضع تشير إلى أنهم تجاوزوا المراحل الخطيرة في بداية الطفولة، فهؤلاء الرضع قُدِّموا إلى الآلهة بوصفهم أثمن ما يملكه آباؤهم.
3- التضحيات البشرية الصينية القديمة لإنهاء المجاعة
بفضل نظام التدوين القديم في الحضارة الصينية، نحن نعلم الكثير عن تفاصيل المجتمع الصيني والطقوس القديمة في فترة أسرة شانغ (1600-1046 قبل الميلاد)، منها ما يعرف باسم "مخطوطات الكهانة العظمية"، التي كانت تستخدم لاتخاذ القرارات المصيرية.
تتكون هذه المخطوطات من عظام وأصداف سلاحف تُكتب المسألة عليها، وبعد ذلك كانت تُعرَّض للحرارة، وكانت طريقة تصدع العظام هي التي تكشف عن جواب المسألة.
في أحد الأمثلة، استخدمت شظية من جمجمة بشرية للكتابة عليها من أجل الكهانة، وهو ما قد يشير إلى احتمالية وجود التضحيات البشرية في الصين القديمة.
وما يؤكد ذلك بشكل قاطع، بعض النصوص التي حُفظت على العظام، والتي كانت تتحدث عن التضحيات البشرية بكل وضوح، حيث كُتب على إحدى هذه العظام: "هل يُضحى بألف رأس من الماشية وألف إنسان؟". وتسجل مخطوطة أخرى كيف أن 9 آلاف إنسان جرت التضحية بهم.
وبحسب تلك المخطوطات كان هناك نوعان رئيسيان من التضحيات البشرية، أحدهما إعدام الخدم والعبيد بأعداد هائلة بعد وفاة أي حاكم، فيُجبرون على اللحاق بهم عند وفاتهم، أو يفعلون ذلك طوعاً، وتتضمن التضحية الأخرى قتل أسرى الحرب لإرضاء الآلهة وإنهاء مجاعة ما.
4- التضحيات البشرية في بلاد الرافدين لخدمة الملكة
اعتاد البشر في الحضارات القديمة دفن مقتنيات الموتى معهم لاستخدامها في العالم الآخر، وذهب بعضهم لقتل ودفن الخدم، لينضموا إلى سيدهم ويعملوا في خدمته بعد الموت، وهذا ما حدث بمدينة أور في بلاد الرافدين.
ازدهرت أور في الألفية الثالثة قبل الميلاد، وكانت موطناً لأحد معابد "الزقورة" الكبيرة المكرسة للإله نانا في أساطير بلاد بابل، وبسبب الحالة الجيدة نسبياً للمقابر الملكية في مدينة أور، استطاع العلماء العثور على بعض أهم الاكتشافات الأثرية في القرن العشرين.
حيث كشفت المقتنيات الثمينة من الذهب والعاج والياقوت عن ازدهار المدينة ووضعها الاقتصادي وتقدمها الحضاري، بينما عرضت المقابر وجهاً مظلماً لمدينة أور.
في مقبرة الملكة "بوابي"، كانت هناك 52 جثة مدفونة مع الملكة، ويبين فحص تلك الجثث أن أجسادها جرى تسخينها ومعالجتها بأبخرة الزئبق في محاولة لحفظها. وعندما اكتُشفت هذه الجثث، اعتُقد أنها جثث أشخاص ربما سُمموا قبل إجبارهم على دخول المقبرة.
كما كشف مزيد من الفحوصات، عن وجود ثقوب في جماجمهم وثقوب داخل أدمغتهم بينما كانوا لا يزالون على قيد الحياة، كما لو أن وتداً حاداً أو رمحاً استُخدم لقتل الضحية.
5- ستونهنج ألمانيا.. مقابر جماعية للقرابين البشرية
مع اهتمام الحضارات القديمة بالفلك والظواهر الفلكية بشكل كبير وكونها جزءاً من الطقوس الدينية، تم بناء معالم وبنايات لها دلالة دينية تتمحور حول الظواهر الفلكية.
أحد تلك المعالم موجود في قرية بوميلته الألمانية، حيث شُيدت 7 حواجز أرضية، وثُبتت في الأرض عمدان خشبية. كانت هذه المداخل مصممة لتصطف مع شروق الشمس في أيام محددة من العام. وبداية من عام 2300 قبل الميلاد، كان الموقع يحظى بعناية جيدة، لكنه هُجر بحلول عام 2050 قبل الميلاد. وأُحرقت العمدان الخشبية، ودُفن الرماد في الثقوب التي خلفتها.
كان من بين الأشياء التي تم العثور عليها في موقع ستونهنج، أدلة على ممارسة سكان تلك المنطقة طقوس الضحايا البشرية، حيث تدل فؤوس حجرية وعظام محطمة على تنفيذ تلك الطقوس في المكان، وفي واحدة من هذه الحفر كان هناك رفات عشر نساء وأطفال.
وفي المقابر القريبة، كانت الجثث ترقد بصورة مرتبة، لكنها في ذلك الموقع كانت مكومة بعضها فوق بعض. وتشير الجثث كذلك إلى وجود علامات على استخدام العنف. فما لا يقل عن جثة واحدة كانت يداها مقيدتين.
6- جثث المستنقعات في أوروبا.. التضحية بالملوك وقلع حلماتهم
ربما لم تستخدم الحضارات الأوروبية عمليات التحنيط لحفظ جثث الموتى، لكن الطبيعة قامت بتلك المهمة عن طريق الصدفة، خاصة في مناطق المستنقعات ذات المستويات المنخفضة من الأكسجين، إضافة إلى بعض المواد الكيميائية في المياه والتي ساهمت في حفظ تلك الجثث بشكل جيد لدرجة أن الشرطة كانت تُستدعى، لأنها تبدو كما لو أنها ضحية جريمة قتل حديثة.
إحدى هذه الجثث تسمى مومياء تولوند، والتي وُجدت مع حبل مصنوع من جلود الحيوانات استُخدم لخنقها، بينما عثر على حبال من الصوف استخدمت لخنق جثث أخرى.
وعكس بعض الضحايا البشرية في الحضارات الأخرى والذين كانوا غالباً من طبقة العبيد وعامة الشعب، أشارت الفحوصات التي أُجريت على جثث المستنقعات، إلى أن أصحابها لم يكونوا يحظون بمعاملة سيئة.
وبسبب المقتنيات الثمينة التي تم العثور عليها معهم، يُعتقد أنهم كانوا أشخاصاً ذوي مراتب رفيعة. بعض التفسيرات حول جثث المستنقعات، لا سيما في أيرلندا، تعتقد أنهم ملوك قدّمهم شعبهم ضمن طقوس التضحيات البشرية.
كان الملك لديه قوة مطلقة، وعندما يسير شيء ما على نحو خاطئ مع الشعب، فليس هناك إلا شخص وحيد ليحمل اللوم. أحدث جثث المستنقعات في أيرلندا استُئصلت منها حلمات الثدي. ولما كان مص حلمات الثدي دليلاً على الخضوع في أيرلندا، فإن استئصال الحلمات يعني إزالة صفة الملكية من الضحية.