حرر صلاح الدين الأيوبي القدس بعد انتصاره في موقعة حطين الفاصلة ضد الصليبيين بالعام 1187، لكن بوفاته في العام 1193؛ كانت الدولة الأيوبية التي أنشأها صلاح الدين موزعة بين أبنائه وإخوته، ودب بينهم داء التفرق، فلم يحافظوا على الدولة التي ورثوها قويةً موحدةً.
بسبب ذلك، عمل الملك العادل – أخو صلاح الدين – على خلعهم واحداً تلو الآخر، حتى استطاع أن يحكم الدولة بكاملها، وجعل الملك العادل ابنه الكامل في حكم مصر، وجعل ابنه المعظم عيسى في دمشق، وأعطى الأشرف موسى حران، واحتفظ العادل لنفسه بالإشراف التام على جميع أنحاء دولته، ما أدى إلى هدوء الصراعات في الدولة لحين. وقد كانت الدولة الأيوبية التي تركها صلاح الدين تبدأ من مصر وتمتد لبلاد الشام واليمن والحجاز.
البداية عند الملك الكامل وحملة الصليبيين الخامسة
في سنة وفاة العادل بالعام 1218، تعرضت مصر- التي كانت تحت حكم الكامل- للحملة الصليبية الخامسة بقيادة "حنا دي برين" إمبراطور القسطنطينية اللاتينية، والذي كان يصطحب معه جيشاً كبيراً تألف من 70 ألف فارس و400 ألف جندي، ورست الحملة على الضفة الغربية للنيل المواجهة لمدينة دمياط في 1 من يونيو/حزيران.
يقول أستاذ التاريخ المصري سعيد عبد الفتاح عاشور في كتابه "مصر والشام في عصر الأيوبيين والمماليك": "وعندما اكتملت استعدادات الصليبيين، ترك الملك حنا دي برين حامية قوية في عكا ضد أي هجوم إسلامي منتظر، ثم خرج الأسطول الصليبي قاصداً دمياط في أواخر مايو/أيار سنة 1218، ولم يفت الصليبيون عندئذ أن يتصلوا بنجاشي الحبشة المسيحي، ليتعاون معهم في حرب المسلمين عن طريق غزو الحجاز وهدم الكعبة".
وحينما علم الكامل سلطان مصر بأخبار هذه الحملة الهائلة تحرك على وجه السرعة لدفع خطرها في مصر والشام، إلا أن الصليبيين استطاعوا دخول دمياط، ولم تُجْدِ محاولات الكامل في الدفاع عن المدينة، وفَزِعَ إخوته في الشام، فأجمعوا أمرهم على التصدي للصليبيين في مصر والشام.
في ذلك الوقت، كان النزاع يدبُّ في جيش الصليبيين، وهو ما جعل دي برين غير قادر على التقدم إلى ما بعد دمياط ومواصلة السير نحو قلب البلاد، ومع تدهور الأوضاع في الحلف الصليبي، انسحب بعض منهم إلى عكا، وظل باقي الجيش الذي يعسكر في دمياط عاماً ونصف العام دون تحرك، في المقابل قام الملك الكامل بمحاولات لإيقاف أي فرصة للزحف الصليبي على العاصمة القاهرة.
السلطان يفرّط فيما لا يملك وبداية الخلاف
من أجل ألا تظل مصر تحت أيدي الصليبيين وعدم استكمال الحملة؛ ظل الكامل يعرض على الصليبيين الجلاء عن مصر مقابل إعطائهم القدس وعسقلان وطبرية واللاذقية – التي تقع تحت حكم إخوته – وجميع ما فتحه صلاح الدين من مُدن الساحل، وفق ما ذكره المقريزي في كتابه كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك.
وقد رفض الصليبيون هذا العرض المتخاذل قبل سقوط دمياط في أيديهم، وتكرر رفضهم لهذا العرض بعد السقوط، بل إنهم تمادوا في غرورهم، وطلبوا 300 ألف دينار عوضاً عن تخريب سور القدس على يد المعظم عيسى.
ولكن وبسبب ازدياد الانقسام في صفوف الجيش الصليبي، خرجت الحملة من دمياط في 8 سبتمبر/أيلول 1221. ومع ذهاب الحملة ومعرفة الجميع لما فعله الكامل، انفرط العقد بينه وبين إخوته ودب بينهم الخلاف، فاستعان المُعظَّم عيسى بالخوارزميين، بعد أن علم بعرض أخيه بالتفريط في المدن الشامية، وفي المقابل استعان الكامل بالإمبراطور فريدريك الثاني إمبراطور الدولة الرومانية.
وقد كان الخوارزميون دولة كبرى في منطقة وسط آسيا، إلا أن المغول قد انقضّوا على دولتهم وقضوا عليها، وظلت الباقية المتبقية من الخوارزميين يعملون كمرتزقة لصالح من يدفع لهم، إلا أن بعض أفراد البيت الأيوبي كان يحظى بصداقتهم.
من أجل ذلك؛ أرسل الكامل مبعوثه الأمير فخر الدين يوسف إلى الإمبراطور فريدريك ليعرض عليه أن يقوم بنجدته ومساعدته في حربه ضد أخيه المعظم عيسى، في مقابل تسليمه بيت المقدس وجميع فتوحات صلاح الدين بالساحل الشامي.
فأحسن الإمبراطور استقبال الأمير فخر الدين، واستجاب لعرضه. وبهذا غادر الإمبراطور فريدريك الثاني صقلية في يونيو/حزيران 1228 متجهاً إلى الشام، ممنياً نفسه بالتتويج في بيت المقدس.
الحملة الصليبية السادسة ومعاهدة يافا
كانت الحملة السادسة من أعجب الحملات العسكرية، إذ لم يتجاوز عدد أفرادها 600 فارس، يصحبهم أسطولٌ هزيل على حد وصف الدكتور عبد الفتاح عاشور، وكان الإمبراطور قد جاء بنية التفاوض لا ليحارب، وحينما وصل إلى عكا كان المُعظَّم عيسى قد توفي، واقتسم الكامل وأخوه الأشرف ممتلكاته، وعادت الأمور في البيت الأيوبي إلى الهدوء.
شكَّل ذلك مفاجأة قاسية لفريدريك، إذ لم يعد الكامل يحتاج إلى جهود الإمبراطور، بعد وفاة المعظم عيسى، إلا أن فريدريك لم يفقد الأمل في تحقيق أمانيه، وبعث رسولاً يطلب من الكامل الوفاء بما تعهد به من تسليم بيت المقدس، وكان طبيعياً أن يرفض السلطان بعدما زال السبب الذي أقدم من أجله!
إلا أن الإمبراطور زاد إصراره لاستمالة قلب الكامل، وبلغ به الأمر أن كتب للكامل أثناء المفاوضات يقول: "أنا مملوكك وعتيقك، وليس لي عما تأمر به خروج، وأنت تعلم أني أكبر ملوك البحر، وقد علم البابا والملوك باهتمامي، فإن رجعت خائباً انكسرت حربتي بينهم، فإن رأى السلطان – أي الكامل – أن يُنعم عليَّ بقبضة البلد والزيارة، فسيكون صدقة منه"، وهذا ما ذكره شمس الدين الذهبي في كتاب "تاريخ الإسلام"، وكتاب "العبر في خبر من غبر".
نجحت هذه الرسالة في موافقة الكامل، ففرّط في بيت المقدس وأعطاها للإمبراطور، وعُقدت معاهدة يافا بين السلطان الكامل والصليبيين في 18 فبراير/شباط 1229؛ والتي تقرر بمقتضاها الصلح بين الطرفين لمدة عشر سنوات على أن يأخذ الصليبيون بيت المقدس وبيت لحم والناصرة وصيدا، كما ذكر الكاتب الأمريكي ويل ديورانت في "قصة الحضارة".
ونصّت المعاهدة- وفقاً لما أورده الدكتور عبد الفتاح عاشور- على أن تبقى مدينة القدس على ما هي عليه، فلا يجدد سورها، وأن يظل الحرم- بما يضمه من المسجد الأقصى وقبة الصخرة – بأيدي المسلمين، وأن تُقام فيه الشعائر، ولا يدخله الفرنج إلا للزيارة!
فريدريك في المسجد الأقصى وخرق المعاهدة
أثارت هذه المعاهدة المخزية حفيظة المسلمين وغضبهم في كل مكان، وأقيمت المآتم في المدن الكبرى، وشعر الكامل بأنه تورط مع الإمبراطور، فأخذ يهون من أمر تسليم بيت المقدس، ويعلن أنه لم يُعطِ الفرنج إلا "الكنائس والبيوت الخربة"، على حين ظل المسجد الأقصى على حاله.
في حين اتجه فريدريك إلى بيت المقدس بعد عقد الصلح فدخلها في17 مارس/آذار 1229، وفي اليوم التالي دخل كنيسة القيامة ليتوَّج ملكاً على بيت المقدس، ثم رجع بعد ذلك إلى بلاده بعد أن حقق ما أخفقت فيه العديد من الحملات بـ 600 فارس فقط، ودون الحاجه لرفع السيف.
ويسرد المؤرخ الفلسطيني خليل عثامنة في كتابه "فلسطين في العهدين الأيوبي والمملوكي" كيف خرق الصليبيون معاهدة يافا بترميمهم أجزاء من مدينة القدس على عكس ما نصت عليه المعاهدة، في المقابل يذكر عثامنة أنه ورغم خرق الصليبيين للمعاهدة، لم يتحرك أحد من الملوك الأيوبيين سوى الناصر داوود للتصدي لهذا الخرق.
فعندما نما إلى علم الناصر داوود- ملك الكرك- إعادة إعمار قلعة القدس من قبل الصليبيين، توجه على رأس جيشه وحاصر المدينة ورماها بالمنجنيق حتى دخلها عنوة بعد 21 يوماً من الحصار، وتحصن الصليبيون في أحد الأبراج، فحاصرهم الناصر داوود وضيَّق عليهم حتى أذعنوا له بعد أن منحهم الأمان، وذلك في 1239 بعد أن ظلت المدينة تحت سيطرة الفرنجة ما يقارب من 11 عاماً.
تكرار التفريط وعدم رضا الملك الصالح
إلا أن المدينة لم تظل محررةً طويلاً، إذ لم تمر شهورٌ قليلة حتى تكرر التفريط في بيت المقدس فى عام 1240، إذ وعد الصالح إسماعيل- ملك دمشق- الفرنجة بالتنازل عن مدينة القدس هذه المرة!
ويذكر المؤرخ عثامنة أنه نظراً إلى حرص الصالح إسماعيل ملك دمشق على ضم الفرنجة إلى تحالفه المعادي للصالح أيوب، ملك مصر، فإنه أظهر سخاء غير مسبوق كي يوافقوا على الانضمام إلى الحلف، إذ وعدهم بالتنازل عن بعض المدن، بالإضافة إلى حصة المسلمين في خراج مدينة صيدا.
وفي فلسطين تنازل لهم عن مدينة القدس كافة، فيما عدا منطقة الحرم الشريف. وشملت قائمة التنازلات عدداً من القلاع المهمة التي سبق أن حررها صلاح الدين، مثل صفد وطبرية وتيرون، وكانت هذه القلاع في هذا الوقت مدمرة، لكن كان من السهل تحويلها إلى قلاع حصينة بعد شيء من الترميم، وهو ما فعله الفرنجة بالفعل.
بذلك أغلق التحالف بين الصالح إسماعيل- ملك دمشق- والفرنجة ضد الصالح أيوب- ملك مصر- الأبواب أمامه، فلم يجد حليفاً له يناصره ويقف إلى جانبه في بلاد الشام، ولم يبقَ أمام الصالح أيوب إلا الخوارزميين – حكام آسيا الوسطى وغرب إيران من قبل أن يمزق التتار ملكهم – الذين تربطهم معه علاقة قوية فيما قبل، فأرسل إليهم كتاباً في يونيو/حزيران 1244 يستحثهم على نصرته.
على إثر الرسالة التي وصلتهم، قطعت القوات الخوارزمية نهر الفرات نحو بلاد الشام، ولما وصلت أخبارهم إلى مسامع الناس بأن القوات الخوارزمية تتقدم نحوهم لاذوا بالفرار، وفي غضون ذلك تحصن الصالح إسماعيل داخل مدينة دمشق.
الصدام وعودة القدس
كانت أول مدينة استهدفها الخوارزمية هي مدينة القدس، فأسرعت قوات الفرنجة- التي كانت فيها- في الانسحاب منها، واقتحم الخوارزمية المدينة وأخذوا يقتلون في أهل المدينة النصارى، وبعد فراغهم من القدس توجهوا نحو مدينة غزة واجتاحوها، ثم أرسلوا إلى الصالح أيوب يبلغونه بوصولهم، فأرسل إلى قادتهم الأموال والهدايا.
في هذه الآونة بينما كان الخوارزميون يحررون القدس وغزة، كان الصالح أيوب يعد الجيوش من أجل استكمال التحرير برفقة الخوارزميين، من أجل ذلك خرج من مصر جيش تحت قيادة ركن الدين بيبرس البندقداري، مملوك الصالح أيوب المقرب منه، فنزل غزة وانضم إلى الخوارزمية.
في المقابل كانت جيوش التحالف الشامي-الفرنجي قد احتشدت في غزة استعداداً لغزو مصر، ووصول الخوارزميين وجيش بيبرس من ناحية وجيوش التحالف الفرنجي الشامي من ناحية أخرى.
ويذكر المقريزي في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك" أنه في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1244 اصطدم الجمعان في شمال شرقي غزة في معركة عرفت باسم معركة هربيا أو معركة لافوربي، حيث تقدم الصليبيون بأكبر جيش إلى ميدان القتال منذ معركة حطين.
هجم الخوارزميون على الجيش الصليبي وحاصروهم، كما عمل الجيش المصري على تطويق جيش الصليبيين كذلك، ولم يفلت من الصليبيين أحد إلا من تمكن من الفرار، وقُدِّر عدد القتلى من الصليبيين بأكثر من 5000 قتيل، وانهزم الجيش الصليبي هزيمة منكرة خلال عدة ساعات فقط.
ووصلت بشارة النصر إلى الملك الصالح أيوب فأمر بتزيين القاهرة احتفالاً بالنصر، وسيق الأسرى إلى القاهرة وكانوا بالمئات، وكان من بينهم كونت يافا، وطيف بهم في الشوارع وهم محملون على الجمال. واستخدم الصالح أيوب الأسرى الصليبيين في إكمال تشييد جزيرة الروضة.
وانتهت بذلك قصة احتلال مدينة القدس من قبل قوى خارجية، وظلت المدينة في أيدي المسلمين يتعاقبون على حكمها حتى جاء الاحتلال الإسرائيلي.