مراسم الزواج في كوريا الشمالية يعقدها الآلاف أمام تمثال قائدها السابق كيم إيل سونغ -الأب الروحي ورئيس الجمهورية الأول لكوريا الشمالية- كنوع من الطقوس الدينية ضمن عقيدة الـ"جوتشي". الأمر يبدو غريباً، كغيره من الطقوس الكورية الشمالية الغريبة التي تتحدث عنها الصحف العالمية، والتي يكون لها تفسير في النهاية مثل طقوس الزواج هذه.
عقيدة الـ"جوتشي"
لقد تغير معنى "العقيدة" في كوريا الشمالية بمرور الوقت اعتماداً على احتياجات القيادة الكورية الشمالية، التي أرادت خلق خليط من الأفكار لقيادة الناس، ولكن بطريقة تجعل من تلك الأفكار عقيدة مقدسة.
تسمى تلك العقيدة في كوريا الشمالية بعقيدة الجوتشي، والتي تعني في الكورية "الاعتماد على الذات". تتكون الجوتشي من مزيج من عدة أفكار مختلفة؛ فهي تستعير الكثير من أفكارها من الماركسية، ولكنها تعتمد أيضاً على الكونفوشيوسية والأفكار الإمبريالية اليابانية في القرن العشرين، كل ذلك ممزوج بمظاهر القومية الكورية التقليدية.
تتمحور فكرة الجوتشي الأساسية حول أن كوريا الشمالية بلد "يجب أن يظل منفصلاً ومتميزاً عن العالم"، ويعتمد فقط على قوته الخاصة وتوجيهات زعيمه الذي له قدسية خاصة، بل وشبهه موقع Vox باعتبار الكوريين الشماليين للزعيم بـ"شبه إله".
الجوتشي وفلسفة "الاعتماد على الذات"
في خمسينيات القرن الماضي بعد انفصال الكوريتين في عام 1953، كانت كوريا الشمالية في وضع صعب على الصعيدين السياسي والاقتصادي؛ حيث كانت دولة ماركسية فقيرة تقع بالقرب من أكبر دولتين اشتراكيتين في العالم: الاتحاد السوفييتي، والصين.
ولأن هاتان الدولتان تختلفان في صورة الاشتراكية التي تنفذها، لم تسعَ كوريا الشمالية لتقليد أي من التجربتين، إذ اعتبرت ذلك وكأنها تتشبه بأي من الدولتين، وهو ما كان يكرهه قادة البلاد في ذلك الوقت، كما يُظهر كوريا الشمالية على أنها تميل لدولة على حساب الأخرى، لذلك لم تتبنَّ كوريا الشمالية الأيديولوجية الستالينية للاتحاد السوفييتي، ولم تتبنَّ الماوية الصينية.
في المقابل سعى كيم إيل سونغ في تصميم وتطوير عقيدة خاصة بكوريا الشمالية، ونتج عنها عقيدة الجوتشي.
النموذج المثالي الأولي "للاعتماد على الذات" تمحور حول ثلاثة عناصر: الاستقلال الأيديولوجي، والاكتفاء الذاتي الاقتصادي -رغم اعتماده بشكل كبير على الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت- والاستقلال العسكري؛ حيث كانت كوريا الشمالية تحت الوصاية السوفييتية، في حين كانت كوريا الجنوبية تحت وصاية الولايات المتحدة.
وفي إطار الجوتشي؛ سونغ مؤسس الدولة الكورية الشمالية كان يرى أن كوريا الجنوبية لم تكن حكومة شرعية، لأنها كانت أداة للقوى الأجنبية الرأسمالية الإمبريالية وهي الولايات المتحدة، لذلك أسس لعقيدته الجديدة، التي روجت أن كوريا الشمالية غير تابعة لأي من الدول، وهو ما لاقى رواجاً كبيراً بين المواطنين الكوريين الشماليين، وجعل من سونغ رمزاً وزعيماً.
نصَّ دستور كوريا الشمالية في المادة 3 على أن حكومة كوريا الشمالية "يجب أن تجعل أيديولوجية جوتشي المبدأ التوجيهي لجميع أفعالها"، كما ينص ميثاق حزب العمال -الأوحد والحاكم- على أن "حزب العمال يسترشد فقط من خلال أيديولوجية كيم إيل سونغ- جوتشي".
الزعيم المقدس والنقاء العرقي الكوري
تبنت الجوتشي مبدأ "كونفوشيوسي"، مفاده أن البشر يمكنهم تغيير العالم إذا امتلكوا العقلية الصحيحة، التي تتمثل عند الكوريين الشماليين في عقيدة الجوتشي. كما اعتقد الشعب الكوري الشمالي أن المالك الوحيد للوعي الحقيقي هو زعيم كوريا الشمالية، الذي يطلقون عليه لفظ "سوريونج". كما اعتقدوا أن الطريقة الوحيدة لجعل حياة المرء أفضل هي مواءمة إرادة الناس مع إرادة "سوريونج".
هذا ما يفسر سبب أن الكوريين الشماليين يزورون تماثيل كيم إيل سونغ عندما يتزوجون، لكن بشكلٍ أو بآخر أصبح هؤلاء الزعماء يشرعون طقوساً دينية لشعب كوريا الشمالية.
ففي صميم عقيدة الجوتشي، تقوم فكرة الولاء التام للقائد، وهو ما جعل من الجوتشي أشبه بفكرة مقدسة دينية وليس مجرد اتباع رئيس دولة، والذي بدوره يشرع مجموعة من الطقوس والمعتقدات التي ترقى إلى شكل من أشكال الدين.
فعلى سبيل المثال تشير وسائل الإعلام الحكومية الكورية الشمالية إلى المقبرة التي دُفن فيها كيم إيل سونغ وكيم جونغ إيل -الرئيس الثاني لكوريا الشمالية وابن كيم إيل سونغ- على أنها "معبد جوتشي المقدس".
كما تبنت عقيدة الجوتشي أيضاً فكرة النقاء العرقي الكوري -جزء منها اعتمد على المعتقدات الكورية التاريخية والأفكار الإمبريالية اليابانية القديمة للإمبراطورية اليابانية التي احتلت كوريا لعقود- للوقوف ضد الانفتاح على العالم. وحتى اليوم، لا يزال الكوريون الشماليون يتعلمون أن البشر الأوائل ظهروا في كوريا الشمالية، وهذا سبب تفوقهم على البلدان الأخرى، وهو أنهم حافظوا على نقائهم بينما أصبح الآخرون "رحلاً".
السونكون والجيش والبرنامج النووي
"الجوتشي ليس لديه شيء مثل الكتاب المقدس أو ما إلى ذلك، فهي عقيدة غير مستقرة، يستطيع قائد وزعيم الدولة تغييرها كما يريد"، يقول ديفيد كانج الخبير في شؤون كوريا الشمالية في جامعة جنوب كاليفورنيا لموقع Vox.
مثالاً على ذلك، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في التسعينات في عهد كيم جونغ إيل فقدت كوريا الشمالية مصدرها الأساسي من المساعدات الغذائية، التي كانت تحصل عليها من الاتحاد السوفييتي، ما أدى إلى مجاعة هائلة، لذلك طور كيم جونغ إيل إضافة إلى الجوتشي عقيدة "سونكون"، التي تعني الجيش أولاً.
كان هذا بمثابة تبرير الدولة لإطعام الجنود قبل المواطنين العاديين، وهو أمر كان على إيل فعله لتجنب قيام انقلاب عسكري عليه، في حين روج إيل بأنه لكي تكون كوريا الشمالية معتمدة على نفسها ومستقلة فإنها تحتاج إلى جيش قوي أولاً وقبل كل شيء، وهو ما تبلوره عقيدة سونكون.
عملت عقيدة سونكون أيضاً على تبرير سعي الدولة لامتلاك أسلحة نووية، التي تسمى في عقيدة الجوتشي بـ"السيف العزيز"، رغم الإدانة الدولية والعقوبات الاقتصادية التي أضرت بالاقتصاد الكوري الشمالي، إلا أن إيل جادل بأن الأمر يستحق ذلك من أجل ضمان الاستقلال العسكري للدولة.
لم يحل السونكون محل الجوتشي، التي تظل أيديولوجية الدولة الرسمية، وتعتبر السونكون أشبه بتفسير للجوتشي يلائم احتياجات حكومة كوريا الشمالية في ذلك الوقت، وذلك طبقاً لما يراه السوريونج الذي يفسر الجوتشي على طريقته لمصلحة شعبه.
الـ"بيونج جين" والاهتمام بالاقتصاد من جديد
عام 2013، كانت السنة الثانية من حكم كيم جونغ أون، وفيه ظهرت مدرسته الخاصة للجوتشي، وهي "بيونج جين"، التي تعني بالكورية "جنباً إلى جنب". كانت الفكرة الأساسية لـبيونج جين هي التنمية ذات المسارين: بناء الاقتصاد والجيش على قدم المساواة، دون إعطاء الأولوية لأحدهما على الآخر.
كان هذا بمثابة تخلٍّ عن السونكون، فبمجرد أن أعلن كيم جونغ أون عن بيونج جين، أصبحت التنمية الاقتصادية الفعلية ذات أهمية كبرى داخل كوريا الشمالية، بينما كان والده وجَدّه يجادلان بأن على الكوريين المعاناة من أجل بقاء الأمة.
وفجأة، أصبحت الشرعية الأساسية لعقيدة الجوتشي مرتبطة بوفاء "أون" بوعوده الاقتصادية، وهو ما يعني أن أون يواجه خطر الاضطرابات والمعارضة -طبقاً لكانج الخبير في شؤون كوريا الشمالية- حتى من كبار مستشاريه، إذا فشل في متابعة نسخته الجديدة من الجوتشي.
لذلك شرع أون في مشروع للإصلاح الاقتصادي، ورفع القيود تدريجياً عن امتلاك الممتلكات الخاصة، والاستثمار الأجنبي، وذلك لتحفيز النمو الاقتصادي وتحقيق البيونج جين، دون التضحية بأهم مُثُل الجوتشي الأساسية للاعتماد على الذات والاستقلال عن السيطرة الأجنبية.
وهو ما يفسر تقابل أون مع ترامب في عام 2019، إذ إنه كلما زاد التوتر العسكري مع الولايات المتحدة كان التركيز على تحسين الاقتصاد أكثر صعوبة، لذلك أظهرت تلك المقابلة أن أون قد أحرز تطورات إيجابية في خطة البيونج جين، ولكن دون التخلي عن أهم أسس الجوتشي.
لذا، اعتُبرت هذه المقابلة نجاحاً لكيم جونج أون، الذي أظهر قدرته على التنمية العسكرية -التي تتضمن برنامج كوريا الشمالية النووي- والاقتصادية المزدوجة، والتي تمثلت في الاستثمارات الخارجية وقدرته على مقابلة ترامب، لذا فهو في أعين شعبه يعمل على كلا الهدفين في إطار البيونج جين وبنجاح منقطع النظير.
تجربة كوريا الشمالية، وفي القلب منها الجوتشي، من التجارب الفريدة في العصر الحديث، كونها أقنعت شعباً بأكمله بالانقطاع عن العالم الخارجي، والعيش في عالم من تصورهم، في تجربة لم نكن لنصدقها إلا برؤيتها.