بينما يتركز اهتمام العالم بشكلٍ متزايد على معاملة الصين للأقليات المسلمة في مقاطعة شينجيانغ (مسلمي الإيغور) قد يتخيّل البعض أنّ الإيغور هم الفئة المسلمة الوحيدة المظلومة، لكنّ المسلمين في الصين لديهم مجموعات أخرى تواجه التسلُّط الحكومي الصيني ضدّهم. إذ تنتشر قيود بكين على الإسلام إلى مناطق مختلفة من البلاد، بما في ذلك مجتمعٌ صغيرٌ من المسلمين على بعد آلاف الكيلومترات إلى الجنوب.
وليس الإيغور وحدهم هم الأقلية المسلمة الوحيدة التي تقع تحت أعين وتسلُّط الحكومة الصينية المركزية في بكين. وحتى مع استمرار المجتمع الدولي في إدانة انتهاكات حقوق الإنسان ضد مسلمي الإيغور، لم يتغيَّر الوضع.
في حملةٍ للحكومة الصينية على أحد الأحياء المسلمة في الصين في شهر فبراير/شباط 2021؛ غطَّى رجال الأمن اللافتات الموجودة في المتاجر والمنازل التي كُتب عليها "الله أكبر" باللغة العربية واستبدلوها بملصقاتٍ كبيرة تروِّج لـ "حلم الصين"، وهو شعارٌ وطني رسمي.
أُزيلت أيضاً كلمة "حلال" من لافتات المطاعم وقوائمها، كما أغلقت السلطات مدرستين إسلاميتين وحاولت منع الطالبات من ارتداء الحجاب.
مجتمع الأوتسول.. المسلمون في الصين ومحو ثقافتهم الممتدة لقرون
في جزيرة هاينان في جنوب الصين، وتحديداً في مدينة سانيا التي ترتفع فيها المآذن منذ ألف عام، يقطن مجتمع "الأوتسول". وهم جماعة لا يزيد عدد سكانها على 10 آلاف مسلم، والذين أصبحوا مستهدفين من قبل الحزب الشيوعي الصيني من أجل محو هويتهم الدينية. وهو جزء من استراتيجية بكين التي تعمل على تآكل الهوية الدينية حتى لأصغر الأقليات المسلمة فيها، في محاولة منها لفرض "ثقافة صينية موحدة" على مستوى البلاد.
بهذا الشكل؛ عملت سياسة الرئيس شي جين بينغ على زرع مناخٍ من "الشك العام" فيما يتعلَّق بالمعتقدات الدينية لأيٍّ من العرقيات التي قد تكون مختلفة عن خط الدولة الرسمي وطابعها الثقافي، حتى عندما يتعلَّق الأمر بالمجتمعات المسالمة والصغيرة والتي يمتد عمرها في الصين لقرون مثل الأوتسول.
مجتمع الأوتسول هو مجتمع مسلم سني "معتدل" لم يظهر عليهم أبداً أي علامات تدل على التعصب أو العنف، أو نوايا للاستقلال لتشكيل حكم ذاتي، كما أنهم لا يمثلون أي تهديد أمني للبلاد. هذه الشهادة تأتي من قبل"درو جلادني"، وهو عالم أنثروبولوجيا ورئيس معهد حوض المحيط الهادئ للبحوث في كاليفورنيا والذي يدرس مجتمع الأوتسول.
ووفقاً لجلادني، فإن الأوتسول هم أقدم مجتمع مسلم نشط في الصين، ومقابرهم هي على الأرجح أقدم مواقع الدفن الإسلامية في الصين والتي تعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي، أي منذ ثمانية قرون وهم في الصين.
ومثلما برَّرت الحكومة الصينية حملتها على مسلمي الإيغور، قال الحزب الشيوعي الحاكم في الصين تعليقاً على حملته ضد مسلمي الأوتسول إنّ القيود التي تفرضها السلطات على الإسلام والمجتمعات الإسلامية تهدف إلى كبح "التطرف الديني العنيف".
فيما قال ما هايون، الأستاذ في جامعة فروستبيرغ الأمريكية، والذي يدرس الإسلام في الصين، إنّ تشديد السيطرة على مسلمي الأوتسول "يكشف الوجه الحقيقي للحملة الشيوعية الصينية ضد المجتمعات المحلية". وإنّ هذه الحملة تتعلّق "بمحاولة تعزيز سيطرة الدولة على المجتمعات المحلية ولكن بشكل أظهر أنهم معادون للإسلام".
في المقابل، تنفي الحكومة الصينية مراراً وتكراراً معاداتها للإسلام، إلا أنّ السلطات الصينية هدمت عدداً من المساجد في الصين. وتركزت حملتها القمعية بالأساس على مجتمع الإيغور، وهم أقلية مسلمة في آسيا الوسطى يبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة في إقليم شينجيانغ، وكثير منهم محتجزون في معسكرات اعتقال جماعية –حوالي مليون مسلم– والتي تجبرهم الحكومة الصينية بطرقة عديدة على نبذ وترك الإسلام.
وفي عام 2018، وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، أصدر مجلس الوزراء الصيني توجيهاً سرياً يأمر المسؤولين بمنع العقيدة من "التدخل في الحياة العلمانية ووظائف الدولة"، كما حذر من "التعريب" في الأحياء المسلمة.
الأوتسول جسر الصين بالعالم الإسلامي
على الرغم من تصنيفهم رسمياً على أنهم جزءٌ من أقلية "الهوي" الصينية المسلمة، فإن الأوتسول يعتبرون أنفسهم متميزين ثقافياً عن الهوي وباقي المجتمعات المسلمة الأخرى في البلاد.
ينحدر الأوتسول من عرقية "شام" الفيتنامية، والتي امتهنت صيد الأسماك وعملت في التجارة البحرية في مملكة تشامبا، التي نشأت في القرن الثاني الميلادي وحكمت لقرون السواحل الوسطى والجنوبية لفيتنام. وفي القرن العاشر، فرت مجموعة من عرقية "شام" وسافروا إلى الجنوب هرباً من حرب طاحنة قامت في فيتنام، وبدورهم استقر اللاجئون في جزيرة هاينان وأصبحت وطناً لهم.
ولعب مجتمع الأوتسول في سانيا دوراً مهماً في علاقات الصين مع العالم الإسلامي، فبجانب كونه وجهةً ومنتجعاً للمسلمين الصينيين الآخرين، كان الأوتسول جسراً للمجتمعات المسلمة بين الصين وبين جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط.
فعلى مر القرون، حافظ الأوتسول على روابط قوية مع جنوب شرق آسيا واستمروا في ممارسة شعائر الإسلام دون قيود إلى حد كبير. لكن منذ الثورة الثقافية في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي في الصين، دمَّرت قوات الحرس الأحمر التابعة للزعيم الصيني ماو تسي تونغ المساجد في قرى الأوتسول، الأمر الذي فعلته كذلك في جميع أنحاء الصين، وهو ما أدى لهجرة مجموعات من الأوتسول إلى إندونيسيا وماليزيا.
لكن مع انفتاح الصين تدريجياً على العالم في أوائل الثمانينيات، بدأ الأوتسول بإعادة إحياء تقاليدهم الإسلامية في جزيرة هاينان، كما أعادت العديد من العائلات التواصل مع أقاربهم الذين هاجروا إلى ماليزيا وإندونيسيا، بما في ذلك رئيس الوزراء الماليزي السابق، عبد الله أحمد بدوي، الذي كان جده من الأوتسول الذي نشأ في سانيا.
حتى يومنا هذا، يتحدث العديد من الأوتسول لغة "الشاميتش" المماثلة لتلك التي لا تزال تستخدم في أجزاء من فيتنام، بالإضافة إلى اللغة الصينية. أمَّا عن نساء الأوتسول فيرتدين الحجاب الملوَّن والذي يغطي كل رؤوسهن والذي يشبه الحجاب الذي ترتديه النساء في ماليزيا وإندونيسيا.
أما عن سبب احتفاظ الأوتسول بعاداتهم وتقاليدهم القديمة إلى الآن؛ يقول الباحث والكاتب الماليزي يوسف لي ذي الأصول الصينية والذي يدرس مجتمع الأوتسول، لصحيفة النيويورك تايمز، إنّ مجتمع الأوتسول تمكَّن من الحفاظ على هويّةٍ مميزة، لأنهم كانوا معزولين جغرافياً لعدة قرون، ما ساعدهم على تمسُّكهم بمعتقداتهم الدينية. وأشار إلى أن الأوتسول متشابهين في نواحٍ كثيرة مع الملايو (القومية الأصلية للمجتمع الماليزي).
فهما يشتركان في العديد من الخصائص نفسها، بما في ذلك تقارب اللغات واللباس والتاريخ والطعام. ومع ازدهار السياحة في مدينة سانيا الصينية لما لها من طابع تاريخي ومناخ جميل، نمت علاقات الأوتسول مع بلاد جنوب شرق آسيا ومن بعدها الشرق الأوسط، إذ يسافر الشباب إلى البلاد المسلمة لدراسة العلوم الشرعية والدين الإسلامي.
كما أنشأ مجتمع الأوتسول مدارس للأطفال والكبار لدراسة اللغة العربية، وشيدوا القباب والمآذن لمساجدهم، مبتعدة بذلك عن الطراز المعماري الصيني التقليدي.
الصين.. نظام شمولي ورؤية واحدة لا تقبل التعدد
في هذا السياق، ضغطت السلطات الصينية على الأوتسول للحدّ من التعبير العلني عن مظاهر الدين الإسلامي. وفي هذا الصدد؛ طُلب من أئمة المساجد إزالة مكبرات الصوت التي تبث الآذان، كما توقف بناء عدة مساجد بأمرٍ من السلطات، فيما قال سكان مدينة سانيا إن السلطات بدأت في منع الأطفال دون سن 18 عاماً من دراسة اللغة العربية.
وعبَّر سكان المدينة عن احتياجهم لتعلم اللغة العربية ليس فقط لفهم النصوص الإسلامية بشكلٍ أفضل، ولكن أيضاً للتواصل مع السياح العرب الذين كانوا، قبل وباء كورونا، يأتون إلى مطاعمهم وفنادقهم ومساجدهم، وأعرب بعض السكان عن إحباطهم من القيود الجديدة، مشكِّكين في أن الصين تحترم المجموعات العرقية المعترف بها رسمياً.
ويقول جو يي، وهو كاتب سياسي صيني مسلم، يقول لموقع Voa News إنَّ الإسلام له "نظامٌ خاصٌ به، إذ إنه يمتاز ببنية اجتماعية خاصة مختلفة كلياً عن البناء الاجتماعي الذي يرغبه الحزب الشيوعي الصيني، وهو ما يمثل تهديداً خطيراً لأي نظام شمولي والذي يمثله الحزب الشيوعي في الصين، والذي لا يمكنه التسامح مع الجماعات التي تفكر بشكل مختلف".
لذلك، فإن السلطات في الصين تعمل على انقراض البناء الثقافي للمجتمع المسلم في الصين، كما تعمل على قطع العلاقات التي تربط المسلمين الصينيين بالإسلام حتى تفقد الجماعات العرقية المسلمة في جميع أنحاء الصين أي إحساس بالوحدة والإختلاف قد يوفره دينهم.
وفي خطوةٍ تصعيدية من قبل السلطات، اُحتُجز بعض أفراد الأوتسول لفترةٍ في المقرات الأمنية، وذلك بسبب انتقادهم الحكومة؛ فقد عبّر هؤلاء عن رغبتهم في بناء المساجد على نحو تبدو مثل المساجد وليس مجرد منازل، فجاء رد الحكومة الصينية باحتجازهم.
في سبتمبر/أيلول 2020 احتجّ بعض أولياء الأمور وبعض الطلاب في الجامعة والمدارس، بعد أن منعت عدة مدارس الفتيات من ارتداء الحجاب في الفصول الدراسية.