كانت معارك محمد علي باشا والي مصر مع السلطان العثماني فصلاً ثقيلاً في تاريخ الدولة العثمانية، إذ يعتبرها بعض المؤرخين أكبر "تمرّد" هدّد الدولة طوال تاريخها، بل فصلاً مهماً ومحورياً في التاريخ الإسلامي الحديث وتاريخ منطقة المشرق الإسلامي والعربي بشكلٍ عام. وكانت إحدى أهمّ المعارك التي خاضتها جيوش محمد علي في مواجهة جيوش السلطان: معركة نزيب، في 24 يونيو/حزيران عام 1839. وهي المعركة التي انتصر فيها محمد علي ولكنّها قضت على طموحاته أيضاً.
محمد علي والسلطان العثماني.. صراع مكتوم طيلة 40 عاماً!
وصل محمّد علي مع القوات الألبانية التي وصلت إلى مصر لمحاربة الجيش الفرنسي الذي احتلّها على يد نابليون بونابرت عام 1798. لكنّ محمّد علي الطموح استطاع في غضون 5 سنوات تقريباً أن يقنع الأعيان المصريين بأنّه في صفّهم، وأنّ رغبته هي توفير حياة كريمة للمصريين، بدلاً من الاضطرابات التي عصفت بهم خلال السنوات الماضية.
وعبر العديد من المناورات البارعة وصل محمد علي للحكم في مصر، وعبر مناوراتٍ أخرى بارعة أيضاً استطاع الاحتفاظ بمنصبه والياً على مصر لفترةٍ طويلة، بعدما كان هذا المنصب يتمّ تغييره دائماً للحفاظ على عدم تكوُّن طموح لدى أحد الولاة لينفصل عن الدولة العثمانية.
كان محمّد علي يعرف طريقه بوضوح، استطاع القضاء على حلفائه السابقين في مصر، أولاً المماليك في مذبحة المماليك الشهيرة (اقرأ من هنا)، ولاحقاً حين تخلّص من الأعيان والعلماء المصريين الذين أوصلوه للحكم بالأساس.
وعلى الجانب الآخر استطاع محمّد على أن يحرّك المياه الراكدة في مصر أولاً ثمّ في الإقليم كلّه ثانياً. فقد بدأ عمليات تحديث وتطوير وتصنيع، وبنا جيشاً حديثاً بمساعدةٍ فرنسيّة.
كان هذا الجيش الذي كانت له ذراع بحرية ضخمة هي الأسطول البحري المصري، أداةً قويةً للغاية في يد السلطان العثماني، الذي استنجد مراراً بجيوش محمّد علي باشا الضخمة والمدربة جيداً. فقد استنجد به للقضاء على الوهابيين في شبه الجزيرة العربيّة، وبعدها استنجد به للقضاء على ثورة المورة في بلاد اليونان، وفي كلّ هذه المرات كان محمد علي باشا يداً طيعةً تحت أوامر السلطان.
لكن في ثورة المورة، اعتقد محمد علي أنّ سوء الإدارة العثمانية للحرب كان سبباً في هزيمة ضخمة مُني بها السلطان العثماني واعترف في النهاية باستقلال اليونان، إضافةً إلى خسارة الأسطول العثماني وإلى جانبه الأسطول المصري والأسطول الجزائري أيضاً في معركة نافارين البحرية عام 1827.
كانت تلك المعركة سبباً مباشراً أن يصرّح محمد علي برغبته في الاستقلال عن السلطان العثماني الضعيف، الذي فشل في إدارة عدّة قضايا خارجية، ووجد محمد علي أنّ الأفضل له ولخططه أن يكون منفصلاً عن الدولة العثمانية.
يختلف المؤرخون كثيراً حول طموحات محمد علي، فهل كان يريد تأسيس دولة قوية ولكن تحت إطار ونطاق الدولة العثمانية المترامية الأطراف؟ أم كان يطمح للإطاحة بالسلطان العثماني نفسه وتولية نفسه مكانه؟ أم كان راغباً في تقلُّد منصب الصدر الأعظم في العاصمة العثمانية إسطنبول. لا أحد يعلم على الحقيقة، لكنّ هناك تخمينات تستدلّ بتصريحٍ هنا أو برقيةٍ هنا للباشا الذي أصبح في غضون سنواتٍ قليلة قوةً إقليمية من الصعب هزيمتها أو التحكُّم في طموحاتها.
إبراهيم باشا.. ابن محمد علي ويده العسكرية التي كادت أن تهاجم إسطنبول
طوّر محمد علي جيشاً قوياً ومدرباً جيداً بالتعاون مع فرنسا من ناحية، ومن خلال فرض التجنيد الإجباري على الفلاحين، بل استعباد السودانيين من ناحيةٍ أخرى لتجنيدهم.
في عام 1831 بدأت أوّل بوادر الصراع بين محمد علي والسلطان العثماني. تقدّمت قوات إبراهيم باشا في الشام، واستطاعت ضمّ ساحل بلاد الشام كلّها، بل استمرّ إبراهيم باشا في المسير حتّى وقعت معركة كبرى في قونية عام 1832، انتصر فيها جيش محمد علي انتصاراً ضخماً وأسر الصدر الأعظم الذي كان يقود الجيش العثماني.
وصل إبراهيم باشا إلى مدينة كوتاهية القريبة جداً من العاصمة العثمانية إسطنبول. كان هذا تهديداً واسعاً للسلطان العثماني، طلب السلطان المساعدة من الدول الأوروبية التي تباطأت عنه، وهنا استغلّ القيصر الروسي الحاجة العثمانية وعرض المساعدة.
أرسل القيصر الروسي أسطوله ورسا على مضيق البوسفور أمام سراي السلطان العثماني، كما أنزل الأسطول 14 ألف جندي روسي في منطقة مضيق البوسفور. وهنا أصبح الصراع أكبر من محمد علي ومن السلطان العثماني أيضاً، أصبح الصراع دولياً.
وصل إبراهيم باشا إلى كوتاهية القريبة جداً من إسطنبول، وراسل والده أنّه يريد أن يكمل طريقه إلى إسطنبول ليدخلها، لكنّ والده رفض إعطاءه الأوامر لتكملة المسير، وقرّر محمد علي بدلاً عن ذلك خوض معارك سياسية ودبلوماسية بدلاً من الدخول في صراعٍ أكبر بدخول إسطنبول نفسها.
لإسطنبول أهمية خاصّة لكلّ الدول الكبرى في ذلك الوقت، وتحديداً بريطانيا التي تعتبر الدولة العثمانية لإسطنبول منطقة عازلة تمنع روسيا من الوصول للشواطئ الأوروبية. ومن ناحية رغبت روسيا في وضع موطن قدم لها في إسطنبول لتكون لها ورقة رابحة في مواجهة بريطانيا، وكذلك ليكون لها موطئ قدم في الموانئ الدافئة في البحر المتوسط لما يجنيه ذلك عليها من منافع اقتصادية أيضاً.
تدخّلت القوى الأوروبية، بريطانيا وفرنسا والنمسا، وكذلك بالطبع تدخلت روسيا التي وقّعت اتفاقية دفاعية بينها وبين الدولة العثمانية لتضمن لنفسها التدخُّل لو قرّر محمد علي المغامرة مرة أخرى لتهديد السلطان العثماني.
وقّع محمد علي والسلطان اتفاقية كوتاهية التي تقضي بتسوية أن يكون إبراهيم باشا والياً على أضنة (في جنوب تركيا الحالية) على أن يحتفظ محمد علي بولاية مصر والولايات الأربع في بلاد الشام.
تجدُّد الصراع.. انتصار محمد علي ونهاية طموحاته في آن!
ظلّت اتفاقية كوتاهية فاعلة منذ 1833 حتّى عام 1839 عندما تجدّد الصراع مرةً أخرى. كانت الاتفاقية غير مريحة بالنسبة للسلطان العثماني، فقد وقّعها بعدما تدمّر جزء كبير من جيشه الذي هزمه إبراهيم باشا في عدّة معارك، وهكذا كان ينتظر الفرصة للانقضاض على محمد علي بعدما يكون طوّر جيشه ودربه جيداً.
قامت ثورة في بلاد الشام على حكم محمد علي بسبب سحبه السلاح من الأهالي، وإجباره شبابهم على الدخول في التجنيد الإجباري. وهناك تخمينات وتحليلات عن ضلوع بريطانيا من ناحية والسلطان العثماني أيضاً في الترتيب لهذه الثورة، خصوصاً ثورة الدروز في جبل لبنان على حكم محمد علي بلاد الشام.
استغلّ السلطان العثماني ثورة سكان الشام ودفع بجيشه بقيادة حافظ باشا إلى بلاد الشام، وكانت جيوش محمد علي جاهزةً للمواجهة بقيادة إبراهيم باشا.
وهذا ما حصل، فوقعت معركة هائلة في مدينة نصيبين (على الحدود السورية التركية حالياً)، وقعت المعركة يوم 24 يونيو/حزيران عام 1839، وفيها دُمِّر الجيش العثماني، تعرف المعركة باسم نصيبين أو نزيب أو نزب، وقد غنم جيش إبراهيم باشا 166 مدفعاً عثمانياً و20 ألف بندقية وغيرها من الذخائر والمؤن، وقد خسر إبراهيم باشا 4 آلاف جندي، وفقاً لما ذكره المؤرخون.
في تعليقه على هذه المعركة قال محمد فريد بك في كتابه "تاريخ الدولة العلية": وكان هذا اليوم مشهوداً يجعل الولدان شيباً.
وقد كان القائد العسكري البروسي الشهير "دي مولتك" والذي أصبح شهيراً جداً في الحرب الروسية الفرنسية كان من ضمن أركان جيش الحرب العثماني، ويذكر محمد فريد بك أنّه هرب من ضمن الهاربين ولم يتمكّن من أخذ ملابسه وأوراقه الخاصة.
لكنّ هذا الانتصار العسكري الكبير لمحمد علي كان يهدد بريطانيا، فالسلطان العثماني سيطلب دعماً من القيصر الروسي مرةً أخرى، وهذا يهدد بريطانيا بوجود روسي في البحر المتوسّط، فقررت بريطانيا دعم السلطان العثماني ضد محمد علي، ودخلت الدول الأوروبية في مفاوضاتٍ طويلة الأمد انتهت بأن أصبح محمد علي والياً لمصر فقط هو وذريّته، على أن يتم تخفيض الجيش المصري إلى 18 ألف جندي فقط بعد أن كان حوالي 200 ألف جندي وفقاً لاتفاقية لندن.
وقد انتهت بمعركة نزيب التي انتصر فيها محمد علي انتصاراً كبيراً، وكانت كلّ أحلامه في أن يزيح السلطان العثماني أو أن يصبح صدراً أعظم، أو أن يؤسس إمبراطورية داخل الإمبراطورية العثمانية الكبيرة، ولكنه أصبح فقط باشا مصر.