هناك الكثير من القبائل الكبرى في منطقة شمال إفريقيا، وكان من بينها قبيلة بني زناتة، وهي إحدى أهم قبائل الأمازيغ، ومن بني زناتة تأتي قبيلة بني مرين، التي تعتبر أعلى قبائل زناتة حسباً وشرفاً كما يقول الباحث عامر أحمد عبدالله في رسالته للماجستير عن الدولة المرينية التي أسسها بنو مرين.
ويذكر الباحث أن بني مرين كانوا يتمركزون في المغرب الأوسط والأقصى (المغرب والجزائر الحاليين)، عند نهر ملوية، وصولاً إلى مدينة جرسيف المغربية في القرن الثالث عشر الميلادي، وكانوا يستخدمون حصناً يدعى "تازوطة" كانوا يحفظون فيه أمتعتهم وطعامهم، وهو ما حفظ أملاكهم وأمتعتهم من الإغارات التي كانت تحدث بين القبائل التي تسلب وتنهب ثم ترحل؛ ما جعل بني مرين إحدى أهم القبائل الرحالة في الصحراء، وجعل لها شأناً بين القبائل.
الأمير عبدالحق بن محيو وتأسيس نواة الدولة المرينية
على عكس أبناء عمومتهم بني زيان وبني وطاس، لم يخضع بنو مرين لنفوذ دولة الموحدين، التي كانت تحكم المغرب العربي والأندلس، لذلك آثروا الهجرة إلى الصحراء جنوباً، إلا أنهم كانوا منخرطين في الأحداث السياسية التي شهدها المغرب في عصر الموحدين.
في عام 1195 تطوّع زعيم بني مرين، محيو بن أبي بكر المريني، مع مجموعةٍ من عساكره في موقعة الأرك التي خاضها الموحدون ضد القشتاليين في الأندلس. للقراءة أكثر حول معركة الأرك الفاصلة من (هنا).
بعد ذلك بثمانية عشر عاماً، وفي عام 1213 بعد موقعة العقاب بين الموحدين وتحالف ممالك الإسبان والبرتغال، التي خسر فيها المسلمون، وشكلت نقطة تحول في تاريخ المسلمين في الأندلس، انحسر دور الموحدين في قيادة مناطق المغرب العربي، وانتشرت الفوضى في البلاد، ما سمح بصعود بني مرين لاعباً سياسياً ذا دور محوري ومهم.
تزعَّم بني مرين في ذلك الوقت عبدالحق بن محيو، الذي بدأ يلعب دوراً في تحويل بني مرين من مرحلة البداوة إلى مرحلة التفكير في بناء دولة، ما جعل الخليفة يوسف المستنصر الموحدي يسيِّر جيشاً من 20 ألف مقاتل لاستئصال شأفة المرينيين، والتقى الجمعان في وادي نكور عام 1216، وهُزم جيش الموحدين، ما أسهم في تشكيل أول نواة للدولة المرينية.
ويذكر المؤرخ الأندلسي إسماعيل بن الأحمر في كتابه "روضة النسرين في دولة بني مرين"، أنّه بعد خسارة الموحدين للمعركة استشعر يوسف المستنصر خطورة الموقف، واعتبر أن بني مرين يمثلون تهديداً وجودياً لدولة الموحدين، فعمل على تأليب القبائل العربية ضد بني مرين، وكوَّن حلفاً منهم.
التقى الجمعان في وادي سبو، وتمخضت المعركة هذه المرة عن هزيمة المرينيين ومقتل الأمير عبدالحق وابنه إدريس، وذلك في عام 1217، إلا أن القوات المرينيّة صمَّمت على الثأر والنصر، فأكملوا المعركة تحت قيادة عثمان بن عبدالحق حتى تمكنوا من إحراز النصر.
قويت على إثر ذلك شوكة المرينيّين، واستمر عثمان بن عبدالحق في فرض سيطرته على قبائل المغرب الأقصى، وبحلول عام 1228 باتت جميع قبائل المغرب من وادي ملوية حتى مدينة الرباط تخضع لسيادة الدولة المرينية، بما فيها مراكش وفاس ومكناسة.
العلاقة مع الموحدين.. صدام متكرر ومهادنة
في عام 1240 قُتل الأمير عثمان في تمردٍّ لإحدى القبائل الموجودة بقرية أزغار، فتولَّى أخوه محمد بن عبدالحق المعروف بأبي المعرف من بعده القيادة، وفي عام 1242 خرج جرمون بن رياح -من قبيلة الرياح المتعاونة مع الموحدين- على الخليفة الرشيد الموحدي، ودخل تحت طاعة الدولة المرينية، فبعث الرشيد الموحدي قوةً لمحاربة أبي المعرف، الذي كان في طريق عودته من مكناس.
ورغم أن أبا المعرف لم يكن معه إلا 50 فارساً وفق بعض الروايات، فإنَّه هزم الموحدين، وقتل منهم 100 مقاتل، وذلك في عام 1241، وفي بلدكرت تكررت المواجهة بين الفريقين في 1242، وانتصر المرينيون واستولوا على أسلحة وأموال الموحدين.
ومع صعود الخليفة السعيد على عرش الموحدين عام 1243 بعد موت أخيه الرشيد، أدرك مدى خطورة المد المريني على حساب دولته الآيلة للسقوط، فجهز جيشاً مكوّناً من 20 ألف مقاتل، وزحف الجيشان نحو صخرة أبي بياش بجانب فاس في 1245، وقُتل أبو معرف في هذه المعركة، وانهزم المرينيون، ووَضعت هذه المعركة حداً مؤقتاً لتوسع الدولة المرينية.
تولَّى أبو بكر بن عبدالحق بعد مقتل أخيه شؤون الحكم، وفي عام 1246 عقد أبوبكر حلفاً مع الدولة الحفصية التي كانت تحكم بعض الأراضي في الجزائر وتونس، كما عمل على إرضاء قبائل وفروع بني مرين، إذ جمع شيوخهم ووزع عليهم الأراضي، حيث أنزل كل قبيلة منهم بناحية، ومن ثم قام بتحفيزهم لمقارعة الموحدين.
كان الخليفة الموحدي في خطرٍ داهم، بعد التطورات والخطوات الأخيرة التي قام بها أبو بكر، حيث لم يتبقَّ له إلا مدينة مراكش للموحدين، بعد أن استولى بنو حفص وبنو مرين وبنو زيان على أجزاء شاسعة من دولته في شمال إفريقيا، فخرج جيش الموحدين لمقارعة الدول الثلاث، وذلك في عام 1247.
في ذلك التوقيت رأى أبو بكر أنَّ الموازين غير متكافئة، إذ يفوق جيش الموحدين جيشه، فتخلى عن بعض المناطق للموحدين، متوجهاً إلى قلعة تازوطة.
بناءً على ذلك، تقدَّم الخليفة السعيد بجيشه ودخل مكناس، فأرسل أبو بكر إلى السعيد بالبيعة فقبلها وأمَّنه هو وقومه، ثم أرسل أبو بكر 500 مقاتل إلى الخليفة السعيد، وتوجَّه الجيش الموحدي لقتال بني زيان، إلا أن الخليفة السعيد قُتل عند قلعة تامزدكرت بالقرب من مدينة تلمسان.
تأسيس الدولة المرينية واستقرار البلاد
عندما علم أبو بكر بمقتل السعيد، اعترض فلول الجيش الموحدي وقضى عليهم، واتخذ من المرتزقة الإسبان جنداً في قواته. ثم أعاد ضمّ مكناس وحصون ملوية في عام 1248، ثم دخل فاس عام 1249، وجعلها عاصمة بلاده، واستقرت البلاد وبدأت الوفود في القدوم معلنةً مبايعته.
إلا أنه مع قدوم عام 1250 أشعل الموالين للموحِّدين ثورةً في فاس، ولجأ الثائرون إلى يغمراسن بن زيان في مدينة تلمسان، ما جعل يغمراسن يطمع في الاستيلاء على المغرب، فلقيه أبو بكر المريني بوادي إيسلي بالقرب من وهران فهزمه، ثم عاد إلى فاس وقتل قادة المتمردين، في حين دفع الباقي من الثوار قيمة الخسائر المالية التي لحقت بالمرافق العامة.
وفي عام 1251 مدَّ أبو بكر سيطرته على مدينتي الرباط وسلا، فقام الخليفة الموحدي المرتضى بالخروج بقواته عام 1252 واستعاد مدينة سلا، ثم دارت المعركة بينه وبين أبو بكر، وانتهت المعركة بهزيمة الموحدين وعودة المرتضى إلى مراكش.
شكَّلت هذه الهزيمة ضربةً كبرى للموحدين، ما اضطرهم إلى عقد هدنةٍ مع المرينيين، فأرغم المرينيون الموحدين على دفع الجزية لهم.
وبسبب انسحاب الموحدين، عمل الزيّانيون على الاستيلاء على المدن التي كانت من قَبْل للموحدين، وبسبب ذلك قام أبو بكر لمحاربة يغمراسن الزياني فهزمه في أبي سليط، إلا أن يغمراسن تحرك باتجاه سجلماسة ودرعة للاستيلاء عليهما فسبقه المرينيون، فانسحب الجيش الزياني وذلك في عام 1257.
وفي عام 1558 توفي أبو بكر في فاس، تاركاً دولة كبرى في المغرب، في حين انحصر نفوذ الموحدين في عاصمتهم مراكش وما حولها فقط.
كانت هذه قصة إنشاء الدولة المرينية، والتي ستدخل بوفاة أبي بكر وتولي أخيه يعقوب القيادة عصراً جديداً، ستلعب فيه دوراً محورياً في دحر القشتاليين عن الأندلس، كما ستصبح من أهم الدول في تلك الفترة.
فبعد أن دخل أبو يوسف يعقوب مراكش وأنهى حكم الموحدين فيها، اتجهت الأنظار إلى بني مرين كدولة فتية، وهو ما استدعى دخول يعقوب إلى الأندلس بعد أن استنجد به بنو الأحمر، الذين كانوا يحكمون مملكة غرناطة للحد من توغُّل القشتاليين، فدخل يعقوب ومعه بنو الأحمر في عدة معارك، والتي كان أهمها موقعة الدونونية.
ففي عام 1275 خرج القشتاليون في جيش ضخم بنحو 90 ألف مقاتل، وعلى رأسه القائد دونونه، الذي التقى بجيش المرينيين وعلى رأسه يعقوب على مقربة من غرناطة، فنشبت معركة هائلة، ولكنها حُسمت سريعاً لصالح المسلمين، إذ قُتل قائد القشتاليين، وقُتل فيها 18 ألف مقاتل من القشتاليين، في حين قُتل من المسلمين 24 مقاتلاً فقط، طبقًا للمؤرخ محمد عبدالله عنان، وهو ما سمح ليعقوب بالتوغل في أراضي قشتالة واستعادة إشبيلية بعد أن سقطت في أيدي القشتاليين، وهو ما أعاد لآخر دويلة للمسلمين في الأندلس بعضاً من قوتها، بعد أن كانت آيلة للسقوط، كما أدت إلى وقف الزحف القشتالي وسقوط غرناطة زهاء قرنين، ولهذا قصةٌ أخرى نحكيها في تقريرٍ آخر.