ألبانيا هي أحد بلاد البلقان الواقعة في جنوب شرق أوروبا، حيث كان يحكمها في القرن الخامس عشر الميلادي أسرة كاستريوت، التي كانت تحكم شمال ألبانيا، وكان إسكندر بك هو الذي يحكم ألبانيا زمن السلطان مراد الثاني، والد السلطان محمد الفاتح.
هزم إسكندر بك كل الجيوش العثمانية التي أرسلها السلطان مراد الثاني لمحاربته، وقد واصل السلطان الفاتح الحملات التي قام بها والده في كل بلاد البلقان، ففتح أجزاء من اليونان ودخل صربيا والبوسنة والهرسك، وجاء دور ألبانيا ورومانيا.
بعد فتح القسطنطينية عام 1453، وجَّه السلطان محمد الفاتح جيشين إلى ألبانيا لمواجهة إسكندر بك، لكنّ إسكندر بك هزمهما، ثم توجه إلى مدينة بيرات في جنوب وسط ألبانيا التي كانت في أيدي العثمانيين، وكاد يستولي عليها لولا وصول الجيش العثماني الذي انقضَّ على إسكندر بك وهزمه.
وبعد عدة حروب بين العثمانيين وإسكندر بك رأى كل منهما أنَّ الصلح أفضل لهما، إذ لم يستطِع أي طرف منهما القضاء على الآخر، وبدأ الطرفان في المفاوضات التي انتهت في 22 يونيو/حزيران 1461، وأُعيد إلى إسكندر بك بموجب المفاوضات قلعتا ستيفجراد وبيرات.
إسكندر بك ينقض الهدنة مع محمد الفاتح
ذكر المؤرخ اللبناني محمد سهيل طقوش في كتابه "تاريخ العثمانيين" أنَّ الهدنة لم تدم أكثر من 3 سنوات، إذ دعا البابا في عام 1463 إلى حملةٍ صليبيةٍ موحَّدةٍ ضد العثمانيين، وسرعان ما انضم إليها إسكندر بك، ونقض بذلك الهدنة مع السلطان محمد الفاتح، ولما علم السلطان بذلك أرسل إلى إسكندر بك يُذَكِّرَه بالاتفاق، فلم يعترف إسكندر بوجود اتفاق بينهما.
أسرع إسكندر بك للهجوم على أراضي الدولة العثمانية، فبعث له السلطان الفاتح جيشاً تلو الآخر لصده، وكان آخر هذه الجيوش تحت قيادة بالا بان بك القائد العثماني من أصل ألباني ومعه 15 ألف فارس و30 ألفاً من المشاة.
حاول بالا بان بك استمالة إسكندر بك في بادئ الأمر بالهدايا، لكنّ ذلك لم يُجدِ معه نفعاً، فلم يجد أمامه إلا القتال. اختار إسكندر بك لملاقاة بالا بان بك وادياً يُدعى فالخاليا، وقد توقع إسكندر بك أن يكون خلف الوادي كمين من العثمانيين، فحذر جنوده إن انتصروا ألا يتتبعوا الجيش العثماني.
والتحم الجيشان، وهُزِمَ الجيش العثماني، إلا أنَّ جزءاً من جيش إسكندر بك لم يستجب لتعليماته واندفع خلف الجيش العثماني 8 من أشجع قادة الألبان، فوقعوا في شَرَكٍ نصبه العثمانيون لهم، وأحاط بهم العثمانيون من كل جانب وأسروهم وأرسلوهم إلى إسطنبول فأمر الفاتح بقتلهم جميعاً.
ثم أرسل الفاتح إلى بالا بان بك بجيشٍ آخر قوامه 17 ألف فارس و30 ألفاً من المشاة، فقاد بالا بان حملة عنيفة على إسكندر بك. كان إسكندر بك شجاعاً ومحنكاً، ورغم أنّه أصيب بجرحٍ بالغٍ في ذراعه، واصطدم جواده بجذع شجرة فسقط مغشياً عليه، فإنّه بعدما أفاق، هجم على العثمانيين مرة أخرى واستطاع هزيمتهم.
عند هذه المرحلة من الصراع الطويل، جهَّز الفاتح جيشاً يربو على 100 ألف مقاتل قاده بنفسه متجهاً إلى إسكندر بك، فوجد إسكندر بك أنه من الحمق أن ينازل هذا الجيش الضخم بجيشه الصغير، فغادر مدينة كرويا وترك بها حامية قوية قبل أن يحاصرها جيش السلطان، ولاذ هو بالفرار إلى الجبال وأخذ ينقضّ على العثمانيين بين حين وآخر، وفقاً لما ذكره الدكتور محمد سالم الرشيدي في كتابه "السلطان محمد الفاتح".
وجد الفاتح أنّ الحصار سيطول على مدينة كرويا التي تبعد عن مدينة تيرانا عاصمة ألبانيا 20 كيلومتراً فقط، كما جدَّت أمورٌ هامة في العاصمة إسطنبول، فعهد إلى بالا بان بك بقيادة الجيش ومواصلة حصار كرويا حتى تستسلم.
إسكندر بك.. نهاية عدوٍ عنيد
تنكّر إسكندر بك في زي فلاحٍ وسافر إلى روما لمقابلة البابا يوليوس الثاني. أخبره إسكندر بك أن العثمانيين لو سيطروا على ألبانيا، فستكون وجهتهم القادمة هي إيطاليا. فقد ضمّوا القسطنطينية واليونان وصربيا والبوسنة بالفعل.
أرسل البابا مع إسكندر بك جنوداً من فرسان جمهورية البندقية، كما بعث إليه برؤساء المقاطعات ومعهم مدد من الجنود الأشداء.
في تلك الأثناء وفي طريق عودته، أصابت إسكندر بك حمى قوية حتى أنه شعر بدنو أجله، فأوصى باستمرار الحرب على العثمانيين، وبسبب صغر سن ابنه، عَهِدَ بالوصاية من بعده إلى جمهورية البندقية، ومات في 17 يناير/كانون الثاني عام 1467.
بوفاة إسكندر بك، تخلّص العثمانيون من أحد أعند أعدائهم، وأصبحت السلطة في ألبانيا متنازعة بين ثلاث قوى، هي: رؤساء القبائل، والدولة العثمانية، وجمهورية البندقية، وبذلك انتهى فصلٌ طويل من صراع العثمانيين مع إسكندر بك، فقد دخل العثمانيون ألبانيا بعد موته، ولكن ظل الصراع قائماً وإن كان بشكل أقل مع جمهورية البندقية. إلا أن باباً جديداً من الصراع كان قد بدأ يظهر على مسرح الأحداث.
رومانيا ودراكولا السفاح والتنازع على الحكم
كانت تحيط بلاد الأفلاق التي تقع شمال نهر الدانوب وجنوب سلسلة جبال الكارابات، وهي إحدى مقاطعات رومانيا حالياً، كانت تحيط بها ثلاث دول كبرى، هي: بولندا، والمجر، والدولة العثمانية. تتنازع جميعاً السيادة فيها، إذ لم يكن لها نظامٌ ثابت وواضح للوراثة في الحكم، لذا كانت تعمُّ الأفلاق الاضطرابات دائماً، كما كانت العلاقة بينها وبين جارتها البغدان -التي تُمثِّل الإمارة الرومانية الأخرى- ليست جيدة.
خضعت الأفلاق للسيادة العثمانية في عهد السلطان بايزيد الأول عام 1393 لاشتراكها مع الصرب في محاولة استرداد أدرنة عاصمة الدولة العثمانية حينها، واستقلت بعد ذلك بحوالي 10 سنوات في عام 1402، ثم أخضعها السلطان محمد الأول مرة أخرى وأصبحت تدفع له الجزية في عهد حاكمها مارشا الأول الذي ترك بعد وفاته عدة أبناء تنازعوا على الملك، حتى استتب الأمر في يد ابنه دراكول أو دراكولا.
كان دراكول هو الابن الرابع لمارشا، وربما لم يذكر التاريخ أحداً مثله في سفك الدماء والتعذيب، فقد ابتدع الكثير من وسائل التعذيب، حتى لقبه الناس بالشيطان، وسماه آخرون "السفاح"، فقد كان دائم التعذيب لأي شخص يعارضه أو لا يعجبه، وكان يحب يتناول طعامه وحوله أعمدة الخوازيق والناس عليها يأنِّون وهم يموتون، وقد كان كثيراً ما يسلخ أقدام الأسرى العثمانيين ويدعك لحومهم بالملح، ثم يأتي بالماعز لتلحسه إمعاناً في التعذيب.
ومن نوادر ما فعله "دراكولا" أنه دعا في يومٍ الشحاذين، فأطعمهم أطايب الطعام، وسقاهم الخمر، ثم أمر بإحراقهم وهم أحياء حتى ماتوا جميعاً.
وقد اخترع آلات تعذيب كثيرة منها آلات تقطيع أجزاء من أعضاء الإنسان لتعمل وحدها على سلق لحومهم، كما رُوي عنه أنه قتل يوماً أُمّاً وشوى لحمها وأمر أطفالها أن يأكلوا لحمها المشويّ. وهذا ما كان يفعله دراكولا مع الأبرياء، إلا أنه كان يفعل أشد منه مع اللصوص والمجرمين فعم الأمن والذُّعر جميع البلاد.
ومن الجدير بالذكر أنَّ شخصية دراكول هي التي استوحى منها الكثير من صنّاع الأفلام شخصية دراكولا السينمائية والكارتونية والتي تظهر على أنها من مصاصي الدماء، والشخصيات المتوحشة.
معاهدة الأفلاق ومحاولة اغتيال الفاتح
لضبط الأوضاع الداخلية المزرية في بلاد الأفلاق، عقد محمد الفاتح معاهدةً تقضي بحماية الدولة العثمانية للأفلاق والدفاع عنها، على أن تكون له السيادة عليها وأن يُدفع له الجزية، وفي مقابل ذلك تحتفظ الإمارة بإدارتها الداخلية ونظمها الخاصة، بشرط انتخاب الأمير الحاكم على يد الأساقفة والأشراف.
ولكن لم يمضِ وقتٌ طويل حتى نقض دراكولا المعاهدة، وحالف ماتياس كورفان ملك المجر وتزوَّج من إحدى قريباته، وتعهد أن يشن الحرب على العثمانيين.
وجد الفاتح أنه لا جدوى من التفاهم مع دراكولا، فأرسل له حمزة باشا الذي حاول استدراج دراكولا نحو فخٍّ لينفرد به ويغتاله، لكنَّ دراكولا فطن للمكيدة، وما إن علم بمكان حمزة باشا الذي كان متخفياً داخل الأفلاق لينقضَّ على دراكولا، حتّى قبض عليه وقطع يديه ورجليه ثم وضعه على الخازوق.
كردّ فعل على تصرٌّف دراكول، جهَّز السلطان محمد الفاتح حملةً كبرى وقسمها قسمين، وضع على الجيش البريّ محمود باشا، أما الأسطول فتولى قيادته بنفسه، وخرج شاهراً سيفه من ميناء إسطنبول إلى البحر الأسود، ثم صعد لنهر الدانوب.
في هذا الوقت، عرف دراكولا بأمر الحملة، فأرسل جزءاً من جيشه لمحاربة أمير البُغدان الذي كان يطمع في الاستيلاء على الأفلاق، ولاذ دراكولا بالغابات. ودخل السلطان الفاتح الأفلاق وأخذ يجوب فيها بجيشه دون أن يتعرض له جيش دراكولا.
وفي الليل، هجم دراكولا بفرسانه على العثمانيين، فأسرع العثمانيّون بتجهيز أنفسهم، وقاتلوا جيش الأفلاق.
كان هدف دراكولا من تلك الهجمات هو قتل السلطان محمد الفاتح، والذي استطاع الوصول لخيمته والانقضاض عليها، لكنه اكتشف بعد هجومه أنها ليست خيمة السلطان، فاتجه إلى خيمة أخرى مجاورة والتي كانت بالفعل خيمة السلطان، لكنَّ الحراسة المكوَّنة من الانكشارية ردُّوهم على أعقابهم، ولم يستطِع دراكولا النفوذ إلى الخيمة، وما كاد الفجر يلقي أشعته حتى هرب دراكولا قبل أن يحاصره العثمانيون.
كان قائد الحرس العثماني علي بك قد أسر 1000 جندي من جيش دراكولا، وجاء بهم إلى السلطان محمد الفاتح فأمر بقتلهم جميعاً.
ولما طلع النهار تبيّن للعثمانيين أن معظم ضحايا دراكولا كانوا من الخيل والجمال، فسار السلطان بجيشه إلى مدينة بوخارست عاصمة رومانيا وقبل أن يصل إلى المدينة وجد منظراً مروعاً أدهشه: امتدّ أمامه فضاء بنحو نصف فرسخ، به خوازيق نصب عليها 20 ألف شخص عليها، فقال الفاتح: "إنّ شخصاً كهذا لا يستحق التقدير".
وقبل دخول العاصمة بوخارست، حاول دراكولا إرهاق الجيش العثماني أثناء سيره نحو المدينة، فأخذ يهاجم الجيش العثماني من آنٍ لآخر من جهاتٍ مختلفة، لكنه لم ينجح في ردّ الجيش عن التقدم نحو المدينة، حينها انسحب بجزءٍ من جنوده إلى البغدان ليستنجد بجيشهم، وبعدها أسرع وذهب إلى ملك المجر، ليستنجد به.
دخول الأفلاق وخضوع كامل رومانيا للعثمانيين
في تلك الأثناء، كان دراكولا قد ترك جزءاً آخر من جيشه، مهمّته تأخير دخول الجيش العثماني إلى بوخارست، وأمرهم أن يلوذوا بالغابات ثم يعاودوا الانقضاض بضربةٍ مفاجِئةٍ ولكن بدون مواجهة حاسمة مع العثمانيين.
لكنّ غرور قائد جيش الأفلاق قاده للهجوم المباشر على العثمانيين، فمزّق الجيش العثماني جيش الأفلاق، وفتح العثمانيين بوخارست عام 1462 وصارت الأفلاق كلها للعثمانيين، في حين عاد الفاتح للقسطنطينية.
في المقابل، تحالف كل من ملك المجر والبغدان ضد العثمانيين، فهجموا على الأفلاق عام 1472 وأبعدوا العثمانيين عن حكم الأفلاق، وأعادوا دراكولا إلى حكمها، فعاد إلى سيرته الأولى من قتل وتعذيب الناس.
وفي عام 1479 حين زاد البطش والتنكيل بشعب الأفلاق، قُتل دراكولا. وتختلف الروايات حول كيفية مقتله. تقول إحدى الروايات أن دراكولا اُغتيل على يد بعض النبلاء الحانقين عليه من الأفلاق وهذه هي الرواية المرجحة عند كثير من المؤرخين.
في حين تقول رواية أخرى إن دراكولا قُتل في إحدى المعارك ضد العثمانيين وهو يقاتل حتى الموت فداءً لشعبه المخلص.
إلا أن هذه الرواية صعبة التصديق عند كثير من المؤرخين. فيما تقول رواية ثالثة إن دراكولا صدمه أحد رجاله عن طريق الخطأ فمات. وتبدو هذه الرواية الأقل احتمالاً؛ إذ اتفق المؤرخون على أن رأس دراكولا سقط في يد السلطان الفاتح. وبموته أو بمقتله كان ذلك إيذاناً في كل الأحوال بعودة جيش العثمانيين إلى الأفلاق، واستتباب الأمر لهم.
أما عن البغدان الإمارة الأخرى من رومانيا، فقد خضعت للعثمانيين عام 1554 -في زمن بايزيد الثاني ابن السلطان محمد الفاتح- وأصبحت تدفع لهم الجزية، بل وقامت بمعاونتهم في حروبهم، لتصبح كامل رومانيا جزءاً من الدولة العثمانية.