الكثير من الفظائع مرّت بها البشرية عبر التاريخ، كوارث طبيعية وأمراض وأوبئة حصدت الملايين، لكن ربما الكوارث الأسوأ من الكوارث الطبيعية هي الكوارث التي يصنعها البشر بأنفسهم، وقد تجلّى ذلك تحديداً في القرن العشرين الذي شهد حربين عالميتين أفنت عشرات الملايين. لكن بعيداً عن الحروب، فقد كان هناك معسكرات الجولاج في الاتحاد السوفيتي، وتحديداً تحت حكم ستالين.
لهذه المعسكرات قصص مأساوية أكثر من أن تُحصى فقد سجن أو نُفي فيها أكثر من 28 مليون إنسان بين عامي 1918 و 1987. أي تقريباً بمعدّل نصف مليون إنسان سنوياً. كما أن هذه الأرقام هي أرقام تقريبية، والتي عادةً ما تبتعد عن الأرقام الحقيقية التي تكون عادةً أكبر.
معسكرات الجولاج.. من أجل العمل القسري والتخلُّص من "أعداء الثورة"
تعني كلمة "جولاج" اختصار لكلمة "المديرية الرئيسية للمعسكرات"، وقد كانت نظاماً سوفيتياً لمعسكرات الاعتقال والعمل القسري.
أُنشئ هذا النظام لأول مرة في عهد أوّل زعماء الاتحاد السوفييتي فلاديمير لينين، لكن في الحقيقة – وكعادة كلّ شئ سوفييتي – فقد بلغ ذروته خلال فترة حكم أبرز قادة الاتحاد السوفييتي: الديكتاتور جوزيف ستالين.
كانت هذه السجون سيئة السمعة للغاية، بل إنّ كلمة "سيئة السمعة" لا تصف جزءاً من وحشيتها. كانت ظروف الحياة داخل هذه المعسكرات وحشية للغاية، كان السجناء يجبرون على العمل لمدةٍ تصل إلى 14 ساعة في اليوم وغالباً في أحوال جوية قاسية.
مات كثيرون بسبب الجوع أو المرض أو الإنهاك وأُعدم آخرون بكل بساطة، لأبسط الأسباب. وقد كان لفظائع نظام "غولاغ" تأثير طويل الأمد، ولا يزال متغلغلاً في المجتمع الروسي حتى يومنا هذا. والمثير للانتباه أنّ الحكومة الروسية تحاول تبييض هذه الصورة الهمجية والوحشية من تاريخها.
بعض التقديرات تعتبر أنّ عدد المعتقلين فيها عبر تاريخها كان حوالي 18 مليون إنسان. لكنّ تقديرات أخرى تقدرهم بـ 28 مليون إنسان.
جوزيف ستالين.. كلمة السرّ لكل وحشية في الاتحاد السوفييتي
على الرغم من أن فلاديمير لينين، قائد ثورة البلاشفة عام 1917، هو الذي أسّس معسكرات الجولاج عام 1919 وفي غضون سنتين أصبحت تضمّ 84 معسكراً، لكنّ هذه المعسكرات، بل والاتحاد السوفييتي والعالم، كان على موعدٍ من شخصٍ من طرازٍ مختلف، جوزيف ستالين.
شقَّ جوزيف ستالين طريقه نحو السلطة بعد وفاة لينين بطريقةٍ دمويّة، فقد تخلّص من أحد أكثر المرشحين لخلافة لينين "تروتسكي"، وتخلَّص من كل منافسيه ورفاقه، ليتربّع وحده على عرش الاتحاد السوفييتي عام 1922 حتى وفاته عام 1953.
شهدت معسكرات الجولاج توسعاً كبيراً في أعدادها منذ عام 1929 حتّى وفاة ستالين عام 1953. فقد اعتبر ستالين تلك المعسكرات وسيلةً فعّالة لتعزيز التصنيع في الاتحاد السوفييتي والوصول للموارد الطبيعية مثل الفحم والخشب والمعادن الأخرى.
وهكذا كان يتمّ اعتقال الناس بأي تهمة، جنائيين، وسياسيين، وكتّاباً، وشعراء، ومهندسين، رجالاً ونساءً من كلّ التخصصات، ويوضعون في معسكرات الجولاج بأوامر ستالين. أراد ستالين أن يسرّع عجلة التصنيع في الاتحاد السوفييتي فكان ذلك على رقاب وأرواح الملايين من مواطنيه.
بالإضافة لهذا، فقد استخدمت معسكرات الجولاج كذلك في حملات القمع الضخمة التي نفّذها ستالين لإحكام قبضته على البلاد والقضاء على المعارضين في الحزب الشيوعي، وقد سمّيت هذه العملية باسم "التطهير الكبير".
كانت المجموعة الأولى من سجناء معسكرات جولاج تضمُّ المجرمين العاديين والمزارعين الأثرياء، الذين أُلقي القبض على العديد منهم عندما احتجوا ضد سياسة التنظيم الجماعي، وهي سياسة فرضتها الحكومة السوفييتية طالبت الفلاحين بالتخلّي عن مزارعهم الفردية والانضمام إلى الزراعة الجماعية.
ولاحقاً، عندما شنَّ ستالين حملات "التطهير الكبير" انضمّ إليهم فئةٌ جديدة "السجناء السياسيين". وكان من بين أول المستهدفين أعضاء معارضون في الحزب الشيوعي وضباط عسكريون ومسؤولون حكوميون. ومع الوقت أرسل لمعسكرات جولاج مواطنون عاديون وأشخاص مُتعلّمون -أطباءً وكُتّاباً ومفكرين وطلاباً وفنانين وعلماء- وبالطبع، حدث أن ألقي القبض على مواطنين عشوائياً دون سابق إنذار ودخلوا الجولاج.
وعلى سبيل المثال، تحكي إليزافيتا ميخائيلوفا، وهي بنت أحد ضحايا معسكرات الجولاج. تحكي ميخائيلوفا عن اعتقال والدها خلال حملة التطهير الكبرى التي حدثت بين عامي 1937 و1938. اتهم والدها بالمشاركة في منظمة "معادية للثورة"، وكان حينها يتولى منصب مسؤولية في قطاع الصناعة الكيميائية.
أمضى والدها 8 سنوات في معسكرات العمل الشاق وحكم عليه مجدداً بالسجن 25 عاماً أخرى في سيبيريا، ولكن بعد وفاة ستالين تمّ تخفيض حكمه. وقد هُجّرت عائلته من مكان إقامتها في موسكو.
شكل الحياة في الجولاج
رغم أن هناك الكثير من الوثائقيات والكتب التي تناولت الحياة داخل هذه المعسكرات اللاإنسانية إلا أنه من الصعوبة أن يصف أياً منها شكل الحياة داخل هذه المعسكرات.
أُجبر السجناء في معسكرات جولاج على العمل في مشروعاتٍ صناعية وعمليات بناء وتعدين واسعة النطاق. وقد استخدم معتقلو جولاج عمالاً في العديد من المشروعات السوفييتية الضخمة. من بينها على سبيل المثال حفر قناة موسكفا – فولغا وكذلك حفر قناة البحر الأبيض – بحر البلطيق وطريق "كوليما" السريع. يمكنك القراءة عن أسباب وظروف حفر تلك القناة من (هنا)
ورغم استخدامهم لتدشين المشاريع السوفييتية القومية، فقد كانت ظروف عملهم شديدة البؤس والمأساوية.
عمل السجناء بأدواتٍ يدوية بدائية بدون أيَّ معدات سلامة مهنية. وأمضى بعض العمال أياماً طويلة يقطعون الأشجار أو يحفرون في الأرض المتجمِّدة بمطارق وفؤوس ومناشير يدوية. كما عمل آخرون في استخراج الفحم أو النحاس واضطر كثيرون إلى نبش التراب والأوساخ بأيديهم العارية.
كانت ظروف العمل شاقة للغاية لدرجة أن ثمة سجناء كانوا في بعض الأحيان يقطعون أيديهم بالفؤوس أو يضعون أذرعهم في موقد خشبي لتجنُّب مواصلة العمل.
غالباً ما كان المعتقلون في هذه المعسكرات يعملون في ظروف طقسٍ قاسية للغاية تصل أحياناً إلى درجات حرارة تحت الصفر. كانت الحصص الغذائية ضئيلة وإذا لم يكمل السجين المهام اليومية الموكلة إليه، يتقلّص حجم حصته الغذائية.
تولّى الحراس الوحشيون عمليات "حفظ النظام"، وقد تضمّنت هذه العمليات ربط الأداء في العمل بحصّة السجين من الطعام. على سبيل المثال، أثناء حفر قناة البحر الأبيض – بحر البلطيق كان العامل الذي أنجز المطلوب منه ينال أقل من 900 غرام من الخبز ونحو 90 غراماً من اللحم.
أمّا السجناء المرضى فكانوا يتلقُّون نصف هذه الكمية، أمّا الذين لم ينالوا رضا رؤسائهم في العمل فقد كانوا يحصلون على أقلّ من النصف. وقد ساهم هذا النظام بطبيعة الحال على انتشار العنف بين المعتقلين أنفسهم، الذين كانوا أحياناً من شدة يأسهم يسرقون الطعام والإمدادات الأخرى من بعضهم البعض.
وقد لقى الكثيرون من هؤلاء العاملين بالسخرة حتفهم بسبب الإجهاد، بينما تعرّض آخرون للاعتداءات الجسدية أو القتل من حراس المعسكر. ويقدر مؤرخون أنَّ ما لا يقل عن 10% من إجمالي معتقلي معسكرات "غولاغ" كانوا يُقتلون كل عام.
كان السجناء الذين لم يموتوا في السجن واستطاعوا البقاء حتى نهاية مدة الحكم الصادرة بحقهم يخرجون من المعسكر، أما هؤلاء السجناء الذين نفذوا جميع مهامهم طوال فترة اعتقالهم وتجاوزوا أهداف خطة عملهم اليومين فقد نالوا إفراجاً مبكراً.
كما كانت تصدر سنوياً قرارات بالإفراج عن ما يقرب من 150 ألف شخص إلى 500 ألف شخص من معسكرات جولاج في الفترة بين عامي 1934 و1953. ويبدو أن عمليات الإفراج تلك لتفريغ أماكن المعسكرات لإدخال غيرهم.
نهاية نظام معسكرات الجولاج
وفاة ستالين عام 1953 ضعفت قوة نظام معسكرات الجولاج، وأُطلق سراح ملايين السجناء في غضون أيام. فقد كان نيكيتا خروتشوف خليفة ستالين، من أشد منتقدي هذه المعسكرات وحملات التطهير ومناهضاً لمعظم سياسات ستالين.
لكن هذه المعسكرات لم تنتهِ تماماً، فقد أعيدت هيكلة بعضها لتكون سجوناً للمجرمين والنشطاء الديمقراطيين والقوميين المناهضين للسوفييت خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين.
ولم تختفِ هذه المعسكرات تماماً حتى عام 1987 عندما بدأ رسمياً الزعيم السوفيتي، ميخائيل غورباتشوف، والذي هو حفيد أحد ضحايا نظام الجولاج، عملية التخلّص من جميع معسكرات العمل القسري.
ومع ذلك لم تُكشف الفظائع الحقيقية لنظام الجولاج إلا في وقتٍ متأخر، لأنَّ محفوظات الدولة كانت سرية ومغلقة قبل سقوط الاتحاد السوفييتي في عام 1991.
وعلى الرغم من أنَّ معسكرات الجولاج الوحشية تلك قد وفّرت نظاماً للعمالة الرخيصة، فإن معظم المؤرخين يتفقون على أنها لم تسهم في نهاية المطاف إسهاماً كبيراً في تعزيز الاقتصاد السوفييتي. يشير خبراء إلى أنَّ العُمّال في هذه المعسكرات كانوا غير مُجهّزين إطلاقاً لتحقيق نتائج مثمرة في ظل الافتقار إلى لوازم العمل والتدريب الجيد والحصص الغذائية الكافية.
يقول الكاتب الروسي فارلام شالاموف عن فترة وجوده في معسكرات الجولاج: فهمت لماذا لا يعيش الناس على أمل، فلم يكن هناك أيّ أمل. ولا كان بإمكانهم البقاء أحياء من خلال الإرادة الحرة ـ أية إرادة حرة هناك؟ إنهم يعيشون على الغريزة، على شعور حفظ الذات، على نفس أساس الشجرة، أو الحجر، أو الحيوان.