في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك، وتحديداً في عام 711، فَتَحَت الخلافة الإسلامية ثلاثة أقطار كبرى. فتحت الأندلس تحت قيادة موسى بن نصير، وفي نفس العام قاد محمد بن القاسم الثقفي الفتوحات في بلاد السند، وأصبح أول من غزا الهند من المسلمين (للقراءة عنه، من هنا)، إلا أن مسلمة بن عبدالملك، أخا الوليد بن عبدالملك وأحد أكبر وأمهر القادة العسكريين في الخلافة الأموية، كان يُعِدُّ العُدّة للفتح الأكبر من نوعه آنذاك، إذ حمّسه أخوه الوليد لفتح القسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية، وكان ذلك بالتزامن مع فتوحات قتيبة بن مسلم أيضاً في "بلاد الترك"، حتى وصل إلى تخوم الصين.
توغَّل مسلمة في بلاد الروم (البيزنطيين) عام 711، وهو نفس عام فتح المسلمين للأندلس والهند، حتى وصل إلى مدينة الباب في أرمينيا ليستولي عليها، وتسقط في يده من بعد ذلك عِدَّة حصون، ومن بعدها يصل مسلمة حدود القسطنطينية ليبنى هناك مسجداً، ثم قفل راجعاً إلى أخيه الخليفة الوليد بن عبدالملك.
ظلّ مسلمة في فترة حكم أخيه الوليد لا يكاد يتخلَّف سنة واحدة عن غزو أراضي الروم، وذلك ليزداد معرفة وخبرة بالطرق المؤدية إلى عاصمة بيزنطة، لكي يكون له نصيب ضمن محاولات فتح القسطنطينية.
المسلمون ومحاولات فتح القسطنطينية
عندما انطلق الإسلام موسعاً نطاق انتشاره والأراضي الإسلامية التابعة له في عصر الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، كان العالم مقسماً بين إمبراطوريتين ضخمتين تنازعتا السيطرة على العالم طيلة قرون طويلة: الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية البيزنطية، والمعروفتين في التاريخ الإسلامي بـ: الفرس والروم.
قضى المسلمون على الفرس في عهد عمر بن الخطاب، ودخل الإسلام في المناطق التي كانت خاضعةً لهم، كما قضى المسلمون على الروم في مناطق الشام ومصر، لكنّهم لم يقضوا على الإمبراطورية البيزنطية كما حدث مع الفرس. ظلّ حلم القضاء على الروم يداعب مخيلة الخلفاء المسلمين عبر التاريخ، وكذلك ظلّ يداعب قادتهم العسكريين، خصوصاً بسبب الحديث الشهير "لتفتحنّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش".
وكان هناك الكثير من محاولات فتح القسطنطينية لخلفاء ولقادة وملوك مسلمين عبر التاريخ، منها محاولة السلطان العثماني مراد الثاني أبو محمد الفاتح، ومنها محاولة السلطان بايزيد يلدريم، كما كان من ضمنها محاولة مسلمة عبدالملك التي كانت بعيدةً في الزمن. فقد كانت عام 716، ولم يتحقّق حلمه إلا بعدها بـ737 عاماً على يد السلطان العثماني محمد الفاتح.
توفي الخليفة الوليد بن عبدالملك عام 714، وتولى أخوه سليمان بن عبدالملك الخلافة من بعده. كان سليمان قريباً جداً من عمر بن عبدالعزيز (الذي ولّاه الخلافة من بعده) وجعله مستشاراً له. وقد حثّه عُمر على غزو القسطنطينية.
أخذ سليمان بنصيحة عُمر، وفي نفس الوقت حلم فتح القسطنطينية حلمٌ قديم للمسلمين، ظلّ سليمان بن عبدالملك يجهّز الجيش ويعدّه طوال عام 715، وفي العام التالي جعل أخاه مسلمة بن عبدالملك على رأس الجيش، وفي تلك الأجواء الحماسية جاءت الأخبار بأنّ جيش الروم خرج على ساحل حمص، فسبى امرأةً وجماعةً من المسلمين، فغضب سليمان غضباً شديداً، وكان هذا هو الحدث الذي أذن للجيش بالتحرُّك.
يقول ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ" أنه مع مقدم أخبار جيش الروم، قال سليمان: "والله لأغزونهم غزوةً أفتح بها القسطنطينية أو أموت دون ذلك"، وكان قد تجمّع في ذلك اليوم 120 ألفاً من الجند، وأسطول ضخم مكوّن من ألف سفينة، وسار الجيش تحت قيادة مسلمة نحو القسطنطينية وفي غضون ذلك وصلت الأخبار أن ملك الروم قد مات.
عندما وصل الجيش إلى حدود القسطنطينية أمر مسلمة بجمع الطعام فكان أمثال الجبال، وطلب من الجند ألا يأكلوا منه شيئاً، على أن يزرعوا الحبوب، وقد أسَّس بيوتاً من الخشب لتؤوي الجند، وبقي الطعام كما هو لا يقربه الجند، وظلوا يأكلون مما يزرعون ويأخذون من الغارات التي يلحقونها بأراضي الروم المجاورة للقسطنطينية.
وهكذا كان واضحاً من الخطّة أنّ المسلمين لن يعودوا قبل أن يفتحوا القسطنطينية.
الظروف تضطرّ مسلمة بن عبدالملك للتراجع
يروي عبدالقادر جبارة في بحثه "مسلمة بن عبدالملك.. حياته وجهاده" أن الروم أرسلوا إلى مسلمة وعرضوا عليه الرجوع على أن يعطوه عن كل رأس ديناراً، فلم يقبل. وكان هناك شخص يدعى أليون كان يحظى بعلاقة جيدة بمسلمة، وقد تواصل معه الروم ووعدوه أنه إذا صرف المسلمين عن القسطنطينية جعلوه ملكاً عليهم، فذهب إلى مسلمة وقال له إن الروم يعلمون أنك لا تصدقهم القتال، واقترح عليه أن يحرق الطعام كي يبدي لهم جدية الموقف فيسلموا لك، فأمر مسلمة بحرق الطعام.
وقد اختلف المؤرخون على الرواية، لكنّ البعض أثبتها ورجّحها على غيرها من الروايات. وفق هذه الرواية فإنّ مسلمة قد خُدع، وفقد معظم الطعام حتى أصبح الجند في حالة مستعصية، وبدأوا في أكل كل شيء يقابلونه لسد رمقهم.
أمر مسلمة عند ذلك الأسطول البحري، الذي كان يفرض حصاراً على المدينة هو الآخر ويغلق الممرات المؤدية إليها، بنصب المجانيق وقصف أسوار المدينة، إلا أن الأسوار كانت منيعة فلم يستطع مسلمة التقدُّم داخل المدينة أو إحداث اختراق يسمح بتخطِّي حدودها، فلم تضعف عزيمة مسلمة، وظل مرابطاً حول المدينة، محاصراً لها.
لكنّ روايةً أخرى قد تكون اقرب للتصديق من هذه الرواية، التي من الصعب تصديقها خصوصاً أنّ مسلمة قائد عسكري منذ صغره، فليس من السهولة خداعه بهذه الطريقة، كما أنّ تجهيزه للجيش الذي طال شهوراً لم يكن ليضيع بسعي أحد جواسيسه الذي خانه وفقاً للرواية.
أمّا الرواية الأخرى فهي أنّ سليمان بن عبدالملك قد بدأ يمرض، وبدأ تمردٌ كبير على الدولة في خراسان، ففكّر سليمان في استعادة أخيه مسلمة وجيشه للقضاء على تمرّد خراسان. كما أنّ رواية أخرى تقول إنّ عمر بن عبدالعزيز عندما أصبح خليفة بعد وفاة مسلمة أمره بالعودة، لما وجد أنّ الحصار طال وطالت تكلفته ولم يحقق الانتصار المطلوب.
عندما بدأ الخليفة حملته على القسطنطينية، انتقل من العاصمة دمشق إلى منطقة دابق شمال حلب ليتابع تطور الأحداث بنفسه.
وفي آخر أيامه توجّه مسلمة نحو دابق ليلتقي بأخليه الخليفة سليمان، وفي طريقه وصله خبر وفاته، فخاف مسلمة على جيشه المرابط حول القسطنطينية، فعاد مسرعاً إلى جيشه.
خلف سليمان ابن عمّه عمر بن عبدالعزيز، والذي بدأ عهداً جديداً في الدولة الأموية في مختلف الجوانب، لاسيما على صعيد سياسة الدولة الخارجية، فأرسل إلى مسلمة يأمره بالعودة من أرض الروم.
كانت سياسة عمر بن عبدالعزيز تعتمد على إرجاع جميع الجيوش التي كانت خلف الحدود؛ وذلك لتأمين حدود دولته لتقويتها والعمل على تثبيت قواعدها التي اكتسبتها في عهود الخلفاء الذين سبقوه، والذين وصلت الدولة في عهدهم إلى مساحات شاسعة، وبذلك انتهت حملة مسلمة وانضمّت لمحاولات فتح القسطنطينية العديدة.
ومن الجدير بالذكر، أن هذه الحملة لم تكن هي المرة الأولى التي يحاول فيها المسلمون فتح القسطنطينية، إذ سعى معاوية بن أبي سفيان لتحقيق هذا الهدف، فقد كان فتح القسطنطينية يمثل واحداً من أهم الأهداف الكبرى للخلافة الأموية، وذلك لتحقيق الحديث الذي ذكرناه سابقاً.
لم تحقق هذه الحملة هدفها، إلا أن أنها غيرت من طبيعة العلاقة بين الإمبراطورية البيزنطة والخلافة الإسلامية، إذ أوقفت هذه الحملة غارات البيزنطيين على بلاد المسلمين لمدة طويلة من الزمان. وهو ما أسس لمرحلةٍ جديدة بين الدولتين الأموية والبيزنطية، إذ أدركت بيزنطة أنّ جيوش المسلمين أصبحت قوية كفاية لمحاصرة عاصمتهم، وهو ما قضى على حلمهم المتمثِّل في استعادة مصر والشام. وقد سمح ذلك للدول الإسلامية المتعاقبة للتوسع شرقاً وغرباً دون اعتراض الدولة البيزنطية لهم. حتّى جاء السلطان محمّد الفاتح ففتح القسطنطينية في عام 1453 لتتحوّل إلى إسطنبول التي نعرفها اليوم.