أشهر معارك المسلمين مع المغول هي معركة عين جالوت بلا شكّ، فهي المعركة الحاسمة التي أوقفت استباحتهم بلاد المسلمين بعد سقوط العاصمة العباسية بغداد ومقتل الخليفة العباسي بطريقةٍ مُهينة، لكنّها لم تكن المعركة الوحيدة التي هزم المسلمون فيها المغول، فقد تكررت هزائم المغول أمام المسلمين بعد معركة عين جالوت.
فهناك مثلاً معركة حمص الثانية، التي وقعت بعد عين جالوت بعشرين عاماً، والمعروفة عند بعض المؤرخين بمعركة عين جالوت الثانية، لِما كان لها من أثرٍ كبير في تاريخ المسلمين، فهي أيضاً معركة أوقفت الزحف المغولي الكبير للمرة الثانية على بلاد المسلمين، يمكنك القراءة عن هذه المعركة بالتفصيل من هنا.
لكننا في هذا التقرير سنتناول هزيمةً أخرى وقعت للمغول على يد القوات الإسلامية، بقيادة السلطان والقائد المحنّك الظاهر بيبرس، الذي تحوّل إلى كابوس للمغول، ولخانهم أباقا بن هولاكو، وهو القائد الذي مُنيت قواته بأكثر من 3 هزائم من دولة المماليك، وتوفي في النهاية بعد إحدى الهزائم الكبيرة على يد دولة المماليك عام 1281، بسبب إفراطه في شرب الخمر، ويقال بسبب هزيمته الضخمة.
الظاهر بيبرس يوحّد مصر والشام ويواجه المغول
ظهرت دولة المماليك إلى الوجود بعد معركتين حاسمتين استطاعت من خلالهما الصعود على سطح الأحداث وقيادة العالم الإسلامي.
المعركة الأولى منهما هي معركة المنصورة عام 1249، عندما هزم المماليك قوات الحملة الصليبية وأسروا قائدها الملك الفرنسي لويس التاسع، كانت هذه المعركة بداية ولادة هذه الدولة.
لكنّ الدولة الوليدة كانت مؤسَّسةً على أساس أنّ "مماليك" السلطان الأيوبي أصبحوا سلاطين، وهكذا نشأت بينهم معارك طاحنة على من يصبح سلطاناً. تفرّق المماليك وتقاتلوا بعد المعركة، لكنّهم عادوا صفاً واحداً مرةً أخرى عندما داهمهم الخطر المغولي، فتوحدوا تحت السلطان المظفر قطز وهزموا المغول في عين جالوت عام 1260، وما هي سوى فترة قصيرة حتّى قتل بيبرس المظفّر قطز وتربّع على عرش السلطنة المملوكية الوليدة، والآخذة في التوسُّع.
ما إن تربّع بيبرس على عرش السلطنة حتّى واجه العديد من التمردات، وخصوصاً من مماليك وأتباع المظفّر قطز، فدانت لقطز مصر، ولكن بعض أمراء الشام رفض أن يدخل تحت لوائه. وهكذا كان العرش مستقراً تحت قدمَي بيبرس، وهو ما جعل المغول يفكّرون في استغلال هذا التذبذب والاضطراب.
كان هولاكو منشغلاً بالحرب مع أبناء عمومته المسلمين وقائدهم بركة خان، قائد القبيلة الذهبية المغولية المسلمة (يمكنك القراءة عنه من هنا)، ولكنّه لم يستطع الصمت على هزيمة عين جالوت، فأرسل هولاكو بعدها بشهور جيشاً صغيراً تعداده 6 آلاف جندي إلى الشام، بقيادة القائد المغولي بيدرا، سار الجيش إلى حمص وحارب ملكها الأشرف موسى، ولكنّه هُزم في حمص.
لم تكن معركة حمص الأولى كبيرة مثل معركة عين جالوت مثلاً أو معركة حمص الثانية، لكنّها كانت معركةً معنويّة، مفادها أنّ المغول لم يعودوا قوةً يمكنها هزيمة المسلمين.
أرسل السلطان الظاهر بيبرس رسالة شكرٍ لصاحب حمص، وأقرّه على إمارته عليها، وخلال السنوات القليلة القادمة قضى بيبرس على كلّ التمردات التي واجهته في بلاد الشام، ووحّدها مرةً أخرى مع مصر، مثلما كانت على عهد صلاح الدين الأيوبي.
معركة البيرة.. مواجهة بيبرس الكُبرى الثانية مع المغول
كان للظاهر بيبرس معارك عديدة مع المغول، وبطبيعة الحال فقد كان أعداؤه الدائمون هم المغول من الشرق (إيران وأجزاء من العراق) والصليبيون من الغرب، في بعض مدن ساحل الشام، وكذلك الدعم القادم لهم من أوروبا عبر الحملات الصليبية المتتالية.
كانت لبيبرس تجربته وخبرته مع كليهما، واستطاع عبر الزمن بحنكته السياسية ودهائه العسكري أن يهزمهما معاً، فقد هزم المغول في أكثر من موقعة، كما هزم العديد من الجيوش الصليبية، بل واستعاد الكثير من مدن الشام المحتلّة من قبل الحملات الصليبية.
بدأت التحرشات المغولية مرةً أخرى فلم ينسَ أباقا بن هولاكو هزيمة عين جالوت التي كان بيبرس أحد أبرز قادتها، وكذلك لم ينسَ هزيمة حمص الأولى. فأغار المغول على منطقة الساجور في سوريا، ثمّ بدأوا تحالفاً مع الصليبيين في الشام للقيام بهجومٍ مشترك على المسلمين، وفق ما ذكر المؤرخ اللبناني محمد سهيل طقوش في كتابه "تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام".
أرسل الظاهر بيبرس قوةً عسكريةً استطلاعيةً من مصر إلى الشام، ثمّ لحقها وتمركز في دمشق. وبعدما علم المغول بتحرّك السلطان بنفسه إلى الشام انسحبوا، لكنّهم عادوا مرةً أخرى عام 1271 وأغاروا على مناطق حلب وعينتاب وحارم، وهنا أرسل بيبرس قوةً عسكريةً مرةً أخرى اصطدمت بالقوة المغولية وهزمتها وانتصرت عليها قرب حرّان.
وما هي إلا شهور حتّى قرّر المغول أن يهاجموا الدولة المملوكية هجوماً كاسحاً، فهاجموا مدينة البيرة في شمال سوريا الحالية بجيشٍ مغوليّ سلجوقيّ، وهذه قصة أخرى، فقد دخلت دولة سلاجقة الروم في إطارٍ من الضعف والتبعيّة للمغول، وصار المغول يعينون السلطان والوزراء ويأخذون الجزية بشكل سنوي.
وكانت الدولة السلجوقية في ذلك الوقت تتأرجح في ولائها بين المماليك والمغول، وفي هذه المعركة وقفوا إلى جانب المغول.
هاجم الجيش المغولي السلجوقي البيرة بجيشٍ قوامه 30 ألف مقاتل عام 1271، وحاصروها حصاراً كبيراً مركزاً، ووضعوا حولها 23 منجنيقاً، وعزلوها كي لا يأتيها المدد المملوكيّ.
صمدت المدينة ضدّ المغول، وخرجت حاميتها في غاراتٍ ليلية استهدفت حرق المنجنيق وإيقاع خسائر سريعة وكبيرة في نفس الوقت في هجومٍ خاطف، ولم يقف السلطان بيبرس في القاهرة متفرجاً، فخرج بنفسه على رأس جيش إلى حمص.
صادر السلطان مراكب الصيادين وحملها على الإبل ليعبر بها نهر الفرات، وصل بيبرس وجيشه إلى الفرات فوجد الجيش المغولي على الجهة الأخرى من الشاطئ، فأنزل المراكب في الفرات وشحنها بالمقاتلين،
عبر قادته الكبار بقواتهم ثمّ عبر السلطان بقواته.
في تلك الأثناء كانت مدينة البيرة قد أعجزت الجيش المغولي السلجوقي، ويبدو أنّ المغول أرادوا أن يضربوا البيرة ويأخذوها بسرعة قبل أن يأتي مدد السلطان لها، لكنّهم فشلوا في ذلك وتحرّصوا من مصادمة كبيرة مع بيبرس، الذي أذاقهم الويلات سابقاً.
فكّك المغول الحصار سريعاً وعادوا إلى بلاد السلاجقة في الأناضول (تركيا الحالية)، لكنّ الجيش المملوكي اصطدم بمؤخرة الجيش المغولي وقتل الجيش المملوكي منهم وأسر 200 جندي، ولم يبق من مؤخرة الجيش المغولي إلى القليل.
وهكذا أضاف الجيش المغولي إلى هزائمه المتعددة أمام المماليك هزيمةً أخرى، في انتظار الهزيمة الأكبر في معركة حمص الثانية أمام السلطان المنصور قلاوون عام 1281، والتي ستكون المعركة التي قصمت ظهر المغول أمام دولة المماليك في مصر والشام لقرابة قرن من الزمان.