تعتبر معركة عين جالوت أشهر المعارك التي سجّلها التاريخ بين المسلمين والمغول، لكنّها ليست الوحيدة بأي حال، فقد كان هناك معارك جمعت بين المغول والمماليك مرةً أخرى، وكان الصراع هو نفسه يتكرّر، ربما ليس بنفس درجة الخطورة التي كان عليها الوضع أثناء عين جالوت، لكنّه كان وضعاً خطيراً أيضاً، هدّد بوقوع بلاد الشام مرةً أخرى في يد المغول، إضافةً إلى مصر بالطبع. لكنّ السلطان قلاوون هذه المرة قاد معركةً ضارية، وذات أهميّة في تاريخ المسلمين، كما أنّها ذات أهمية في الحفاظ على الدولة المملوكية الناشئة التي أرسى قواعدها الظاهر بيبرس خلال 17 عاماً من حكمه.
السلطان قلاوون والعرش المهتزّ
توفّى السلطان الظاهر بيبرس- أقوى سلاطين المماليك- عام 1277، وتولّى بعده ابنه الملك السعيد، لكنّ الملك السعيد كان شاباً لم يرث من أبيه لا حزمه ولا حنكته السياسية، فعادى الأمراء الذين يمكن اعتبارهم من مؤسسي الدولة مع والده، ومن بينهم الأمير سيف الدين قلاوون.
كان قلاوون رفيقاً لوالده الظاهر بيبرس، حاربا معاً في معركة المنصورة، وهي المعركة التي تعتبر مؤسسة دولة المماليك في مصر والشام، بعد أن توفي السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب أثناء المعركة، فأكمل قادته المماليك المعركة وأسروا لويس التاسع ملك فرنسا. كانت هذه المعركة هي موطن الشرعية الرئيسي لدولة المماليك، وقد حارب فيها سيف الدين قلاوون، وكان رفيقاً للظاهر بيبرس في رحلته الطويلة نحو السلطنة، وكذلك يداً من أياديه القوية أثناء فترة سلطنته.
سرت الجفوة بين الملك السعيد وقلاوون، حتّى اجتمع القادة وعزلوه من منصبه بعد سنتين فقط من سلطنته، ووضعوا بعده ابن بيبرس الآخر سلامش، الذي تلقّب بلقب الملك العادل. إلا أنّ العادل كان طفلاً في السابعة من عمره فقط، تمّ تنصيبه مدّة مئة يوم، إلى أن جمع قلاوون الأمراء وأخبرهم أنّ "السلطنة لا تقوم إلا برجلٍ كامل"، فبايعوه، وأصبح سلطاناً عام 1280، وتلقّب بالمنصور.
لكنّ سلطان قلاوون كان مهتزاً من تحته، فعلاقات السلطة في سلطنة المماليك كانت موزّعة بين العديد من قادة الجند والأمراء، وهكذا واجه قلاوون عدّة تحركات وتمرّدات لم توافق على إعطائه البيعة بالسلطنة، وكان أبرز هذه التمردات، تمرّد الأمير سنقر الأشقر في الشام.
كان الأمير سنقر الأشقر نائباً للسلطان في دمشق، دعا النواب الآخرين لمبايعته، لكن يبدو أنّ دعوته لم تجد مجيباً.
كان السلطان المنصور قلاوون يدرك صعوبة الوضع، فهو قد عزل أولاً ابن بيبرس مع ما يملك من شرعية باعتباره ابن الملك الظاهر، وهو ثانياً لديه مشاكل مع بقايا الممالك الصليبية في ساحل بلاد الشام، وهو ثالثاً لديه مشاكل مع المغول الإيلخانيين، وهم أبناء هولاكو، وكانت عاصمتهم تبريز في إيران.
أرسل السلطان رسالة إلى سنقر الأشقر يلومه فيها على عصيانه ويدعوه للبيعة، لكنّه رفض. وهنا سيّر السلطان جيشاً ليقضي عليه، واستطاع الجيش هزيمته لكنّه هرب، فأرسل السلطان جيشاً آخر وراءه فهزم مرةً أخرى وهرب، وعندما أراد قلاوون القضاء عليه في المرة الثالثة مال إلى الصلح وطلب ولاية أنطاكية وبعضاً من حصون وقلاع بلاد الشام، ووافقه قلاوون على ذلك، لماذا وافقه؟ لأنّ المغول في فارس يتحيّنون الفرصة للانقضاض على دولة المماليك التي أوقفت غزوهم في موقعة عين جالوت، وأوقعتهم في عدّة هزائم بعدها في عهد الظاهر بيبرس.
أباقا خان.. الذي ورث وحشية أبيه هولاكو
بعد وفاة هولاكو عام 1265، تولّى ابنه أباقا خان حكم مملكة إيلخانات فارس التي أسسها هولاكو ضمن الإمبراطورية المغولية الكبرى. كان أباقا مغولياً، لكنّه أصبح مسيحياً بعدما تولّى الحكم، وهو ما قرّبه نسبياً من بعض الحلفاء مثل مملكة أرمينيا وكذلك الممالك الصليبية في ساحل بلاد الشام.
ورث أباقا خان من والده العداء تجاه المسلمين، وفي المركز منهم دولة المماليك في مصر والشام، فهي الدولة الإسلامية المتبقية والوحيدة التي هزمت المغول في معركة عين جالوت الفاصلة في التاريخ.
عندما توفي السلطان الظاهر بيبرس، دخلت دولة المماليك في اضطرابات وقلاقل داخلية كما ذكرنا، فقد تولّى ابن بيبرس ثمّ عزل وتولى ابنه الآخر ذو السبع سنوات، ثمّ تولّى قلاوون ولا يزال العرش من تحته مهتزاً.
أرسل أباقا خان قوةً استطلاعية لبلاد الشام التي يحلم أن يضمّها لمملكته، واستطاعت هذه القوة أن تسيطر على عنتاب وحلب وبعض المناطق والمدن الأخرى في شمال الشام، وبالطبع فإنّ المغول كعادتهم قد ارتكبوا أعمالاً وحشية، فأحرقوا المساجد والمدارس ودار السلطنة وبيوت الأمراء في حلب.
لمّا وصلت الأخبار إلى السلطان المنصور قلاوون بدا في التجهيز لمعركةٍ كبيرة مع المغول، فأرسل أولاً قوةً عسكرية للتصدِّي للمغول في شمال الشام، وبدا في تجهيز دولته لمعركةٍ كبيرة، فولّى ابنه نائباً له في القاهرة، وخرج هو بجيشه وعسكر في حماة، وأرسل للأمير سنقر الأشقر يطالبه بالانضمام إليه في حربه مع المغول، لأنّهم أعداء الإسلام وأعداء دولتهما الواحدة: دولة المماليك. وبالفعل استجاب سنقر الأشقر وسار بجنوده إلى السلطان قلاوون.
استقرّت للسلطان جبهته الداخلية إذاً، ولكن تبقّت له جبهةٌ خارجية، وهي الممالك الصليبية في ساحل بلاد الشام. فراسل إمارات عكّا وطرابلس وعقد معهما معاهدات، تلزمهما بألّا يحاربا مع المغول في حربهم مع المسلمين، وقد كان.
معركة حمص.. المعركة الفاصلة في تاريخ الشرق
وفق ما يذكر لنا المؤرخ اللبناني، محمد سهيل طقوش في كتابه "دولة المماليك في بلاد مصر والشام"، فقد انطلق أباقا خان في سبتمبر/أيلول 1281 بجيشٍ بسيط من عاصمته، كان قوامه 3 آلاف مقاتل، وفي طريقه أخضع عدّة مدن وقلاع إسلاميّة، بينما خرج الجيش المغوليّ الآخر من الأناضول، من مدينة كابادوكيا في وسط تركيا الحالية، وكان قوام الجيش 100 ألف جندي، وعلى قيادته أخو أباقا منكوتمر، وهذا الجيش يضم قوّات المغول الأساسيّة، وقد انضمّ له في الطريق ليون الثالث ملك أرمينيا.
وصل جيش منكوتمر إلى حمص، حيث ستكون المعركة الفاصلة، بينما ظلّ أباقا خان في قلعة الرحبة في غرب سوريا الحالية، مراقباً تحركات المماليك في بلاد الشام، وتاركاً جيشه الرئيسيّ بقيادة أخيه منكوتمر ليخوض المعركة.
وبدأت المعركة، تجهّز الجيشان، فكان السلطان قلاوون قائداً لقلب الجيش، بينما وضع الأمير سنقر الأشقر على ميسرة الجيش، بينما جعل أمير حماة على الميمنة، وعلى الجانب الآخر كان منكوتمر في قلب الجيش يقود المعركة، وعلى ميسرة الجيش قادةٌ مغول، بينما تسلّم ميمنة الجيش ليون الثالث ملك أرمينيا والجنود الإسبتارية الصليبيون، الذين رفضوا الدخول في معاهدات السلطان المنصور قلاوون.
وكانت المعركة صباح يوم الخميس في شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 1281 في حمص، والتحم الجيشان، ويخبرنا ابن كثير في تاريخه عن تلك المعركة، فيقول: "واقتتل الجنود من الطرفين قتالاً عظيماً، لم يُر مثلهُ من أعصارٍ متطاولة"، أي لم يرَ مثله منذ زمنٍ بعيد.
في البداية كاد المغول ينتصرون، فقد هزمت ميمنة الجيش المغولي ميسرة جيش المماليك بقيادة سنقر الأشقر، بل طاردوه حتّى معسكره، فاضطربت صفوف الجيش المملوكيّ، وشارف على الهزيمة.
لكنّ السلطان قلاوون ثبت في أرض المعركة، فتحمّس الجنود والأمراء، وبينما طاردت ميمنة الجيش المغولي سنقر الأشقر وراحت تجمع الغنائم من حمص، كان الجيش المملوكي قد قلب المعادلة على أرض المعركة.
وقع قائد جيش المغول منكوتمر عن جواده، وأصيب في المعركة، فانسحب قلب الجيش الذي يقوده منكوتمر من المعركة، فأصبحت ميمنة الجيش المغوليّ معزولةً وحدها عن بقية الجيش. فقد انسحب قلب الجيش مع منكوتمر، والميسرة تطارد سنقر الأشقر، وانتصر المماليك في المعركة انتصاراً ساحقاً. وقد طارد المماليك ميمنة الجيش المغوليّ حتّى لم ينجُ منهم إلا أقلّ من عشرين مقاتلاً، أمّا منكوتمر فقد توفي متأثراً بجراحه بعد مدةٍ يسيرة، وفق ما ذكره المقريزي.
انسحب أباقا خان بقوته التي تمركزت في قلعة الرحبة، وعاد أدراجه إلى عاصمته تبريز. ولم يلبث أن توفِّي بعد المعركة بشهورٍ قليلة، في شهر أبريل/نيسان عام 1282، بسبب إفراطه في شرب الخمر، وحزنه على هزيمته الصارخة ووفاة أخيه منكوتمر بعد المعركة متأثراً بجراحه. بينما ظلّ قلاوون سلطاناً لمصر حتى عام 1290.
ويعتبر العديد من المؤرخين معركة حمص عام 1281، إحدى أكبر المعارك في تاريخ المشرق ومصيره، فلو انتصر المغول في هذه المعركة لكانت الشام ومصر لقمةً سائغةً لهم، ولحققوا ما لم يستطع الجيش المغوليّ الأول تحقيقه، عندما هزم في معركة عين جالوت قبل ذلك بنحو ثلاثة عقود، في عام 1260.
كما فتحت تلك المعركة، وبوفاة أباقا، باباً آخر للمسلمين، فبعد وفاته دخلت النخبة الحاكمة في مملكة إيلخانات فارس في نقاشٍ حول خليفة أباقا خان، بعد وفاة أخيه منكوتمر بعد معركة حمص، واستقرّ الرأي على تولية أخيهما أحمد تكودار بن هولاكو، الذي كان قد أسلم وهو شاب، وما إن أصبح إيلخاناً حتّى راسل قلاوون وأخبره بأنّه تولى مكان أخيه، ورفض سياسة العداء بين دولته ودولة المماليك باعتبارهما مسلمين.
لكنّ النخبة الحاكمة لم تستقرّ كثيراً على أحمد تكودار، فعزلوه بعد سنتين فقط من حكمه، وولوا أرغون بن أباقا إيلخاناً. لكن لتلك حكاية أخرى.