الجميع يعرف قصّة فتح القسطنطينية عام 1453 على يد السلطان العثماني محمد الفاتح، وعادةً ما ينسب الجميع هذا الانتصار الذي غيّر العالم للسلطان الشاب وحده، لكنّ والده السلطان مراد الثاني كان له فضل وإسهام كبير في فتح القسطنطينية. ليس فقط لأنّه حاصرها عام 1422 قبل فتح ابنه لها بثلاثين عاماً، وإنما لأنّ التمهيد لفتحها كان عبر معاركه العديدة التي خاضها، وآخرها قبل وفاته بمدة قصيرة وهي معركة كوسوفو الثانية.
استراتيجية الدولة العثمانية تجاه شرق أوروبا والبلقان
معركة كوسوفو الثانية كانت آخر تمهيدات مراد الثاني لفتح القسطنطينية.. حكم مراد الثاني قرابة 30 عاماً، خاض فيها الكثير من الحروب مع دول شرق أوروبا وفي الأناضول على السواء. كانت حروب شرق أوروبا تهدف في النهاية إلى عزل القسطنطينية عن محيطها الذي قد يمدّها في حالة الحرب مع العثمانيين. وكان وجود القسطنطينية مسيحية مًهمّاً لدول شرق أوروبا، لتكون حاجزاً لهم عن توسع الدولة العثمانية الناشئة أيضاً.
انطلق العثمانيون من حدود الأناضول في آسيا إلى أوروبا، لكن كانت العثرة أمامهم هي القسطنطينية، وعلى مدار قرنٍ ونصف القرن استطاع العثمانيون أن يقتطعوا مساحات ضخمة من الدولة البيزنطية، لكنّهم لم يقدروا على فتح القسطنطينية، فكانت استراتيجيتهم هي أن يعزلوا القسطنطينية عمّا حولها، وهكذا التفوا عليها ودخلوا أوروبا دون أن يسيطروا على القسطنطينية.
وهكذا انتقلت معارك العثمانيين من صراعٍ مباشر مع القسطنطينية إلى صراعٍ مع دول البلقان المسيحية، وامتدّ هذا الصراع لأكثر من قرن، فقد كانت معركة كوسوفو الأولى التي قادها السلطان مراد الأول وانتصر ثمّ قُتِلَ فيها على يد أحد الأسرى عام 1389. ثمّ جاءت بعدها العديد من المعارك العثمانية في شرق أوروبا، حتّى وصلت إلى معركة كوسوفو الثانية التي دارت رحاها عام 1448.
وللقراءة أكثر حول قصة معركة كوسوفو الأولى وآثارها، اضغط هنا.
السلطان مراد الثاني في شرق أوروبا.. صولات وجولات
دارت الكثير من المعارك في عهد السلطان مراد الثاني في شرق أوروبا والبلقان، كان أبرزها معركة فارنا عام 1444، بعدما قاد القائد المجري يوحنا هونياد الكثير من القوات في حلفٍ مقدّس رعاه بابا روما لهزيمة الدولة العثمانية لطردها نهائياً من شرق أوروبا.
دعا البابا لحلفٍ أوروبيّ مقدّس للقضاء على النفوذ العثماني في أوروبا، كانت الدولة العثمانية قد وقَّعت اتفاقية مع ملك المجر فلاديسلاف، لكنّ مبعوث البابا أقنعه أن ينقض الحلف مع الدولة العثمانية. وهكذا بدأ التحالف.
تكوّن الجيش المسيحي من جيوش المجر وبولونيا وكرواتيا وليتوانيا و الأفلاق والبغدان (أجزاء من رومانيا ومولدوفا). كانت هذه المعركة محورية، فإذا فاز الحلف المقدّس سينقذ بانتصاره القسطنطينية المعزولة بالمناطق العثمانية من حولها جميعاً، بينما إذا انتصر العثمانيون فسيزدادون قوة وسيزداد وضع القسطنطينية سوءاً.
زحف السلطان مراد الثاني إلى مدينة فارنا في بلغاريا والتحم مع الجيش المسيحي. قتل ملك المجر كما قتل مبعوث البابا في المعركة، وهرب القائد الصربي المحنّك يوحنا هونياد.
بعد وفاة ملك المجر أصبحت الساحة خالية لهونياد ليقود الجيوش المجرية والصربية، وما إن انتهت معركة فارنا، حتّى عاد مراد الثاني إلى عاصمته أدرنة، لكنّ تمرداً نشأ في ألبانيا بقيادة إسكندر بك أدّى بالسلطان مراد الثاني لجمع الجيوش العثمانية ليعود مرة أخرى إلى البلقان.
للقراءة أكثر حول معركة فارنا وآثارها ونتائجها، اضغط هنا
معركة كوسوفو الثانية.. تثبيت أقدام العثمانيين في أوروبا وتمهيد فتح القسطنطينية
أثناء حصار السلطان مراد الثاني لإسكندر بك في ألبانيا، وصلته أخبار بتحرّكات يوحنا هونياد لاستعادة بعض الأماكن التي يسيطر عليها العثمانيون في صربيا. كان جيش هونياد مكوناً من 24 ألف مقاتل وفقاً لما ذكره محمد فريد في كتابه "تاريخ الدولة العلية العثمانية"، بينما تذكر بعض المصادر الأخرى أنّ جيش السلطان مراد الثاني الذي كان يحاصر إسكندر بك كان مكوناً من 100 ألف مقاتل.
تقابل الجيشان في كوسوفو، وتذكر بعض المصادر أنّ هونياد تفاجأ بوجود الجيش العثماني، فقد كان يعتقد أنّ السلطان في عاصمته أدرنة وليس في شرق أوروبا.
وكأنما يعيد التاريخ نفسه مرةً أخرى بتوازٍ مثير للانتباه، فالمعركة في نفس المكان، وقائد الجيش العثماني بنفس الاسم، في معركة كوسوفو الأولى كان القائد هو السلطان مراد الأول، وفي المعركة الثانية كان القائد هو مراد الثاني، وبين المعركتين 60 عاماً تقريباً، والنتيجة واحدة: انتصار الدولة العثمانية.
انتصر الجيش العثماني انتصاراً كاسحاً، وعاد إلى حصار إسكندر بك في ألبانيا، لكنّ الحصار لم يسفر عن شيء ربما لأنّ الجيش العثماني أُنهك من حرب هونياد في معركة كوسفو الثانية، فعاد السلطان إلى عاصمته أدرنة، لكن لم يمهله القدر فتوفّي في عاصمته أردنة عام 1451، ليترك السلطنة لابنه الشاب محمد، الذي سيأخذ لقب الفاتح بعد سنتين فقط عندما يفتح القسطنطينية.
كانت تلك المعركة هي التمهيد الحقيقي لفتح القسطنطينية، فقد عمّق الانتصار العثماني عزلتها عن محيطها الذي كان يمكن أن يحميها، وفتحت القسطنطينية عام 1453، ومن بعدها أصبحت سيطرة العثمانيين على شرق أوروبا مستمرة قرابة ثلاثة قرون أخرى.