بعد حصارٍ دام أكثر من 3 شهور متواصلة بقيادة القائد المسلم أبي عبيدة بن الجراح الذي انتصر على الجيش البيزنطي في معركة اليرموك عام 636، تمكَّن المسلمون من فتح مدينة القدس في حضور خليفة المسلمين عمر بن الخطاب دون حدوث مواجهات دموية مع الحامية البيزنطية فيها.
وقد اشترط بطريرك القدس صفرونيوس على أبي عبيدة أن يُسلم المدينة هو بنفسه لعمر بن الخطاب الذي كان حينها في المدينة المنورة، مقرّ الخلافة.
أرسل الجرَّاح إلى عُمَر وقد قبل بذلك وحضر بنفسه إلى القدس فكتب لصفرونيوس "العهدة العمرية" وهي وثيقةٌ منحت المسيحيين الحرية الدينية مقابل الجزية، وغيَّر اسم المدينة من إيلياء إلى القدس، ونصَّت الوثيقة على ألا يساكنهم فيها أحدٌ من اليهود.
وألقى عمر بن الخطاب خطبة في مدينة القدس أمام أهلها، ثم دعاه صفرونيوس لتفقُّد كنيسة القيامة، فلبَّى عمر دعوته، وأدركته الصلاة وهو فيها، فالتفت إلى البطريرك وقال له: "أين أصلي؟ فقال: مكانك صلِّ" فقال: ما كان لعمر أن يصلي في كنيسة فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلى عمر ويبنون عليه مسجداً"، وبني في القدس الجامع العمري، ووضع حجر الأساس للمصلى القِبْلي أو الجامع القِبْلي، الذي بني داخل سور المدينة القديمة.
منذ ذلك الوقت، اتخذت المدينة التي يرجع تاريخها إلى أكثر من خمسة آلاف سنة طابعها الإسلامي بسبب اهتمام جميع الدول والممالك المسلمة المتعاقبة بها، فقد استمر حكم المسلمين للقدس أكثر من 400 عام متتالية حتى الحملة الصليبية الأولى في 1099، وذلك أنها أصبحت مطمعاً للصليبيين الأوروبيين ومكاناً للصراع الدائم بين الشرق والغرب.
الأمويون يتسلمون القدس
حين آل أمر الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان مؤسس الخلافة الأموية والذين كان والياً على الشام وفلسطين، استهل عهده بالذهاب إلى بيت المقدس، حيث أعلن خلافته منها عام 661 ومن ثم بايعه الناس، وقد اهتم خلفاء بني أمية بهذه المدينة من بعده.
ففي عهد عبدالملك بن مروان، بُنيت قبة الصخرة سنة 691 كما تنص الكتابة داخل القبة، وابتدأ الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان بناء المسجد الأقصى، إلا أن الموت حال دون أن يتممه، فأكمله الوليد بن عبدالملك من بعده، وقد اكتسبت القدس الكثير من معالمها الإسلامية في العصر الأموي.
ومن الجدير ذكره أنه في أواخر الحكم الأموي في عام 747، أصاب المسجد الأقصى زلزال صدَّعَ بعض أركانه، فسارع المسلمون إلى ترميم ما أصابه من ضرر لكنه كان ترميماً مؤقتاً وبسيطاً، وكان إصلاح هذا الضرر من أولويات العباسيين الذي انتزعوا الحكم من الأمويين في عام 750.
القدس في زمن العباسيين
بعد نجاح العباسيين في انتزاع الحكم من الأمويين على يد أبي العباس السفاح وأخيه أبي جعفر المنصور، اتخذوا مدينة بغداد عاصمة لخلافتهم، ومنذ ذلك التاريخ خضعت فلسطين لحكمهم أيضاً ومن ضمنها مدينة القدس بالتأكيد.
وبعد أربع سنوات من بدء الخلافة العباسية بدأ ترميم المسجد الأقصى بالكامل من أثر ذلك الزلزال الذي ضربه عام 747 بأمرٍ من أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني. وأصاب المسجد زلزال آخر بعد عشرين سنة، فقام الخليفة المهدي بن أبي جعفر المنصور ببناء كامل وتوسعة كبيرة للمسجد والعمران فيه.
وفي عهد الخليفة هارون الرشيد الذي كان معروفاً بتسامحه الديني، أصدر قراراً في عام 785 بالسماح للإمبراطور الروماني شارلمان في بيزنطة بترميم كنائس مدينة القدس، وسمح أيضاً بإرسال البنائين والأموال لبناء كنائسهم كما يريدون، ثم أصدر قراراً يقضي بفرض الحماية لكلّ مسيحي زائر للأماكن المقدسة المسيحية في القدس بتوفير الأمان له وحمايته حتى عودته سالماً، وفقاً لكتاب "القدس في الصراع العربي الإسرائيلي".
وفي عام 862 حدث تحوُّل خطير في أرض الخلافة في بغداد، وذلك عندما قُتل الخليفة المتوكل على يد قادة الجنود الأتراك الذين تآمر معهم المنتصر بن المتوكل وكانت هذه الحادثة إيذاناً ببدء سلسلة طويلة من الانقلابات وقتل وعزل الخلفاء، وقد تأثرت القدس بهذه الأحداث وتمت السيطرة عليها من قِبَل الكثير من الدول المسلمة.
الأتراك يسيطرون على المشهد لفترة طويلة
سيطر الجند الأتراك على المشهد السياسي بعد أن استقدمهم الخليفة المعتصم بالله عام 833 ليساندوه في الحد من المنافسة الشديدة بين العرب والفرس في الجيش والحكومة داخل الخلافة العباسية.
شيئاً فشيئاً زاد اعتماد العباسيين على الجند الأتراك بدلاً من العرب خوفاً على حكمهم من الزوال، وجعلوا منهم ضباطاً وقادة جيوش.
وفي عام 868 عُيِّن الجندي التركي أحمد بن طولون والياً على مصر، وسرعان ما حدث خلافٌ بينه وبين أخي المعتمد الخليفة العباسي آنذاك، فكانت نتيجة الخلاف أنه استقل بحكم مصر، مع ملاحظة أنه لم يعلن الاستقلال رسمياً لكنه استقل بإدارة شؤونها دون الرجوع إلى الخلافة.
وعلى الفور بدأن ابن طولون في تجهيز جيشه للسيطرة على بلاد الشام، فتحرَّك شمالاً وسيطر على كامل ساحل الشام وصولاً إلى أنطاكية (جنوب تركيا)، وهكذا فقد أصبحت مدينة القدس ضمن مناطق نفوذه بعدما سيطر عليها عام 879.
قامت بينه وبين الدولة العباسية عدة مناوشات واشتعلت نار الحروب في جسم الدولة العباسية، وكانت الدولة الطولونية أول حركة استقلال عن الخلافة ومهدت لكثير من الحروب والتمزقات، بحسب كتاب "المفصّل في تاريخ القدس" لمؤلفه عارف العارف.
بعد وفاة أحمد بن طولون عام 884 والخليفة المعتمد عام 892 وتولى بعدهما أبنائهما وتم بينهم الصلح وتحسنت العلاقات بينهما بعد أن تزوج الخليفة المعتضد بإبنة خمارويه بن أحمد بن طولون، ولكن كان هناك الكثير من الحركات التمردية التي تخطط للتمرد على الحكم العباسي، وقد ظلت القدس تحت الحكم الطولوني حتى خرجت من أيديهم بعد حكمٍ دامَ سبعةً وعشرين عاماً فقط، وبعدها بقليل دخلت المدينة تحت سلطة الإخشيديين.
الإخشيد يسيطر على القدس
بعدما ضعف أمر الأسرة الطولونية عيَّنَ الخليفة العباسيُّ القاهرُ بالله القائد التركي محمد بن طغج الذي لُقِّب لاحقاً بالإخشيد، والياً على مصر والشام سنة 939، لكنَّه وبعد مرور سنة استقلّ بالمنطقة تحت سلطانه، وكوّن دولةً يتوارثها أبناؤهمُ بعده. وقد سيطر على مدينة القدس تماماً مثل أحمد بن طولون، وبعدها بأربع سنوات حضرته الوفاة في دمشق، فأوصى بأن يدفن في القدس، وقيل إنه توفي في القدس ودفن فيها أيضاً.
تتابع الأمراء الإخشيديون على حكم الدولة بعد وفاة مؤسسها، ويقال إنّ أكثرهم كان يوصي عند حضور أجله بأن يدفن فيها.
بعد تأسيس دولة الإخشيديين بسنواتٍ قليلة، قام القرامطة في البحرين بشنّ غزواتهم المدمرة على مصر والشام بقيادة الحسن الأعصم، فأغاروا على مناطق مختلفة من الشام وتحديداً القدس. وأجبروا حكامها من الإخشيديين على دفع جزيةٍ كبيرةٍ لهم مقابل إيقاف هجماتهم.
وعندما جاء كافور الإخشيدي، وكان من رجال الدولة من خارج البيت الحاكم، سيطر على شؤون مدينة القدس مرة أخرى، وخُطب له فوق منابر القدس ومصر والحجاز والشام، لكنه لم يلبث أن توفي في عام 966 ودفن أيضاً في القدس، وخلفه من بعده حفيده أبوالفوارس أحمد الذي كان عمره 11 عاماً، ولم يستطع مقاومة هجمات الدولة الفاطمية التي وجَّهت أنظارها إلى مصر بعد أن تأسست في شمال إفريقيا وكانت معادية للدولة العباسية، لتدخل مصر والشام والقدس طبعاً في عهد جديد، وهو العهد الفاطمي.
القدس في العهد الفاطمي
اهتم الفاطميون بالقدس منذ بداية حكمهم لها عام 970، حتى إن بعض المؤرخين يذكرون أنّ بعضهم كانوا يوصون بدفنهم في القدس، وفي عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي حكم بين عامَي 996-1021 حدث زلزال ضخم هز المسجد الأقصى وسقطت أجزاءٌ من قبة الصخرة، فرمّمهما ولده بعد ست سنوات وزيّنها.
والجدير بالذكر أنه في عهد الحاكم بأمر الله والذي سمي بالمجنون لكثرة ما فرض من قوانين عجيبة على الرعية. كما أنه هدم كنيسة القيامة، بحسب كتاب "الكافي في تاريخ القدس" الأمر الذي أشعل فتيل الكراهية بين المسلمين والمسيحيين بعد عقود طويلة من التسامح، وقد استغل مسيحيو أوروبا هذا الأمر للبدء في تأجيج الحملات الصليبية على القدس والشرق.
وبعد أكثر من قرن من التواجُد الفاطمي في القدس، جاءت الدولة السلجوقية التركية في عام 1070 لتزيح الفاطميين عن القدس في زمن السلطان مُلك شاه، وأعيدت الخطبة فيها باسم الخليفة العباسي الذي تتبع له اسمياً الدولة السلجوقية، لكنّ الفاطميون استطاعوا استرداد القدس في العام التالي، وبقيت القدس في أيدي الفاطميين حتى سقطت في النهاية بيد الصليبين عام 1099 أثناء الحملة الصليبية الأولى، لتخرج من يد المسلمين لأول مرة منذ الفتح العمري لها.
القدس تحت رحمة الصليبيين
سقطت القدس في أيدي الصليبيين عام 1099 بعد حوالي خمسة قرون من الحكم الإسلامي نتيجة صراعات على السلطة بين دولة السلاجقة من جهة والدولة الفاطمية من جهة، بل وبين الأمراء السلاجقة أنفسهم.
وقد قتل الصليبيون عند دخولهم مدينة القدس قرابة 70 ألفاً من المسلمين، وانتهكوا المقدسات الإسلامية وأصبحت القدس مملكة أوروبية كاثوليكية ووُضع الصليب على قبة الصخرة.
وفي عام 1174 استطاع صلاح الدين الأيوبي تأسيس الدولة الأيوبية التي وحَّدت مصر والشام وبعض مناطق الحجاز واليمن تحت ظل التبعيّة الإسمية للخلافة العباسية، بعد أن قضى على الخلافة الفاطمية في مصر، والتي استمرت 262 سنة.
قاد صلاح الدين بعدها عدّة حملات ومعارك ضدَّ الصليبين في سبيل استعادة مدينة القدس منهم، وقد تمكن في نهاية المطاف من استعادتها هي ومعظم أراضي الشام، بعد أن هزم الصليبيين هزيمة منكرة في معركة حطين عام 1187، وأزال الصليب عن قبة الصخرة، واهتم بعمارة المدينة وتحصينها.
لكنّ الصليبيين نجحوا في السيطرة على القدس مرة أخرى في عهد الملك فريدريك ملك صقلية عام 1229 أثناء الحملة الصليبية السادسة، وظلت بأيدي الصليبيين 11 عاماً إلى أن استردها الملك الصالح نجم الدين أيوب عام 1244.
وتعرضت المدينة للغزو المغولي لكنّ المماليك هزموهم بقيادة سيف الدين قطز والظاهر بيبرس الذين تحالفا مع الأتراك الخوارزميين في معركة عين جالوت عام 1259، وضمت فلسطين بما فيها القدس إلى المماليك الذين حكموا مصر والشام بعد الدولة الأيوبية حتى عام 1517.
وبذلك تم انتزاع القدس نهائياً من الصليبيين واستمرّت بعد حكم المماليك تحت حكم العثمانيين، حتى سقوطها في أيدي الإنجليز بعدما خسرها العثمانيون في الحرب العالمية الأولى وخروجهم منها في سنة 1917.
سقوط القدس من أيدي العثمانيين في الحرب العالمية الأولى
حيث تسلم العثمانيون حكم القدس بعدما دخلت جيوشهم إلى الشام بقيادة السلطان سليم الأول بعد معركة مرج دابق عام 1515، وأصبحت مدينة القدس تابعة للدولة العثمانية، وقد أعاد السلطان سليمان القانوني بناء أسوار المدينة وقبة الصخرة.
وفي الفترة من عام 1831 إلى 1840 أصبحت الشام وفيها بالطبع مدينة القدس جزءاً من الدولة المصرية التي أقامها محمد علي باشا ثم عادت إلى الحكم العثماني مرة أخرى، وأنشأت الدولة العثمانية عام 1880 متصرِّفية القدس، وظلت المدينة تحت الحكم العثماني حتى الحرب العالمية الأولى التي هُزم فيها العثمانيون وأخرجوا من القدس والشام بل وبقية المنطقة العربية.