بدت قصة معركة الجزائر الشهيرة في كتابات المؤرخين الجزائريين والأوروبيين، وحتى في الفيلم الإيطالي الشهير "لا بتاجليا دي ألجيري"، الذي أخرجه جوليو بونتيكورفو، وألف موسيقاه أنيو موريكون، والمتوج بجائزة "الأسد الذهبي" في مهرجان البندقية عام 1966، مجرد مواجهة عسكرية شرسة بين فدائييّ جبهة التحرير الوطنية، المنخرطين في تنظيم "المنطقة المستقلة للجزائر العاصمة"، والجنرال الفرنسي المرعب ماسو، فيما لم يكن قائد المظليين ذاك سوى تلميذ نجيب لشيطان متخف، أهملته الأحداث تماماً، فظل متوارياً في دهاليز النسيان المتعمد لعقود طويلة، قبل أن يبعث من قبر الأرشيف المكتوب والوثائقيات المصورة كاشفاً حقائق مروّعة لا بل صادمة.
1/الشيطان ليجي عرّاب المؤامرة الزرقاء وتسميم الثورة
كان اسم شيطان الحرب النفسية تلك هو النقيب "بول آلان ليجي"، وكانت وظيفته تتركز، حصراً، في إدارة حرب نفسية بوجهين ناعم ومفترس قوامها التأثير النفسي وزرع الشكوك في قيادة معركة الجزائر، وتحويل الصراعات الشخصية القديمة بين المنتسبين إليها إلى حروب صماء بمساعدة "عملاء" جزائريين" أطلق عليهم اسم "مجموعة الزرق".
فرض القبطان ليجي على هؤلاء الخونة الجزائريين ارتداء "كومبليزونات زرقاء"، والتجول في شوارع وأزقة القصبة، بهدف واضح هو خلخلة الضمير الجمعي المتعاطف مع الثورة، والإيذان بنوع جديد من الحرب داخل الحرب، ستشتق منها، لاحقاً، كلمة "لا بلويت" أو "المؤامرة الزرقاء" التي سممت بفعل الاختراق والرسائل المدسوسة، ذهن البطل عميروش وقيادات الولاية التاريخية الثالثة "منطقة القبائل" قبل أن تنتقل لوثة مرض الشك الداخلي لباقي الولايات، مثل وباء "البارانويا" المعدي، والمؤدي إلى إعدام وتصفية وتطهير كتائب وسرايا الثورة ما يناهز خمسة آلاف مشتبه به، ولسوء الحظ كان جلّهم من أكفأ وأنزه القيادات والطلبة المتعلمين الذين دفعوا حياتهم ثمناً لإفك الظن.
كان ذوو الهندام الأزرق أخطر على قيادات الجبهة وأشد فتكاً بأبطال الثورة، من وحدة المستعربين الإسرائيلية على حركات المقاومة الفلسطينية.
2/ استنساخ الخيانة الفيتنامية في قلب معركة الجزائر
عندما اندلعت معركة الجزائر العاصمة خريف عام 1956، مهددة الكيان الاستعماري في العمق بعشرات الاغتيالات التي طالت عناصر البوليس والعساكر والوشاة، وبمثيلاتها من العمليات والتفجيرات التي استهدفت المطاعم والملاعب والبارات، كان النقيب بول آلان ليجي، المعروف بكنية "الطبيب النفسي"، يتسلم إحدى المهمات الأكثر سرية على رأس "مجموعة البحث والاستغلال"، الملحقة بالجيش الفرنسي الذي تسلم زمام السيطرة على الوضع مطلع يناير 1957. لساعات طويلة كان يجلس في مكتبه يطالع مذكرات التوقيف، متعرفاً كضابط قادم من جهاز "سداك"، جهاز المخابرات الفرنسي، على المظنون بهم، طالباً من اثنين من أقرب مساعديه، هما الرقيبان الأولان ديدي الأشقر، وعبدالحميد المكنى سركوف الضخم، الذي عمل معه منذ الحرب الهند الصينية في فيتنام، النبش في الحياة الشخصية للمبحوث عنهم والمطلوبين الملتحقين بالخلايا النائمة والنشطة لجبهة التحرير.
في واقع الحال راح الضابط الشاب يخطط لجيل جديد من الحروب لا يعلم طابعها غير مساعديه الاثنين ورئيسه العقيد قودار، مستعيناً بخبرة اكتسبها في حرب الهند الصينية في فيتنام. يتذكر أنه أنشأ في تلك السنوات الآسيوية، جيشاً موازياً من الفلاحين المحليين قوامه ثلاثة آلاف مقاتل حارب به جيش هوشي مين، مقابل الترخيص لهؤلاء المنقلبين باستغلال حقول الأفيون والاستئثار بعائداته، وهكذا نجح في زرع فيروس داخلي في جسم العدو بتدوير جزء من الفيتناميين ضد مقاتلي التحرير.
كانت هذه التجربة الماضية ما سيعيد استنساخه في أشد الأوقات صعوبة لمعركة الجزائر، جرياً على مبدأين أساسيين "في قلب كل صعوبة تكمن إمكانية" و"في داخل كل شخص يقبع شخص آخر، غريب ومتآمر، ومحتال".
فيما انهمك الجنرال ماسو في عمليات استخدام الطرق البوليسية والعسكرية الأكثر جدلاً، من خلال التعذيب والاستنطاق والاعتقال العشوائي لتقويض الجسم الثوري للجبهة في حي القصبة، المشكل من أزيد عن 1000 فدائي و4500 مناضل مكلف بالاتصال وجمع المعلومات والأموال، كان آلان ليجي يخوض وحده حرباً سيكولوجية عظيمة الأثر، اتسمت بالبحث عن "النفسيات المتآمرة والمحتالة" داخل الثورة، بما تسنى له من مقدرة على قراءة الأشخاص والتنقيب عن الثغرات السيكولوجية وتطويع الأشخاص واستغلال لحظات ضعفهم واستكناه مطامحهم بتوظيف الخطاب الإنساني في المساواة إذ طالما كان يردد للأشخاص المستهدفين: "كلنا فرنسيون بغض النظر عن الدين واللغة والعرق دعونا نتخلص من عقبة جبهة التحرير لنبني نظاماً عادلاً بين الجميع"، وهو لا يقول ذلك لكل من هبّ ودبّ، بل لمن يلمس فيهم انعدام القناعة الثورية الراسخة، أو الذين انضموا لخلايا الجبهة بحثاً عن التقدير الشعبي وبهرجة الشهرة في حي يحمل تقديراً معنوياً للزعماء، والريّاس، و"الهزيّة"، أي فتوات الحارة، أو أولئك الذين يعانون من مشكلات وجودية مشبعة بالطابع الانتقامي جرّاء عدم القدرة على تحمل تبعات الذهاب إلى الحدود القصوى للعنف الثوري، كانت هذه طريقة ليجي في التعاطي مع الوضع وقد كان يعتقد أن ذلك يشبه إلى حد كبير لعبة البحث عن القط الأسود في الغرفة الداكنة حتى ظهر فيروس بشري اسمه حورية السمراء.
3/حورية السمراء: خانها زوجها مع عشيقة فخانت الثورة
كانت حورية السمراء امرأة جذابة ومناضلة ثورية نالت حظاً من التعليم مع قريناتها الأوروبيات في المدارس الفرنسية بحي "كلو صلومبي" -المدنية حالياً- حتى غدت قريبة من النمط الغربي، قبل أن تصير مناضلة في صفوف جبهة التحرير والخلايا السرية التابعة للمنطقة المستقلة للجزائر العاصمة التي ترأسها ياسف سعدي، غير أنها وفي خضم معركة الجزائر الشرسة كانت تعارض تفجيرات مقاهي الميلك بار ومرقص الكورنيش، وغيرها من البارات والأماكن العمومية، منتمية بذلك لتيار داخلي كان مناوئاً لاستهداف المدنيين، مقابل تيار غالب كان يرى أن المستوطنين جزء من الكيان الاستعماري وامتداد له، يمكن أن يكون أداة ضغط رهيبة ضد الحكومة الفرنسية، وعامل ضبط لتوازن الرعب، ورداً على ضحايا مئات القرى الجزائرية المقنبلة بغاز النابالم المحرم والطائرات الموزية، ذلك ما لخصه العربي بن مهيدي مخاطباً الفرنسيين: "أعطونا طائراتكم نمنحكم قففنا الحاملة للقنابل"، غير أن حكيم الثورة وعقلها الكبير كان يتقاطع حيناً مع هذا التيار حيث خاطب علي لابوانت ذات مرة: "لا يمكن أن نربح حرباً أو ثورة باستعمال الإرهاب، الثورة تحتاج لعمل سياسي يحشد خلفه طوائف الشعب برمته".
وجدت حورية نفسها في معتقل "بني مسوس" دون أن تعرف طبيعة التهمة الموجهة لها، ودون أن تعلم أيضاً أنها في المحتشد بسبب وشاية أقرب الناس إليها زوجها. وزوجها كان مناضلاً سرياً في جبهة التحرير ودوّن عدة عمليات فدائية بمسدس يخفيه عند عشيقته، بيد أنه وغداة توقيفه فضل التخلص من زوجته والزج بها في المعمعة الأمنية والقضائية، حامياً عشيقته من كل تلك الآثار المترتبة. هكذا، سيتمكن الضابط ليجي من تدويرها لصالحه كاشفاً لها حقيقة خيانة زوجها الذي ما أحبته يوماً بل تزوجته كرهاً، قبل أن تكشف الحادثة أنه رماها عظمة سائغة للكلب الشرس، لتقرر في غمرة الإحساس بالإهانة وغضب النسوان المدمر الانتقام من زوجها بطريقة صاعقة، وخيانة الجميع.
لاحت لحظة الهشاشة الأنثوية، تلك، والقريبة من تدمير الذات، كفرصة ذهبية استغلها الضابط الماكر أبشع استغلال، دون أن يقدر أنها ستكون بداية لدق الإسفين في نعش التنظيم الثوري بالعاصمة.
قبلت السمراء دونما عناء أن تكون العميل رقم 53 ضمن مجموعة "مصلحة معلومات السجناء"، طلب منها رئيسها الجديد مواصلة مهامها العادية في صفوف جبهة التحرير، مانحاً إياها رقم علبة بريد وسط العاصمة باسم مستعار هو "بيار الأحمر" وخطاً أحمر للمكالمات الطارئة. وإمعاناً في "ألاعيب الخداع" حول الضابط المتلاعب حورية إلى بطلة ثورية كبيرة حيث قام باعتقالها أمام الملأ قبل أن تتمكن من الفرار من فرقة المظليين لا بل إنه أطلق رصاصتين بعيداً عنها ليوهم بفرارها الكبير قبل أن يطلب منها الاختباء في ماخور كان يقيم فيه قائد المنطقة الثالثة للجبهة حسان غندريش المكنى زروق، والذي تمكنت المصالح الفرنسية من تجنيده لصالحها بعد عملية توقيف، أبقتها طيّ الكتمان، قبل أن يقرر خيانة ياسف سعدي صديق الطفولة وكرة القدم ورفيق النضال الوطني، تحت طائل التهديد بتصفية عائلته.
"الطبشور الأبيض" العملية التي أسقطت ياسف سعدي
تمكنت الجاسوسة السمراء من أن تدل الضابط جيل على زمرة من منشقي الجبهة المستعدين للعمل لصالح مجموعته الاستخباراتية الموسومة مجموعة البحث والاستغلال، مثل بوعلام خواص وأحمد فارس، والشاب الخطير "عليلو" الذي كان فيما مضى مساعداً مقرباً لياسف سعدي، وإلى الأخير يعزى الدور الكبير في تقديم أسماء موصلي رسائل الجبهة وعناصر الربط، وتفكيك تلك المنظومة وعزل الخلايا عن بعضها البعض، ليبقى الهدف الرئيس القضاء على رأس قيادة الثورة بالقصبة.
أدارت حورية عمليات التجسس انطلاقاً من ماخور شارع البحر الأحمر، بمدينة القصبة، بما تأتى لها من ثقة مكتسبة لدى الجميع، فكانت تتلقى الرسائل والاتصالات مستعينة بتلك الهالة الأسطورية الوهمية التي ألبسها إياها الضابط جيل عبر عملية الفرار المثير، فبدأت تمده بمعلومات حول أماكن تخزين السلاح قبل أن تزفّ له معلومة غير متوقعة عن تلقي رسالة بصدد تحويلها لياسف سعدي شخصياً عبر وسيط الاتصال الذي سيقوم بزيارتها. طرح ليجي مشكلة تقنية تتعلق بصعوبة التعرف على حامل تلك الرسالة بعد تسلمها وتتبعه في زنق حي القصبة الملتوية والمكتظة بالعابرين والمارة، فأوضحت له أنها ستلطخ راحة يدها اليسرى بمادة الطبشور، وتربت على كتفه، ما يتيح لجواسيسه وراصديه التعرف عليه وتتبعه إلى محطته النهائية، وفعلاً كانت تلك الطريقة "تقنية الطبشور الأبيض" الوسيلة التي تم بها توقيف ياسف سعدي رفقة زهرة ظريف في المسكن رقم 4 بشارع كاتون.
فوجئ ياسف وزهرة بمداهمة المظليين للمسكن وضابط يقول له:
"هيا أخرج يا ياسف أنت مصاب بالزكام لدرجة أنك لا تستطيع من شدة رجفة الأصابع أن تخط رسالة، ها أنت ترى أننا نعرف كل شيء".
وفي حقيقة الحال كانت تلك الكلمات جملة كتبتها زهرة ظريف لحسان غندريش المكنى زروق دون أن يكون أحد يعرف أنه قفز في مركب الأعداء منذ شهور، ثم توالت بعدها الضربات بتفجير مخبأ علي لابوانت، بعدما تم تحديد مكانه إثر رسالة أبرقها لحسان غندريش، ثم لاحقاً وخلال موعد وهمي منتصف أكتوبر 1957 تم إلقاء القبض على عبدالرحمان حميدة المكنى "الخيّام" وهو آخر قيادي شغل منصب الضابط السياسي لجبهة التحرير بالعاصمة، لتطوى بذلك ملحمة معركة الجزائر كواحدة من أكبر المعارك الشرسة بين جبهة التحرير والاحتلال الفرنسي.
يعترف الضابط الفرنسي قائلاً: "كانت حورية السمراء بداية ونهاية كل شيء في معركة الجزائر"، وقد لا يصدق أحد أن ذلك كان بسبب نزاع زوجي وعشيقة، لكنها الحقيقة الماجنة، أما الثورة فلن تنتهي بتلك النهاية، بل ستمضي قدماً إلى غاية تحقيق الاستقلال النهائي، مهما تكن تضحيات الشهداء، ومهما تكن الانقلابات وخيانات الأشقاء وحروب العشيقات وكيد الحسناوات. تصف أدبيات الثورة ببطن المرأة الذي يضع حملين أحدهما ملاك والآخر شيطان، ولئن انتصر الشياطين على القديسين في معركة الجزائر، سيبقى أن 'البطل الوحيد هو الشعب" كما تروي ذلك تلك الشعارات المضروبة على جدر مدينة القصبة العريقة إلى يومنا هذا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.