هناك مدن استبقت جاراتها في دخولها لعالم المدنية والحضارة، نتيجة لعوامل ذاتية أو موضوعية تتعلق بالموقع الجغرافي أو طبيعة الشعب أو نشأة إمبراطورية في فترة تاريخية معينة أو غزو خارجي للمدينة أسهم في تطورها. من هذه المدن على سبيل المثال لا الحصر نيويورك، التي كان اسمها نيو أمستردام قبل أن ينتزعها المستعمرون الإنجليز من الهولنديين الذين سبقوهم الى أمريكا الشمالية، والإسكندرية التي كانت البوابة لكل من أراد استعمار مصر من الإسكندر المقدوني وحتى نابليون، ولندن وروما وإسطنبول (القسطنطينية) وهونغ كونغ. لكل مدينة من هذه المدن قصة تاريخية مشوقة تحكي عن كيفية نشأتها وتطورها الحضاري والعمراني، لكن الرابط الوحيد بين هذه المدن هو كونها موانئ مهمة. وتأتي أهمية الموانئ من وزنها الاستراتيجي والاقتصادي بالنسبة للبلدان التي تكون فيها.
من بين هذه المدن العاصمة اللبنانية بيروت، عاصمة البلد المليء بالتناقضات في التكوين الطائفي والحروب وجمال الطبيعة والإنسان، وحتى في طبيعة الإنسان اللبناني نفسه واختلافه عن جيرانه بسوريا أو فلسطين في الجرأة المدهشة على اقتحام المجهول والنرجسية وحب الحياة. فبيروت مدينة ظلت- مثل غالبية الموانئ في العالم- موطناً لعديد من الجاليات والأقليات التي قدمت مع الغزاة أو الحكام في فترة زمنية معينة. لكن هذه المدينة التي كانت مرفأ صغيراً لا يتجاوز عدد سكانه خمسة آلاف نسمة في منتصف القرن التاسع عشر، توسعت بشكل كبير بعد اجتياحها من قِبل جيش إبراهيم باشا، القادم من مصر، حيث استضافت المدينة المصريين والأحباش القادمين مع الجيش الغازي، لتتوسع أكثر مع قدوم آلاف النازحين من المسيحيين القادمين من دمشق وبقية أنحاء الشام بعد "فتنة الستين" بين الدروز والموارنة. ليستمر هذا المد والجزر بين فترات ازدهار وخراب بسبب الحروب الأهلية أو الأزمات الاقتصادية أو الغزو الخارجي حتى أيامنا هذه.
حول التغيير الكبير الذي شهدته بيروت في القرن التاسع عشر، يقول ياسر غريب: "بيروت تشهد أوّل ما تشهد نزول الجيش المصري فيها بقيادة إبراهيم باشا في سياق حربه الطويلة مع السلطنة العثمانية. تنزل العساكر المصرية فتتغير بيروت، وميناء بيروت يزدحم بالسفن القادمة من الإسكندرية، يُقام المحجر الصحي وفي السوق العمومي تنتشر بيوت البغاء. يحدث ذلك فتتغير بيروت للأبد. في عام 1860 تندلع فتنة بين الدروز والمسيحيين الموارنة في مدن عدة من برّ الشام، تُحرق مدن وقرى وبيوت ويموت آلاف البشر موتاً مجانياً. تفرُّ عائلات من موت محقّق، ينزلون بيروت، يتغير وجه بيروت مرة أخرى، يكثر الناس، نازحون في كل مكان، تساعد الإرساليات التبشيرية وأهل بيروت في علاجهم وتسكينهم وتوفير أشغال لهم ويصير الكثير بيروتياً".
تطورت بيروت لتصبح ميناءً مأهولاً في منطقة شرق البحر المتوسط. ساعدها في ذلك قربها الجغرافي من أوروبا وحالة الضعف التي كانت تشهدها الإمبراطورية العثمانية، والمساعدات التي تلقتها لاحقاً من جيوش الفرنسيين والبريطانيين والنمساويين الذين طردوا جيش إبراهيم باشا منها. والإرساليات القادمة من أوروبا والولايات المتحدة والمدارس التي تم فتحها بواسطة هؤلاء؛ لمساعدة المجتمع المسيحي القادم للمدينة وأطرافها هرباً من المذابح التي تعرضوا لها بعد الصراع بين الدروز والموارنة في أنحاء الشام. ويأتي الاستعمار الفرنسي ليجعل من المدينة سويسرا الشرق من حيث الجاذبية لرؤوس الأموال والجامعات ودور الطباعة والنشر في مطلع القرن العشرين، حيث كانت للكتاب مكانته وكانت بقية المنطقة تعيش في حالة شبيهة بالعصور الوسطى في أوروبا.
أذكر أنه كان لي قبل سنوات في الغربة جار مسيحي من لبنان، حكى لي عن ذكريات طفولته وأيام الحرب الأهلية، وكيف أنه مشى فوق الجثث في أثناء تلك الحرب اللعينة. وعلى الرغم من قراءتي للكثير المثير عن بلد الأَرز وعاصمته، فإنني أعتقد أن أفضل مَن كتب عن بيروت وتاريخ نشأتها ربيع جابر، الروائي اللبناني الذي اختطفه عالم الرواية والأدب والصحافة من تخصص الفيزياء الذي درسه بالجامعة الأمريكية في بيروت. وجابر مثل جاري المسيحي، من جيل الكُتاب الذين خرجوا من رحم الحرب الأهلية، حيث وُلد في مطلع السبعينيات من القرن الماضي؛ ليعيش طفولته في ملاجئ بيروت وسط الحرب الأهلية التي قسمت بيروت إلى مدينتين، شرقية وغربية، على مدى عقد ونصف العقد من الزمان، مثلما تقسمت برلين لما يقارب نصف القرن. وقد صقلت تجربة الحرب الأهلية ملَكَته في الكتابة، ليخرج لنا بتسع عشرة رواية، كانت رواية "بيروت مدينة العالم" هي الأبرز من بينها. مع روايات أخرى تحكي بصورة مباشرة أو عرضية عن الحياة في مدينة المتناقضات مثل "دروز بلغراد"، و"طيور الهوليداي إن"، و"شاي أسود" وغيرها. وقد فاز الروائي اللبناني الخجول بجائزة بوكر للرواية العربية في عام 2012.
تقول الناقدة والأكاديمية اللبنانية الدكتورة سمية عزام عن تجربة ربيع جابر الروائية: "إن علامات العصر ومأزقه تتجليان في روايات ربيع جابر، كما أنه يبين شخصيته في بعض النصوص، يتردد بين الماضي والحاضر، الواقع والحلم، فيمثل ذاتاً لإنسان خبَر الحروب اللبنانية ومفاعيلها". ومثلما يحكي غابريل غارسيا ماركيز عن قرية "ماكوندو" وتاريخها في رواية "مئة عام من العزلة" التي يروي فيها تاريخ أسرة خوسيه أركاديو بوينديا التي استمرت ثلاثة أجيال ومئة عام، يحكي ربيع جابر عن أسرة عبدالجواد أحمد البارودي الهارب من دمشق في مطلع عشرينيات القرن التاسع عشر، بعد طعنه لشقيقه في أثناء عراك واعتقاده أنه مات، ليصل إلى سور بيروت وهو ملطَّخ بالدم والخوف، ويدخل المدينة التي كانت مرفأً صغيراً لا يتجاوز عدد سكانه خمسة آلاف، وسورها الذي لا يتجاوز طوله نصف كيلومتر وعرضه 125 متراً، وله خمسة أبوابٍ، تُقفل بعد صلاة العشاء وتُفتح عند صلاة الفجر، ولا يبقى منها مفتوحاً ومحروساً طوال الليل إلا بابٌ واحد اسمه: السنطية.
يعيش عبدالجواد البارودي في بيروت ويتزوج من أسرة من الأعيان هي أسرة الفاخوري، وينجح باجتهاده في النمو بمجال التجارة، ويتزوج ثلاث زيجات يُرزق منها بعديد من الإناث وثلاثة أبناء، يموت اثنان منهم ويبقى عبدالرحيم، الذي ينجب بدوره اثنين من الذكور- حسين وعبدالغني- ليموت حسين ويبقى عبدالغني الذي أنجب إناثاً فقط، لتندثر سلالة عبدالجواد البارودي البيروتية بعد 80 عاماً شهدت نشأة حي البارودي، مثلما اندثرت سلالة خوسيه أركاديو بوينديا في ماكوندو بعد أكثر من 100 عام شهدت نشأة ماكوندو المدينة الكولومبية التي أخرجتها لنا مخيلة غابريل غارسيا ماركيز. في رواية "بيروت مدينة العالم"، التي قسمها ربيع جابر إلى ثلاثة أجزاء وهو يشدد على أنها ليست رواية تاريخية ذات شخوص حقيقية، يحكي جابر عن عبدالرحيم الذي يواصل نضال أبيه في التجارة ورعاية الأسرة، وابنه عمر الذي ذهب ليحارب مع العثمانيين في حرب القرم (1853) وعاد فاقداً للذاكرة وللرغبة في العيش مع الأسرة التي زاد عدد أفرادها وأصبحت حارة البارودي.
يقول ربيع جابر في مقدمة الجزء الأول من ثلاثية "بيروت مدينة العالم": "أريد من القارئ أن ينظر إلى مبنى البلدية الذي أحرقته حروب لبنان بين 1975 و1990 ثم رُمّم، وأن يحفظ المبنى في خياله، ثم أن يزيله كاملاً بتلويحة يدٍ لكي يرى في مكانه- في زمنٍ غير مرئي لكنه موجود- تلك الحارة القديمة، حارة البارودي البائدة. إنها الحارة التي أسّسها بطل السيرة العائلية أو الجدّ الأكبر لهذه العائلة، أي عبدالجواد أحمد البارودي، والتي سمّيت باسمه، ثم انقرضت كما انقرضت العائلة كلها في العقد الثاني من القرن العشرين، بحيث شكّل قلب العاصمة، أو ما يسمى اليوم وسط بيروت، المكان الأوّل أو نواة المدينة التي راحت تتمدّد وتكبر مع توالي العقود".
بيروت التي توسعت في منتصف القرن التاسع عشر لتصبح مدينة وميناءً، تطورت لتصبح من المدن المزدهرة والجاذبة للاستثمار والسياحة والباحثين عن التعليم وصناعة النشر والسينما في منتصف القرن العشرين، لتشهد الحربَ الأهلية والدمار الشامل في سبعينيات القرن الماضي، والغزو الإسرائيلي في مطلع الثمانينيات، وخروج الإسرائيليين مرغمين من جنوب لبنان في مطلع الألفية الجديدة، لتشهد من جديدٍ حرب الثلاثة وثلاثين يوماً التي شنها الإسرائيليون عليها في صيف 2006، لتنهض من جديد لتقاوم الدمار وتعيش رغم الأزمة الاقتصادية والفساد والخلافات السياسية. ويبدو أنَّ قدر لبنان وعاصمته بيروت أن يخرج من أزمة إلى انتعاش إلى أزمة أخرى، وهي أزمة تعانيها كل البلدان التي تكون أرضاً للحروب بالوكالة بين القوى الكبرى أو بين جيران أقوياء، حيث لم تستطع القوى السياسية اللبنانية الخروج من عباءة التبعية لإيران أو السعودية أو فرنسا أو سوريا. والضحية في كل الأحوال هو الوطن، الذي يعيش ضعفُ عدد سكانه في المَهاجر بإفريقيا وأستراليا ودول الخليج وأمريكا اللاتينية وغيرها من المناطق التي أصبحت وطناً للبنانيين، رغم حنين كثير منهم إلى حارة البارودي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.