في "السلطنة"، وهي الجزء الثالث من "ثلاثية الوسية"، بعد الجزء الأول "الوسية"، والذي تم تحويله إلى مسلسل إذاعي ناجح من بطولة أحمد زكي، ومسلسل تلفزيوني شهير عام 1990، من إخراج إسماعيل عبدالحافظ، والجزء الثاني "الوارثون"، نستمر في متابعة قصة بطلنا خليل حسن خليل المثيرة، وما حدث للشعب المصري في فترة السبعينيات، التي تغيّرت فيها بوصلة البلاد تماماً، بينما يتناول صاحب الرواية سؤالاً مهماً: هل تغيّرت "الوسية" حقّاً؟
بعد اتهامه بالماركسية ودخوله السجن في عهد جمال عبدالناصر خرج خليل حسن من محبسه، ليلتحق بالعمل لدى الأمم المتحدة في معهد التخطيط بداكار، ليدرس الاشتراكية العلمية.
في داكار كان الرئيس سنجور شاعر نائباً في البرلمان الفرنسي، بعد الاستقلال لم يغير سنجور ومجموعته في السنغال شيئاً، القواعد العسكرية الفرنسية مازالت كما هي، الثقافة الفرنسية ضاربة الجذور في العقل السنغالي، ليس هناك شعور عدائي من السنغاليين نحو فرنسا، السنغاليون يأخذون الفتات ليزرعوا ويحصدوا الفول السوداني الذي يُنقل إلى فرنسا ليقشره عمال من المهاجرين السنغال ويعاد تغليفه وبيعه في السنغال بعشرين ضعف ثمنه يوم حصاده. يا للسخرية! الفرنسيون يمنحون الثقافة الفرنسية للشعب السنغالي وقيادته، كيف لا يمنحونه حق تقشير أو تمليح واستخراج الزيت من محصوله الرئيسي.
ما إن بدأت حرب أكتوبر/تشرين الأول حتى شعر خليل بحنين جارف إلى مصر، أنهى عقده مع الأمم المتحدة ليعود.
من المطار مباشرة يريد خليل أن يتجه إلى السويس، ليعيش مع الجنود الأبطال، الطريق مقطوع، الصهاينة وصلوا الكيلو 101 وثغرة الدفرسوار، تلاحقت الأنباء، نصر بطعم الهزيمة، فعاد خليل محبطاً!
ذات يوم، وعلى جانب الطريق عند مقابر الخفير والعباسية الإمام الشافعي، وجد بشراً يسيرون نحو المقابر زرافات ووحداناً، لا يعبأون بالسيارات ولا تعبأ بهم، اليوم ليس خميساً أو جمعة لكي يزور الناس موتاهم، حينها تبعهم خليل، ويا للمفاجأة، الناس يسكنون في المقابر، والمقابر قُسمت حسب مستوى ناسها، إن كان مَن تحت الأرض من الطبقة الراقية يكون الساكنون فوقهم من هذه الطبقة، حتى تصل إلى المعدمين الذين يسكنون قبور المعدمين.
في مصر يبني الناسُ ما يشبه بيوتاً بمرافقها، فتحتوي قبورهم، ليمكثوا فيها حين يزورون أهلهم الموتى. اكتشف المعدمون هذه البيوت فسكنوها، بتنسيق مع حراسها، يخرجون مؤقتاً حين يأتي أصحاب المقبرة لزيارة أهليهم، يتوالدون في المقابر، اختصر فقرهم الرحلة بين الميلاد والممات، يولدون ويعيشون حيث يموتون، صوفي، المهندس الذي يقيم مع عائلته في أحد قبور الطبقة المتوسطة يقدم مشروعه للتخرج بعنوان "البيت الأبدي"، وهو عن استخدام فن العمارة لمزج الموت بالحياة.
في تلك الفترة أصيب خليل باليأس والإحباط الشديد، ولم يُخرجه من حالته تلك إلا زيارة أحد تلامذته السابقين أيام التنظيم الطليعي، دعاه ليكون عضواً في المجموعة الديمقراطية الثورية، مجموعة من أبناء الطبقة العاملة، فيهم من كان زميله في التنظيم الطليعي، وفيهم من عمل مع آبائهم في الوسية، وكلهم من العمال والفلاحين، وفيهم محبوبة، الفتاة الوحيدة التي يبدو أن الكاتب اختار بحسّ الروائي أن يجعلها رمزاً لمصر، فهي تريد زوجاً يجمع بين الثورية والحب، أحدهما فقط لا يكفي.
أمضى خليل وقتاً يدرس أحوال مصر، ويحاول تفسير كيف وصل السلطان الجديد للحكم، كيف غافل عبدالناصر دون الآخرين، وكيف أصبح الخليفة، وهو البرجوازي الأمريكي الهوى، يتحدث الكاتب عن دولة المقاولين التي باتت توازي الدولة، ولها سجونها، ولها نظامها الداخلي المستقل، هذا وزير العسس الجاهز لحبك أية تهمة على أي معارض، وهذا مفتي الدولة الذي يستوزِره السلطان ثم يطرده، ثم يعيده للإعلام بناء على نصائح أصدقائه الأمريكان، ثم يطرده مرة أخرى ليأتي بمُفتٍ أكثر طواعية، سلطان مثل كل السلاطين يحاول التلاعب برجال الدين، ويعتبر السياسة كأنما هي وحي من السماء، فيوماً يقفز إلى الصهاينة، ويوماً يريد استخلاف زوجته، ويوماً يجمع معارضيه في السجن أياً كانوا، لا يهتم بفقر، بل يكره الفقراء الذين ثاروا عليه في ثورة الخبز التي سمّاها ثورة الحرامية، وبين الحشيش والجوزة يقضي ساعات هنائه وإلهامه.
والإعلام ينصب الزفة لبطل السلام، الجزء الأكبر من سيناء ممنوع على الجنود المصريين، الجزء الأصغر عليه نفر هزيل من الجند، أين السيادة المصرية على سيناء؟ لا أحد يجيب. لا أحد يدري إن كانت فرحة السلطان بكامب ديفيد التي ستعيد سيناء أم أنها فرحته بالقضاء على الشعار الثاني من شعارات دولة عبدالناصر الثلاثة، قضى على الاشتراكية؛ الشعار الأول، واليوم يقضي على الوحدة العربية؛ الشعار الثاني، أما الشعار الثالث وهو الحرية، فلم يصدق أحد عبدالناصر وهو ينادي بها.
بعد الواقع البائس يستخدم الكاتب خياله الروائي في تطوير أحلامه، فها هي المجموعة الثورية تبني في غفلة من الدولة مدينة الأحياء ليعيش فيها سكان مدينة القبور، مدينة الأحياء كانت إنذاراً للوالي بوجود جماعة هدامة، لكنه تقبّل الوضع في صمت وتفكير وتدبر، لم يستطع أن يهدم المباني، لكنه حاصرها بعسكره.
للأسف، لم يطوّر الكاتب هذه التجربة روائياً، ربما لمعرفته أنها لم تنطلِ على القارئ الذي يتعامل معها كحلم من أحلام اليوتوبيا، وكذلك لم يتوقف عند تجربة بناء مركز صحي في القرية، وكان الأجدر روائياً لو اتخذها مجالاً للصراع بين جماهير تعبّر عن نفسها بالتنظيم والعمل الاجتماعي ودولة لا تريد للجمهور أن يصل إلى مرحلة التنظيم بعيداً عن مركزيتها المستغلة، وكذلك تعطيلها لحركة القوى الاجتماعية، خشية من تطورها الواعي الذي قد يصل إلى ضرب الفساد، ولكن الكاتب ربما أعطى خياله الروائي فرصة للتحليق، ثم عاد إلى سيرته الخاصة.
تم اعتقال اثنين من أعضاء الخلية الديمقراطية، أحدهما أودع المعتقلات القديمة حيث التعذيب والتشويه الجسدي، أما الآخر فقد أودع في المعتقلات التكنولوجية الحديثة، وهذه أعدتها المخابرات المركزية الأمريكية، فيها خبراء أجانب متخصصون في تشويه عقول المعتقلين وتعذيبهم.
أصبح على خليل أن يغادر مصر، جاءه رسول من مجموعته الثورية، يُبلغه بأن عليه مغادرة البلد، السلطان أصدر أمراً باعتقاله، فمحاضرته في جمعية العلوم السياسية كانت مسجلة، وفهموا أنه يدعو لتغيير النظام، غادر الرجل إلى جوبا للتدريس في جامعتها، جاء زوّار الفجر، اقتحموا البيت بالعنف، لم يجدوا الرجل.
في جوبا، عاصمة الجنوب السوداني، لديهم أجانب ومستعمرون، المستعمرون هم السودانيون الشماليون، أما الأجانب فهم من كل شكل ولون، أجهزة استخبارات أمريكية وإنجليزية وفرنسية، إرساليات دينية تشكل إمبراطوريات مصغرة لها نشاطاتها الاقتصادية والسياسية والدينية، تملك مزارع وإقطاعيات وأديرة ومطارات، تسيطر على الكهرباء والماء والبريد. حكومة الشمال وحكومة الجنوب متواطئتان على النوم .
لقاؤه مع طلابه كان مشجعاً، فالطلبة كانوا مقبلين على التعلم، يحاورون بشغف واستمتاع، كانوا أكثر حرارة وانفعالاً من الدارسين في معهد داكار، الإسلاميون منهم مستنيرون، يناقشون ويثرون خطهم الفكري، الإسلام لا يتعارض مع التحليل العلمي الهادف لتحرير الإنسان من الاستغلال. شكّل طلابه طوق أمان له، لكن ظلّ لدى خليل خوف حقيقي من أن يعتقله نظام نميري ليسلمه إلى مصر. جاءت إجازة نهاية العام، عاوده قلقه، وجد عملاً في الجامعة العربية التي كانت في تونس، نصحه مدير الجامعة بأن يخرج بطائرة الكنيسة النرويجية إلى نيروبي. ودّع جوبا وداعاً مؤثراً.
تنتهي هذه السيرة التي روت في أجزائها الثلاثة عام 1982 حياة صاحبها وحياة مصر، منذ العصر الملكي إلى حكم السادات، وكيف تغير المجتمع المصري اجتماعياً وسياسياً.
ورغم أن صاحبها خليل حسن خليل عاش حتى نهاية القرن العشرين، إلا أنه لم يكتب سيرته عن مجتمع مصر في عهد مبارك، فقد عاش عقداً ونصف العقد في ذلك الوقت. فمجتمع مصر في العصر المباركي كان وسيةً كبرى كذلك.
ما إن تُنهي قراءة ثلاثية "الوسية" حتى يراودك سؤال واحد: متى نتحرّر وتتحرر مصر من مجتمع الوسية؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.