"الوسية" واحدة من أجمل السير الروائية العربية، والتي كتبها خليل حسن خليل ليرصد فيها أحوال الناس والسُّلطة، والمُلاك والعبيد، والأرض والانتماء، والحراك الاجتماعي وعوامل التغيير، وليؤرخ فيها لمصر في العهد الملكي اجتماعيّاً وسياسيّاً، كاشفاً مجتمع المستغلِّين الطفيليين الذي جعل البلاد "وسية" يتسلط فيها المُلاك الأجانب وأصحاب السُّلطة على الفلاحين والمُعدَمين.
و"الوسية" في العامية المصرية، لمن لا يعرف، هي أرض زراعية واسعة يملكها إقطاعي يسخّر للعمل في أراضيه الفلاحين تحت ظروف قد تحولهم إلى العبودية، ومن السخرية السوداء أنها تشبه في العربية الفصحى لفظة الآسية، والوسية التي تعني من يواسي محزوناً أو مريضاً، ولعلها عبقرية العامية المصرية التي حولت المعنى الفصيح إلى نقيضه في العامية، أي إلى اسم يعطي دلالة على استرقاق الإنسان وظلمه.
روى لنا خليل حسن في "الوسية" سيرته الذاتية وقصته الملهمة، حيث بدأ حياته كشابٍّ قَروي حُرم من التعليم، فعمل في وسية الخواجة تحت وطأة الفقر، ثم تطوَّع في الجيش وثابر وثقَّف نفسه بنفسه حتى حصل على الليسانس في القانون، لكنَّ تفوقه لم يؤهله ليشغل وظيفة مناسبة في سلك القضاء أو التدريس بالجامعة؛ لأنه فلاح ابن فلاح، إلا أنه لم يستسلم، وسافر في بعثة إلى الخارج ليُعد للدكتوراه. وقد انتهى من الدراسة وقتها قبيل الثورة المصرية.
نُشر هذا العمل في المرة الأولى بعد زمنه بثلاثين عاماً، ولعله لو نُشر مباشرة بعد انتهاء فترته الزمنية لكان ملهماً لثوار الجيش الذين نفذوا ثورتهم عام 1952 م.
بدأت قصة الكاتب حين عمل في الوسية وهو في الثالثة عشرة، يوم انقطعت به وبعائلته سبل التعليم، إذ حُرم من المجانية الكاملة التي يؤهله لها تفوقه، أبوه دخل السجن، وصودرت أراضيه بسبب الديون. تطور دور الراوي في الوسية من معاون للحسابات إلى باشكاتب ومراقب لمخازن الغلال وهكذا… وقد اكتشف أن مجتمع الوسية مجتمع متظالم يعيش فيه الأقوى على امتصاص دماء وعرق الفقير، بينما الفقير من الفلاحين هو الذي ينتج لظالميه كل ما هم فيه من خير. وإذ نوغل في تفاصيل الوسية نجد طبقات تقع بين الإقطاعي صاحبها والفلاح الفقير الذي يكدح ست عشرة ساعة في اليوم، ليتلقى أجراً قدره قرش ونصف، أما ما بين المالك والعامل فهناك مجموعة طبقات، وكل طبقة تسرق ممن هي دونها، وعملُ السرقات منظَّم وله من يبرره فكلُّ يسرق مما يعدُّه حقه الذي يسرقه الباشا،
وهكذا فالمسروق دائماً هم الأغلبية من الفقراء والعمال، وحتى هؤلاء فقد تكاتف عليهم الفقر والظلم والمرض وخراب الذمم، فهو إن وجد وسيلة يسرق بها من هو أضعف منه أو يتنمرعليه فلن يتوانى، هكذا كل منهم مع زوجته وكل وارث مع أخواته إن شاركنه في ميراث، وكل مقاول أنفار مع أنفاره وكل مراقب عمال مع عامليه، والكل في النهاية يمارس تسخير مَن هو دونه لصالح الباشا ويختلس بعض ما يظنه حقه في الظلام، أغلب ما يُسرق من حقوق هي حقوق الضعفاء وبعض حقوق الباشا التي سرقها أو سُرقت له من الضعفاء. وتتحرك دورة الفاسدين حتى يضموا الشاب الصغير إلى دائرتهم مستغلةً تقبُّل والديه للهدايا، التي هي في النهاية سُحت، لكن العائلة تشجع ابنها على التواطؤ مع دائرة الفساد، فها هي قد هنأت يوماً بالفطير وبالعسل، بدلاً من من خبز الذرة والمخلل.. غذاؤها وغذاء العمال والفلاحين كل يوم في السنة، والتبرير حاضر فكلهم في المظلومية سواء.
أخيراً يحقق صاحبنا بشكل ما، قدراً من الإنصاف للعمال والفلاحين بتسجيل حقوقهم غير منقوصة، يغضب الباشا اليوناني، ويكاد يقتله، ويرفض الصبي الاعتذار فيُطرد من الوسية مرتاح الضمير. ولكن جوع عائلته التي تعيش بالجنيه الذي يتقاضاه شهرياً، يستمر في تنغيص حياته.
لحسن حظه بدأت الحكومة الإنجليزية برنامجاً لتدريب الجيش المصري، من أهدافه أن تجد بريطانيا مسانداً في الحرب العالمية، ووجد صاحبنا فرصة للتدريب ليصبح بعد سنةٍ ضابط صف، والمرتب يغطي نفقات عائلته. في الجيش كلما أراد المدربون إصلاح خطأ من مجند قالوا لهم باحتقار: أي واحد فيكم لو كانت أمه تستطيع أن تدفع له عشرين جنيهاً بدل معافاة من العسكرية، ما كان جاء إلى الجيش! إهانة بالغة وإهانات أخرى على الوزن نفسه تقتل الشعور الوطني في المجند وتفرض عليه إحساساً بالمهانة، ليتحول من كائن وطني إلى مرتزق.
كذلك علاقة الضباط بالجنود تحكمها طبقية واضحة، وحيث كان صاحبنا من المتفوقين فقد أُتيح له صداقة مع عبدالمحسن مرتجى، الضابط آنذاك الذي أصبح فيما بعد، أحد كبار قادة الجيش المصري ورئيساً للنادى الأهلي. اعتاد الصديقان اللقاء في نادي الضباط، العسكري لا يجد الترحاب من بقية الضباط، تحدث مع مرتجي في ذلك، اتفقا على أن يشكلا هيئة فيها ضباط صف وضباط، مهمتها رفع الروح المعنوية للأفراد؛ ليشعروا بأنهم يقومون بعمل وطني، وهكذا وصل الرجل إلى أن يكون أول أومباشي يتحدث من إذاعة القاهرة عن جيش الوطن، انتهى البرنامج بأن عاد الضباط إلى ما اعتادوه من ترفُّع عن الاختلاط بجنودهم وذلك بعد نقل عبدالمحسن مرتجى،
أما صاحبنا فقد ترقى مرتين وفُرض عليه أن يعمل شاويش مراسلة لمعالي الباشا أركان الحرب، وكانت هذه مهنة خدمة تبدأ من تنظيف حذاء الباشا إلى فتح باب العربة له وأحياناً خدمته في بيته وخدمة عائلته، خدمة يأنف صاحبنا منها إلا أنه لم يستطع الرفض، ولكنها هيَّأت له بعض الوقت للدراسة بعد عودته للالتحاق بالمدرسة، وذلك بعد ثماني سنوات من الانقطاع، وهيأت له أيضاً المجال ليكتشف أن الجيش كان وسيةً لا تختلف عن وسية الباشا اليوناني، خاصةً أنه اكتشف السرقات المنظَّمة التي يسرقها كل رجال طبقة في الجيش من الطبقة التي تليها، وهكذا لم تختلف وسية الجيش في جوهرها عن الوسية التي طُرد منها.على أن المجتمع أيضاً لم يكن يختلف عن الوسية، فصاحبنا تعلَّق قلبه بابنة عمه التي لها من الإخوة ضابط في الجيش، ولكنه وجد أن هناك حواجز طبقية تقف له بالمرصاد وتحتاج إلى وقت وجهد ومال لتخطيها.
في مكتب القائد العام وجد صديقاً يتقاسم معه أحاديث الشقاء والوسايا ويستمتعان بالخلد، ولكن الصحبة لم تتصل؛ فقد عوقب صاحبنا بنقله إلى لواء الأساس حيث المجندون الجدد البعيدون عن المدينة. وحيث إنه كان عليه أن ينجح في التوجيهية بمجموع عالٍ ليظفر بالمجانية، فقد تعين عليه أن يطلب الانتقال إلى التدريب العسكري في مدارس القاهرة، وثمن ذلك أن يتنازل عن رتبتين ليعود أومباشي، فينخفض دخله من ثمانية جنيهات إلى خمسة. يقبل هذا لينجح. رسوم الجامعة أربعون جنيهاً ودخله شهرياً خمسة جنيهات، يعني ذلك أنه إذا يحصل على المجانية فلن يتمكن من الدراسة مطلقاً.
لنتخيَّل صعوبة الحياة على الناس، فصبايا بلدته يعملن في وسية اليوناني بقرش ونصف في اليوم، هل يمكن أن تصل أي منهن إلى الحلم بالجامعة؟ هذا بالطبع كان ما يحدث أيام الحكم الملكي في مصر والذي يروج البعض اليوم بأنه كان عصر رخاء وعدالة!
يتابع صاحبنا فيدخل الجامعة، ليست المجانية فقط بالتميز الدراسي وقد حققه، ولكنها تحتاج إلى شهادة فقر من شيخ الحارة يصدّق عليها مأمور القسم، وهكذا يدخل كلية القانون في الإسكندرية، وبين شد وجذب وتصاعُد الحالة المعنوية وهبوطها يستطيع المحافظة على المجانية عدا سنة واحدة أغضب العميد، بسبب نشاطه الثقافي في تشريح مجتمع الوسية الذى وجده قد أصبح طابع الحياة المصرية آنذاك.
بالجامعة شارك في النشاط الثقافي بفاعلية، ولذا فقد حرصت على تنظيمه الأحزاب المصرية الفاعلة، المتدينون ويقصد الإخوان، والوفد واليسار، وحين رفضها جميعاً اكتفى التياران الأخيران منه بألا ينضم إلى الإخوان، وفي الرواية نقدٌ ثاقب لحزب الوفد ومبادئه، وهذا النقد لا يقف عنده اليوم كثير من المثقفين الذين يحنُّون إلى لليبرالية حزب الوفد في العهد الملكي. يقول: "إذا كنت تقصد التمثيل الشكلي للأمة فهذا صحيح، ولكن التمثيل الحقيقي الموضوعي لا وجود له. هل يقبل عقلك أن الباشوات يمثلون مصالح الفلاحين العاملين في وساياهم؟"، وكان حزب الوفد في الحقيقة يعبر عن الباشوات الإقطاعيين المصريين الذين يشاركون في ابتزاز الفلاحين بدعمهم النظام الإقطاعي.
استعرضنا هنا المحاور الأساسية لهذه السيرة الروائية، ومعرفة المحاور لا تغني عن القراءة، أسلوب الرواية الفني أسلوب حرّيف مُتقن يُبرز بذكاءٍ عوامل التناقض الاجتماعي في صور كثيفة التعبير تستقر في وجدان القارئ لتؤرِّقه، وتدعوه إلى التغيير الجذري لا التغيير الشكلي. ومثل هذا العرض لا يعرض التفاصيل بشكل وافٍ، والشيطان يكمن في التفاصيل، كما أن الأدب يعرض الحياة بشكل جمالي يُظهر مواطن القبح ومواطن الوسامة التي قد يمر عليها البعض مروراً عابراً، فينفعل بها ويتمرد على قبحها.
يخطر ببالي أنه لو أُتيح لمثل هذه الرواية أن تصبح ضمن ثقافة ثوار الجيش عام 1952، فهل كانوا بعد فترة ليست طويلة ينساقون مرة أخرى للعودة إلى مجتمع الوسية؟ ولكن الباشوات الجدد ليسوا من مجتمع الإقطاعيين والمرابين وكبار الملاك، هذه المرة جاؤوا من المجمع العسكري وبدلاً من الباشوات أصبح لدينا سوبر باشاوات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.