منذ شرع الله الإسلام في الأرض، وصار للدين أبناء اسمهم المسلمون، وفُرضت الصلاةُ عماداً لهذا الدين، وميثاقاً لأولئك المسلمين، أصبح المسجد رمزاً لهم، وصورةً لدينهم، فكلُّ شبرٍ يُرفع فيه الأذان فخرٌ، وكل أرضٍ يُبنى بها مسجدٌ فرحٌ، وكل هلالٍ فوق مئذنةٍ نورٌ خاص بالناظرين إليه، وكل قبةٍ مظلةٌ للمحتمين تحتها من حرارة الزمان، وكل مسجدٍ مصلّى، لا تحفةً معماريةً يتأملها الناس بعيونهم، بينما لا يستطيعون إلصاق جباههم بأرضها.
حين أذن الله بفتح القسطنطينية اشترى محمد الفاتح الأرض التي تخصّ الكنيسة وقتها، وتمثل رمزاً لها، وقد سالت دماء وارتقت أرواحٌ وبُذلت أعمارٌ حتى تلك اللحظة، لكن حتى يأمن الرجلُ الزمان بعده اشترى الأرض من ملّاكها، وصار مالكها بحكم القانون الذي يعترف به الطرفان، حتى في وقتٍ يكون الحكم فيه للأقوى لا لدستور الضعيف، لكن على كل حالٍ اشتراها، وصارت الكنيسة مسجداً، وبعد زمانٍ طويل حُوّلت إلى متحف، ثم بعد سنوات طويلة أُلغي قرار التحويل وصارت من جديد مسجداً.
ما المشكلة فيما سبق؟ إن كنتَ إنساناً طبيعياً يعيش في أي بقعةٍ من الأرض مع اختلاف الأعراق والألوان فإنك ستؤمن بحقِّ المسلمين في إقامة الصلاة بـ"آيا صوفيا"، خصوصاً مع إبقاء الفاتحين وقتها على الكنائس والمسيحيين دون إضرار بهم، كعادة الفتوحات الإسلامية في أن تؤمّن أهل الكتاب على معتقداتهم ودُور عباداتهم، لكن آيا صوفيا كانت رمزاً لإمبراطورية كاملة صارت جزءاً من الماضي، وعلامةً تاريخية مسجّلة لعدوٍّ طُرد من الديار فلم يبقَ له شيء، فلم يكن منطقياً أن يُبقي عليها السلطان محمد الفاتح ككنيسة بدعوى الإنسانية، كانت ستبدو روحاً رياضية ساذجة في مباراة مصارعة.
أما إن كنت يسارياً عربياً، مناضلاً ليبرالياً، رفيقاً اشتراكياً، مثقفاً ليبرالياً فإن المسلمين في هذه الحالة سيكونون هم المعتدين على الفن والثقافة والحضارة والإنسانية، لأنهم يطمسون معالم التاريخ في مكانٍ أصبح ملكهم بحكم الجغرافيا، وستتساءل بسخرية: هل من قلة المساجد يحوّلون المتحف العظيم إلى مسجد غير عظيم؟ هل ضاقت الأرض حتى يرفعوا الأذان هناك بدلاً من الموسيقى؟ هل جُنّ جنون المسؤولين ليستغنوا عن ملايين التذاكر ويفتحوا المكان لكل من هبَّ ودبّ؟
ستنتفض انتفاضة جوفاء تتخللها مصطلحات لامعة مثل الحضارة والإنسانية، ستثور للمفاهيم وتغضّ الطرف عن المعاني، ستجتهد ألا ينفضح ازدواج معاييرك، وستُقاوم ألّا تسقط في فخ التناقض، ستبدو ساخراً جداً، لأن اليسارية -العربية- تحتّم عليك السخرية من كل شيء، وستقول هل يحتاج الله إلى مسجد جديد بينما تحتاج البشرية إلى إرث قديم؟ ستغني للحضارة وتلوم المتعجرفين على الإساءة لها، ستلعن اليوم الذي دخل فيه الإسلام تلك الديار، وحرمنا جميعاً من متعة تذوق الفنّ منقوشاً على الجدران ومرسوماً على الزجاج.
وتقول هل سيزيد مسجدٌ واحدٌ في المساجد شيئاً؟ سيضيف أعداداً ضخمة أخرى من المصلين؟ وأجيبك يا سيدي بسؤال، وأقول: هل ينقص مسجدٌ واحدٌ من الحضارة الغربية المذهلة شيئاً؟ هل يسيء إلى الإنسانية الأوروبية الجميلة؟ هل يطمس الفنّ الراقي؟ هل يُغضب أوروبا لسوء التصرف مع إرثها الورديّ وتاريخها المتنور؟ هل بإعلان المسجدِ مسجداً شرع المسلمون في ذبح أصحاب المعتقدات الأخرى؟ هل دبّروا لهم مجزرةً جماعية لدفنهم أحياءً بكل متعلقاتهم وبقاياهم؟ هل حطموا الصلبان في مشارق الأرض وهدموا الكنائس وأحرقوا الأديرة؟
لكن تعالَ أخبرك أن وردية التاريخ الذي تثأر له ليس من منطلق الانتماء، ولكنها عقدة الخواجة، فنراك عربياً ووجهتك غربية، اسمك مسلم وهُويتك تناقض بطاقة هويتك، مات أجدادك من الدين أو العرق على أيدي أناسٍ تتخذهم مرجعاً لك في الحضارة ونموذجاً للاقتداء، كالملكيين أكثر من الملك، كالأسوَد الذي يشي بأبناء عرقه السود المستعبَدين عند سيده الأبيض، ولو كان رجلاً لنالوا جميعاً حريتهم.
لم أسمعك يا سيدي المثقف جداً، المتحرر "أوي"، المتحضر بجد، عندما بنى المسلمون جامع قرطبة الكبير وطوّروه وأضافوا له على مر 250 عاماً، حتى كان وقتها أكبر مسجدٍ على وجه الأرض، ثم جاء رموز الإنسانية وحوّلوا المئذنة برجاً للنواقيس، وحوّلوا القبة جرساً كبيراً، وحوّلوا ساحة المسجد كاتدرائية ضمن الأكبر في العالم، "على حِس" مسجدٍ بناه أجدادنا -وأجدادك رغم أنفك- ولم يفعلوا ذلك يا طيب القلب وإنسانيّ المقصد إلا حين أبادوا كلّ مسلم في طريقهم، واغتصبوا كل مسلمةٍ، وتركوا خلفهم نهراً من الدماء، ثم رسموا بمنتهى "الفن" على جدران الجامع مسيحاً مصلوباً، ومريم عذراء، وتاريخاً من القتال النبيل، لأجل هدفٍ نبيل بالطبع.
ثم تعال يا سيدي إلى مسجد قصر الحمراء في غرناطة، على أطراف المدينة الحسناء، إلى الفن والجمال الذي تبحث عنه، ستجده هناك، أو كنتُ أتمنى ذلك، لكنه للأسف الشديد تحول إلى كنيسة سانت ماريا، لكنك ستغض الطرف عنه؛ لأن أي فنٍ سيكون مبرراً ما دام ليس إسلامياً، لأن المسلمين رعاة غنم لا يفهمون في الفن ولا الجمال، ولا يرسمون الزخارف، ولا يكتبون قصائد الشعر على الجدران، ولا يصنعون النوافير في باحات المساجد، ولا يزيّنون الحوائط بالقناديل، ولا يفهمون في العمارة، وهو بالتأكيد ما يجعل الإنسان الأوروبي المسكين يمحو تاريخهم الجاهليّ، ويبني مكانه حضارةً مشرقة تنير العالم كله.
وانظر إلى جامع إشبيلية الكبير، التحفة الفنية التي صار اسمها كاتدرائية سيلفيا، أو كنيسة ماريا، وانظر إلى مسجد المرابطين، واحد من أقدم مساجد غرناطة في الأندلس، ستجد مئذنته مكانها، قائمة منذ مئات السنين، لم يهدمها زلزالٌ، ولم تهدها عاصفة، لكنك سترى الأجراس تتخللها، والصلبان حلّت محل الأهلّة، وذلك لأن الإسبان إنسانيون جداً، لدرجة أنهم يحافظون على الفن، ويحرصون على الحضارة ولا يحوّلون المساجد إلى كنائس، ولم يصبح بالتأكيد مسجد المرابطين كنيسةَ خان خوسيه، ولم يتحول مسجد الجامع إلى كاتدرائية سان سلفادور، ولم يتحول مسجد قاسم باشا إلى كنيسة سانت ميخائيل، ولم تتحول عشرات المساجد إلى كنائس وأديرة، ولم تبنَ على أنقاض "الحضارة" حضارةٌ أخرى تروق لك.
هؤلاء الحضاريون والمتقدمون جداً، كان تقدمهم الحقيقي وأول مجالٍ اختبروا فيه قدرتهم على الصناعة، كان صناعة آلات التعذيب للمسلمين في الأندلس، فتفنّنوا في سلخهم وذبحهم وشويهم، وبينما كان المسلمون إذا فتحوا بلداً تركوا كنائسه أو استثنوا إحداها لما تحمله من رمزية إلى زمنٍ بائد، كان الأوروبيون يعادون كل شيء يعرف الله، البشر والحجر، أما البشر فيحرقونهم ويبيدونهم في مجازر جماعية، وأما الحجر فكانوا يكشطون الحضارة منه، ليكتبوا تاريخاً جديداً عليه، يحمل تضحياتهم في سبيل الإنسانية والفن.
ومحاكم التفتيش يا حضرة المتنوّر في حقّ المسلمين الإسبان، أو إن كنتَ تنسلخ من كل ما يخص الإسلام فتعالَ إلى العروبة في الجزائر وانظر ما فعلته فرنسا، صاحبة الفنون وأم الآداب، واسأل أهل الجزائر عن فرنسا سيجيبونك بألبومات الصور، سيقولون هذه جدة ماتت مغتصبة، وهذا جدٌّ كان محبوساً ومات بالإشعاع حين أجروا عليه تجربة نووية مع معتقلين آخرين، وهؤلاء أطفالنا الذين لم نعلم عنهم شيئاً، وهذه الجماجم يا صديقي العربي، عشرون ألف جمجمة للمقاومين أيام الاحتلال، لن تجدها في ألبوم الصور، وإنما في باريس، في متحف "الإنسان"، وهنا لا أسخر منك كعادتي طول المقال، وإنما أحدثك جدياً لأول مرة، أن جماجم أجدادنا والله معروضة في متحف اسمه "الإنسان".
وهذا تجسيد حقيقي ومفارقة عظيمة لمفهوم الإنسان عند صديقك الغربي، أو عند سيدك الأوروبي، هو كل إنسانٍ يخصه وينتمي له، أما ذلك الإنسان الآخر فجماجمه مكانها المتاحف، كما أن الفئران مكانها المعامل، وكل أولئك المتأخرين مسخرون لتجارب الإنسان المتقدم، في العلم وفي الفن وفي الأدب، في الحضارة وفي الإنسانية وفي الإبداع.
رأينا إذَن، ودون أي تفصيل، تاريخاً أسود لو بحثت فيه لغرقت في الظلام، في عصور عدّوها أبهى عصور التنوير، فما بالك لو بحثت في عصور ظلامهم نفسها، لخرجت من البحث لا ترى، ولقبّلت أضرحة أجدادك حيثما دفنوا أحياءً، ولعرفت أن الإجرام أوروبي، وعقدة الخواجة عربية خالصة، كلما حاول المرء أن يكون أوروبياً أكثر، لا عربياً أكثر، صار بلا هوية أكثر، فلا هو أخذ من أوروبا إلا تعريه من كل قيمه، ولا هو أخذ من العرب إلا لعناتهم عليه.
وهنا الازدواجية في أن يرى الرجل نفسه أدنى من الآخر، والآخَر عنده دائماً هو الأفضل، هو المقدس بحضارته وفنه، حتى لو كان قلمه بندقية، ويده مقصلة، حتى ولو بنى على رفات المسلمين تاريخه الدموي، حتى ولو أنشأ دور عبادته على أنقاض الحضارات الأولى، حتى ولو كان يغتصبه، فإن اغتصابه سيكون متحضراً جداً، لأنه يملك في جسمه شيئاً أوروبياً، وما أحلى أشياء الخواجة.
وأنا مشفقٌ على بعض اليساريين العرب، الليبراليين ذوي الشعر الكثيف المجعد والبشرة الخمرية، شفقتي على الذي يلهث ليلحق سيارة كل ما يجذبه فيها سائقها الأبيض، حتى لو كان وقود السيارة من عظام أبيه، حتى لو كان "الكلاكس" صرخة أمه، حتى لو كانت الميدالية جمجمة جده، حتى لو كانت الدمية المعلقة بالخلف تلهث وتعوي.. هو نفسه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.