(1)
قبل "معركة حطين" كان الصليبيون متفوقين وبمراحل على المسلمين، وكان ما يملكونه يفوق من الناحيتين
الاقتصادية والاستراتيجية ما يمتلكه المسلمون من أراضي الشام. ومن المعروف أن أراضي المنطقة الساحلية من بلاد الشام أغنى بكثير من الأراضي الداخلية، وبخاصة في الجنوب، أي في أرض فلسطين فيما بين البحر الميت والبحر المتوسط.
هناك كانت توجد أخصب بلاد الشام التي استولت عليها مملكة بيت المقدس الصليبية التي لم تكن تختلف كثيراً عن إسرائيل الحالية، حيث كانت حدودها تصل شمالاً إلى جنوبي دمشق وبيروت، وتصل جنوباً إلى قلعة الكرك، وإلى البحر الأحمر وتحتل ميناء العقبة، وتصل كذلك أراضيها إلى البحر المتوسط جنوبي غزة.
وكانت هذه الأراضي محمية بالقلاع الحصينة التي يسكن فيها المئات من الفرسان الصليبيين المدججين بالسلاح والعتاد. فإذا أضفنا إلى ذلك ما لدى الإمارات الصليبية الأخرى مثل إمارة طرابلس وإمارة أنطاكية يتبين لك أن قوات الصليبيين كانت قبل حطين في مركز عسكري ممتاز، وسيتضح لك ولو قليلاً ما قام به صلاح الدين ومن معه من عمل مجهد وتخطيط طويل لكسب نصر حطين.
في البداية قام بتوحيد مصر وما بقي من الشام، دمشق وحمص وحماة وحلب والموصل. ثم وقع هدنة مع الصليبيين أواخر عام 582هـ/ 1186م. وبعد أن تجهز جيداً بدأ يتصيد الأسباب وينتظر الفرصة التي جاءته عندما قام صاحب حصن الكرك الصليبي رينو دي شاتيون (أرناؤط) بنقض الهدنة باستيلائه على قافلة تجارية للمسلمين متجهة من القاهرة إلى دمشق، وأسر من فيها في حصن الكرك، ولم يستجب لأية تسويات.
(2)
وهنا بدأ صلاح الدين خطته لمنازلة الصليبيين فعسكر في دمشق وانتظر حتى اشتد قيظ الصيف واستغل الوقت في تجميع جيوشه وتدريب المتطوعين.
وبعد صلاة جمعة 26 يونيو/حزيران 1187م (17 ربيع الآخر 583هـ) اجتاز صلاح الدين وجيوشه نهر الأردن إلى جنوب بحيرة طبرية. ثم رابط غربها عند (قرية حطين)، لمراقبة الموقف وإرغام الصليبيين على المسير إليه في هذا القيظ.
وفي البداية تردد الصليبيون في الخروج. وعندما لم تتحرك قواتهم من قلاعها الحصينة هاجم صلاح الدين مدينة طبرية وكان بها زوجة الكونت ريموند (أمير طرابلس). وهنا فقط قرر الصليبيون مضطرين الزحف إلى طبرية. وخرجوا في 3 يوليو/تموز 1187م تحت قيادة ملك بيت المقدس (جي دي لوزينان).
وهنا انتقل صلاح الدين إلى سهل طبرية وسد جميع الطرق إلى الماء. وأرسل قوات خفيفة لمهاجمة جيش الصليبيين في الطريق خاصة مؤخرة الجيش الصليبي لإنهاكه أثناء زحفه، كما أرسل قوات لتشعل الأعشاب الجافة في طريق القوات الصليبية ليزيد عليهم القيظ. ولك أن تتصور كم عانى الجيش الصليبي في طريقه إلى طبرية من حرارة الصيف وصهد الحرائق وثقل العتاد الذي يتدرع به فرسانه، ومن الهجمات المتفرقة التي تقع بمؤخرته على طريقة حرب العصابات.
هذا كله فيما كان صلاح الدين يدخر قوة رجاله وجهد مقاتليه. وعندما وصلت الجيوش الصليبية قرب بحيرة طبرية وأرادت الوصول إليها منعها جيش صلاح الدين فلما أرادت الاتجاه ناحية قرية حطين نجحت قوات صلاح الدين في سد الطريق عليهم. وبعد عدة مناوشات فاشلة أمضى الصليبيون ليلتهم وهم عطشى منهكين.
وفي الصباح اكتشفوا أن جيش صلاح الدين قد حاصرهم ليلاً.
في صباح يوم الجمعة 4 يوليو/تموز 1187م (24 ربيع الآخر 583هـ) التحم الجيشان، واستمر القتال حتى يوم السبت.
وحاول الصليبيون الوصول مراراً إلى الماء فلم يستطيعوا، ومن ثم بدأوا يتهاوون من العطش والتعب. وبعد أن فر بعضهم شرقاً وغرباً، لم يبق منهم في النهاية سوى ملك بيت المقدس ومئة وخمسين من رجاله ومن بينهم رينو دي شاتيون (أرناؤط)، فسيقوا إلى صلاح الدين فأمر لهم بالماء إلا رينو دي شاتيون الذي أمر بقتله وبقية الفرسان، ولكنه أطلق سراح الملك الصليبي (جي دي لوزينان) بعد تعهدات بألا يعود لحرب المسلمين، ولكنه نقض تعهداته فيما بعد وعاد لمحاربة المسلمين مع الحملة الصليبية التالية.
(3)
وأهمية حطين أنها ليست مجرد هزيمة عسكرية حلت بالصليبيين، بل كانت كارثة شاملة نزلت بهم وبمملكة بيت المقدس التي أصبحت فجأة بلا ملك أو جيش. ولذا لم يتوان صلاح الدين مثل تواني يوسف بن تاشفين بعد الزلاقة، فبعد حطين اجتاز الجليل وبدأ استرداد العديد من موانئ الشام ومدنه الساحلية ليقطع الصلة بين الصليبيين وأوروبا، ويقوي الرباط البحري بين مصر والشام. وبعد أن أمن الشواطئ بدأ يستولي على الحصون والقلاع والمدن التي كانت في حوزة الصليبيين، حتى جاء دور القدس أخيراً.
وتبعاً لابن شداد أنه بحلول منتصف سبتمبر/أيلول كان صلاح الدين قد استعاد 52 مدينة وحصناً. وفي 20 سبتمبر/أيلول ضرب صلاح الدين الحصار حول القدس، حيث تمكن المسلمون في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول سنة 1187م من السيطرة على مدينة القدس وتحرير بيت المقدس بعد تسعين سنة من الاحتلال الصليبي.
وعندما دخل صلاح الدين المسجد الأقصى أزعجته قاذورات الحيوانات وروائحها النتنة التي كانت تملأ المسجد، فأدرك عدم إمكانية الصلاة فيه بسبب حالته المزرية. وكان الصليبيون قد جعلوا المسجد الأقصى إسطبلاً للخيل، وقالوا إنه "إسطبل داود"! لذا لم تقم الصلاة في المسجد الأقصى في جمعة الفتح، وإنما في الجمعة التي تلتها، وذلك بعد تنظيف المسجد وغسله وتطهيره.
وقد أظهر صلاح الدين ما كان يتمتع به من وفاء عندما أمر بإحضار منبر نور الدين الزنكي من دمشق كي يصبح منبراً للمسجد الأقصى. وكان نور الدين قد أمر بصنع المنبر قبل تحرير القدس بعشرين سنة كاملة، وذلك حتى يقف عليه الخطيب في أول صلاة جمعة بالمسجد بعد تحريره. وصدق حسن ظن نور الدين بأمته وزالت الممالك الصليبية وعادت فلسطين لأهلها مرة أخرى وستعود بالتأكيد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.