كان لقب الإمبراطورية البريطانية ذات يوم أنها "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس"؛ بسبب ضخامة مساحة أراضيها، وكان هذا يعني أن الشمس عندما تتواجد في أي مكان رغم تغيُّر التوقيت حول العالم، كانت تسطع على أرضٍ تابعة للإمبراطورية البريطانية.
لكن هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف انهزمت في 5 معارك، كانت هزيمتها كارثية النتائج عليها، وكان أبرز هذه المعارك معركة عين الغزالة في طبرق الليبية.
في هذا الموضوع من مجلة The National Interest الأمريكية، نستعرض لكم 5 معارك انهزمت فيها تلك الإمبراطورية الشاسعة، وأولها معركتها في ليبيا.
معركة عين الغزالة في ليبيا
أثناء الحرب العالمية الثانية، وبينما كانت المعارك تدور في كل أنحاء العالم تقريباً، كانت هناك حالة من الخمول واللامبالاة لدى القادة العسكريين البريطانيين في شمال إفريقيا، والتي كلّفت القوات البريطانية الكثير بخسارتها للشرق الأوسط.
ففي صيف عام 1942 وبعد مطاردة الألمان والإيطاليين والبريطانيين لبعضهم البعض ذهاباً وإياباً عبر مساحات شمال إفريقيا الشاسعة على مدار ما يقرب من عامين، استقرّت جبهة القتال مؤقتاً في حين استعد كل الجانبين للجولة التالية.
كانت الحرب في شمال إفريقيا أقرب إلى الحرب البحرية منها إلى القتال الشامل المُنسّق كغيرها من المعارك في الحرب العالمية الثانية، وذلك نظراً للطبيعة الجغرافية لمنطقة شمال إفريقيا التي تتسم بالمساحات المفتوحة الجافة والمسافات الشاسعة بين المناطق المأهولة بالسكان.
كانت الجيوش تناور باستمرار عبر تضاريس قاحلة ومساحاتٍ شاسعة جرداء، حيث معظم الأراضي لم يكن لها قيمة كبيرة في حد ذاتها، باستثناء بعض الموانئ الرئيسية ونقاط الإمداد على البحر المتوسّط مثل بنغازي وطبرق بالطبع.
وفي منتصف عام 1942، اختار البريطانيون اعتماد استراتيجيةٍ دفاعيةٍ في شمال إفريقيا على غرار تلك التي اعتمدتها فرنسا لحماية حدودها من أيِّ عدوانٍ مُرتقب من خلال بناء خط من التحصينات القوية المستديمة يُعرف باسم "خط ماجينو" بعد الحرب العالمية الأولى.
لكن خطّ ماجينو المحصّن ذاك لم يصمد أمام القوات العسكرية النازية عام 1940، وكما فشل "خط ماجينو" في حماية فرنسا من الغزو الألماني واحتلال باريس عام 1940، حصلت بريطانيا على نتائج مماثلة عندما شيّدت "خط الغزالة" بالقرب من مدينة طبرق الليبيّة.
كان هذا الخط الدفاعي يمتد من قرية عين الغزالة على ساحل البحر الأبيض المتوسط (غرب طبرق) إلى الصحراء جنوباً ويتكوّن من سلسلة من حقول الألغام وعددٍ من النقاط الحصينة تتمركز فيها وحداتٌ عسكرية من سلاح المشاة، مدعومة بأسلحة وقوات مدرعة بريطانية يُحتفظ بها احتياطياً في الخلف.
لكن الحرب في الصحراء المكشوفة الممتدة تعني للأسف عدم وجود نهرٍ أو جبل لترسيخ تلك الدفاعات البريطانية، ما ترك تحصينات الجانب الجنوبي مرتخية في الصحراء المفتوحة الشاسعة.
كان ترك ثغرات دفاعية يعني وقوع كارثة للقوات البريطانية. ولم يفوّت القائد العسكري الألماني إرفين رومل هذه الفرصة. واختار أن يهاجم في 27 مايو/أيَّار 1942 على الرغم من أنَّ عدد الجنود البريطانيين كان يفوق عدد قوّات فيلقه الإفريقي – الألماني المسمَّى بفيلق الصحراء، وحلفائه الإيطاليين.
وكما كان متوقعاً، نجحت قوات رومل في الالتفاف على القوات البريطانية في الجنوب وتطويقها بينما هاجم المُجنّدون الإيطاليون نقاط البريطانيين الدفاعية الحصينة. ولو حالف الألمان الحظّ لتمكّنوا من محاصرة النقاط الحصينة البريطانية وتدميرها تماماً.
لكنّ كل شيء لم يمض على ما يرام، فقد واجهت قوات رومل في طريقها مأزقاً يتمثّل في منطقة واحة "بئر حكيم" جنوب غرب طبرق، التي يسيطر عليها لواء قوات فرنسا الحرة (بالإضافة إلى كتيبة من الجنود اليهود). وجدت القوات الألمانية نفسها عالقة بين بئر حكيم وحقول الألغام البريطانية، حيث لم تستطع قوافل الوقود التابعة لهم الوصول إلى الدبابات.
كان بإمكان البريطانيين إنهاء حملة شمال إفريقيا آنذاك في الصحراء الليبية في حال وجّهت قواتهم ضرباتٍ حاسمة ضد القوات الألمانية المعزولة عن خطوط الإمدادات. لكن حالة الخمول واللامبالاة الغريبة لدى البريطانيين حالت بينهم وبين ذلك، فقد أرسلوا قواتهم في مجموعاتٍ صغيرة غير مُنسّقة ضد القوات الألمانية المتمركزة.
وقد أدّت التكتيكات الضعيفة إلى تفاقم المشكلة. إذ شنّت الدبابات البريطانية هجوماً بدون دعم من قوات المشاة أو المدفعية، التي من شأنها تحييد الخطوط المدمرة للمدافع الألمانية المضادة للدبابات.
وكما هو معروفٌ عنه، لم يُهدر رومل الوقت، فنجح في تأمين طريق قوافل الإمداد الخاصة به، وإعادة تزويد دباباته بالوقود وتفريق القوات البريطانية المتبقية.
لمعت أمام عينيه جائزة السيطرة على مدينة طبرق، وهي معقل كانت تُسيطر عليه قوات أسترالية قوية نجحت في الصمود أمام حصار رومل في عام 1941. لكن سرعان ما سقط هذا المعقل، لأنَّ الدفاعات كانت متصدعة والجنود الجدد الجنوب إفريقيين لم يكونوا مستعدين جيداً.
واصلت قوات الفيلق الإفريقي-الألماني التقدّم نحو مصر، مدعومةً بكمياتٍ هائلة من الوقود والإمدادات التي تشتدُّ الحاجة إليها. سارت القوات الألمانية بإتجاه قناة السويس للسيطرة عليها حتى أوقفتها القوات البريطانية في معركة العلمين الشهيرة.
وقد مثّلت طبرق أسوأ ضربة للثروات البريطانية في شمال إفريقيا، إذ إنها خسرتها بعد أربعة أشهر فقط من سقوط سنغافورة. وقد أثبت الجيش البريطاني بعد ما يقرب من ثلاث سنوات من بداية الحرب العالمية الثانية أنه لا يزال غير قادر على مواجهة الألمان في معركةٍ مفتوحة.
العنصرية تكلّف البريطانيين كثيراً
قبل الحرب العالمية الثانية، استبعد الخبراء البريطانيون اليابانيين من حساباتهم العسكرية والسياسية على أسُسٍ عنصرية، وكان ذلك خطأ كبير وفادح.
وقد أثمرت تلك العنصرية هزائم مريرة في الشهور الستة الأولى من حرب المحيط الهادئ، عندما ألحق الجيش الإمبراطوري الياباني والبحرية اليابانية هزائم متلاحقة بالقوى الغربية في جنوب شرق آسيا وغرب المحيط الهادئ. ولا يوجد مثالٌ أفضل يعبّر عما حدث عن سقوط الحصن البريطاني في سنغافورة.
كانت سنغافورة تعتبر حصناً منيعاً للإمبراطورية البريطانية في آسيا، بحاميةٍ يبلغ قوامها 80 ألف جندي. وكان من المتوقع أن تتمكن سنغافورة من الصمود لفترةٍ طويلة أمام أيّ هجوم، حتى يصلها الدعم.
لكنّ الدعم لم يصل قط، إذ تدمّر معظم الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ خلال الهجوم الياباني المفاجئ على بيرل هاربر.
كانت القوات اليابانية التي هبطت على شبه جزيرة ملايو شمال سنغافورة في 8 ديسمبر/كانون الأول أقلّ بكثير من الحامية المدافعة عن سنغافورة، لكنها تمكنت من خداع وهزيمة القوات البريطانية والأسترالية والهندية ضعيفة التدريب والقيادة.
كان اليابانيون تحت قيادة الجنرال ياماشيتا، الذي انتصر على الأمريكيين في الفلبين والذي عُرف بعد ذلك بـ"نمر المالايا".
سقط الحصن خلال أسبوع، ما أسفر عن استسلام الـ 80 ألف سجين، والعديد منهم لم يكتب لهم النجاة في المعسكرات اليابانية الوحشية للأسرى. ووصف ونستون تشرشل استسلام 80 ألف رجل بأنه أسوأ كارثة في التاريخ البريطاني.
ساراتوغا.. الجيش البريطاني يُهزم أمام "حفنة من الرعاع"
في عام 1777 وصف الخبراء الأوروبيّون الجيش الذي سيواجهه الجيش البريطاني العظيم في أمريكا بأنه عبارة عن "مجموعة من الرعاع"، لكنّ الجيش البريطاني هُزم رغم ذلك. ودائماً ما كانت بريطانيا تمتلك جيشاً صغيراً لمواجهة القوى الأوروبية الأخرى المنافسة، وتحتفظُ بجيشٍ أصغر لإخضاع منطقة شرق أمريكا الشمالية.
لذا، في خريف 1777، وبعيداً عن أي دعمٍ بحريّ، قاد الجنرال جون بورغوين 7 آلاف رجل من كندا إلى شمال ولاية نيويورك، حيث كان على موعدٍ مع قوةٍ أخرى تحت قيادة الجنرال ويليام هاو تتحرك شمالاً من مدينة نيويورك.
نظرياً، كان من المفترض أن يعزل ذلك وكر الثوار المزعجين للتاج البريطاني في نيو إنغلاند عن بقية المستعمرات البريطانية المتمردة.
لكنّ القوات البريطانية كانت منقسمة مثل قياداتها، وبدلاً من مساعدة بيرغوين، اختار الجنرال هاو أن يحتلّ مدينة فيلادلفيا. وقد تمكّن بيرغوين من استعادة حصن تيكونديروغا، ولكنه وجد أنه يعاني من نقصٍ كبيرٍ في الإمدادات. وبدلاً من التراجع إلى كندا، اختار أن يمضي إلى مدينة ألباني. وفي نفس الوقت، تمكّن الأمريكيون من حشد قوةٍ قوامها 15 ألف فرد مدعومة بالتعزيزات التي أرسلها الجنرال واشنطن.
استسلم الجنرال بيرغوين في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1777، حفاظاً على حياة رجاله من معركةٍ ميؤوس منها.
إيساندوانا.. القوات الإفريقية تهزم الجيش البريطاني
كانت الهزيمة أمام الثوار الأمريكيين سيئة بالطبع، ولكن على الأقل كان الأمريكيون أوروبيين أصلاً وثقافةً بشكلٍ أو بآخر. ولكن هل يمكن أن يكون سكّان إفريقيا الأصليين الذين يلوِّحون بالرماح نداً للقوات البريطانية ذات أعلى مستويات التدريب والتسليح؟
تحطّمت هذه الصورة النمطية الأوروبيّة العنصرية خلال معركة دريفت رورك، وسبقتها هزيمة إيساندوانا، عندما أباد مقاتلو قبائل الزولو 1700 فرد من القوات البريطانية في 22 يناير/كانون الثاني 1879.
غزت بريطانيا منطقة زولولاند بجنوب إفريقيا ظاهرياً بحجّة الانتقام لمقتل رعايا بريطانيين، لكن في الواقع كان الغزو البريطاني بهدف تأسيس اتحاد جنوبٍ إفريقي، الأمر الذي كان يتطلب زوال إمبراطورية الزولو الإفريقية.
ومثلما حدث في ساراتوغا في أمريكا، أدّت المناورة المتهورة للقوات البريطانية إلى وضعٍ مميت. فقد قسّم القائد البريطاني اللورد تشيلمسفورد قواته بقوام 15 ألف رجل إلى ثلاثة أقسام، وذلك لتمكين البريطانيين من محاصرة جيش الزولو.
قاد تشيلمسفورد 5 آلاف رجل للتخييم في منطقة إيساندوانا على بعد 8 كيلومترات فقط من جيش الزولو الذي لم يتمكّن مستكشفو الجيش البريطاني من رصده. ولم يكتفِ تشيلمسفورد باختيار موقعٍ سيئ، بل قسّم قواته مجدداً وأرسل معظم قواته لمطاردة ما اعتقد أنه جيش الزولو الرئيسي، تاركاً 1700 رجل فقط لحماية المخيّم.
لكن جيش الزولو الرئيسي كان يختبئ بالقرب من مخيم البريطانيين بقوام 20 ألف رجل. وعندما اكتشف كشافة الجيش البريطاني قوات جيش الزولو، هجمت جيوش الزولو ودمروا القوات البريطانية تماماً.
معركة مضيق الدنمارك.. سقوط فخر البحرية البريطانية
عندما وصلت الأنباء في مايو/أيار 1941 بأن السفينة الحربية بسمارك ستبحر من ألمانيا إلى شمال المحيط الأطلنطي، تحرّك البريطانيون بسرعة؛ فترك سفينة حربية ألمانية تجوب ممرات الشحن التي تمد البريطانيين بالطعام والأسلحة بحرية أشبه بإطلاق نمر في حظيرة دجاج.
كانت السفينة بسمارك سفينة حربية مذهلة، أحدث وأكثر تقدُّماً من معظم نظيراتها البريطانية والأمريكية في عام 1941. لكن عندما مرّت السفينة الألمانية خلال مضيق الدنمارك، كان من سوء حظ البحرية الملكية البريطانية أن تكون السفينتان اللتان اعترضتا "بسمارك" يوم 24 مايو/أيار هما السفينة الحربية "برينس أوف ويلز" والبارجة الحربية "ريبولس".
كانت سفينة "برينس أوف ويلز" حديثة التشييد حتى أنه كان بعض عمال حوض السفن على متنها لإنهاء بعض أعمال تشييد السفينة، بينما ترجع "ريبولس" إلى عام 1918، عندما كانت الحرب العالمية الأولى لا تزال محتدمة.
وبدلاً من انتظار التعزيزات، اقترب البريطانيون للاشتباك في معركة أفضل احتمالاتها التعادل على أقصى تقدير. وبعد بضع طلقات ألمانية، انفجرت البارجة البريطانية وعلى متنها أكثر من 1300 بحار.
تمكنت سفينة "برينس أوف ويلز" من إطلاق ثلاث طلقات فقط على السفينة الألمانية بسمارك، لكن تظل الحقيقة أن النتيجة النهائية هي غرق "ريبولس"، فخر البحرية الملكية البريطانية، بينما نجت سفينة "بسمارك" الألمانية بفعلتها وأبحرت بعيداً.