كان جوهر الحملات الصليبيّة هو العداء الأوروبي للمسلمين في الشرق. وباسم الصليب الذي وحّد أقطارهم ودولهم وجعلهم في كفةٍ واحدة في مواجهةِ عدوٍّ واحد هو المسلمون، كانت تُسهل عمل البابا في السيطرة على القرار في أوروبا، لذلك كان البابا هو الداعي للحملات الصليبية الجديدة.
بعد شن ثلاث حملات صليبية لاحتلال القدس، وبعدما استطاعوا فعلاً تأسيس مملكة بيت المقدس، جاء صلاح الدين وحرر القدس، فقرر البابا الجديد أنه قد حان موعد شن الحملة الصليبية الرابعة لاسترجاع القدس من أيدي المسلمين، من خلال غزو السلطنة الأيوبية ومركزها "مصر". أولاً لكسر شوكتها، ثمّ الانطلاق منها للقدس. ولكن ما حدث هذه المرة، كان مختلفاً تماماً، بل وغريباً حقاً. وسنحكيه لكم في هذا التقرير.
الحملة الصليبية الرابعة والصراع المسيحي
بعد مرور عشر سنوات على فشل الحملة الصليبية الثالثة على يد صلاح الدين الأيوبي عام 1187، والتي اشتهر قائدها ريتشارد قلب الأسد، دعا البابا إنوسنت الثالث عام 1198، إلى التجهيز لشنّ الحملة الصليبية الرابعة تحت شعار استعادة القدس للمسيحيين، وقد أرسل رسائل دعوته لملوك أوروبا، فوافقوا جميعهم، عدا الإمبراطور البيزنطي أليكسيوس الثالث – مقره القسطنطينية – لاعتبارات كثيرة، ولكنه وافق على إعطاء قوات البابا التسهيلات في أرضه القريبة من الشرق.
كانت الخطوة التالية أمام الصليبين هي تحديد وجهة الحملة، وقد انقسموا إلى فريقين؛ الأول يطالب بالتوجُّه إلى بيت المقدس مباشرة. والثاني رأى أن تكون وجهتهم مصر، على أساس أنّها الخطر الحقيقي الذي يهددهم، والتي كانت مركز الدولة الأيوبية، وأقوى الدول الإسلامية في ذلك الوقت.
كان للعامل الاقتصادي دوره في كلّ الحملات الصليبيّة تقريباً، وفي هذه الحملة كانت بعض العلاقات التجارية قد تطوّرت بين الأيوبيين عبر سواحلها وبعض المدن الإيطالية، اعتبرت الحملة أنّها يجب أن تحمي التجّار الإيطاليين في موانئ مصر ولهذا اتفقوا على الوجهة النهائيّة للحملة "مصر".
كانت مدينتا البندقيّة وجنوة الإيطاليّتان متنافستين بأسطوليهما الضخم في البحر المتوسّط، وقد تم الاتفاق على أن ينقل أسطول البندقيّة قوّات الحملة بمقابل مالي تدفعه الحملة.
حكاية مدينة البندقية.. ودوقها العجوز
عرفت تلك الفترة من تاريخ أوروبا، واحدةً من أعجب قصصها بل وواحداً من أكثر شخصيّاتها إثارةً للجدل، فكانت ممالك أوروبا وملوكها في كفّة، ودوقية البندقية بدوقها التسعينيّ الكفيف إنريكو داندولو في كفّةٍ أخرى. وهو الرجل الذي لعب الدور الأساسي في تغيير وجهة الحملة الصليبية الرابعة، ومجريات الأحداث كلها، التي غيرت في التاريخ.
كانت البندقية في تلك الفترة في أوج قوتها ومجدها وثرائها، وكان السبب في ذلك هو نشاط أسطولها الضخم في عمليات النقل التجاري بين أوروبا والمشرق العربي الإسلامي، على الرغم من توهُّج العداوة بين المسلمين وأوروبا، تحت مبدأ الكسب المادي لا يعرف ديناً، فقد عمل البنادقة في نقل المعدات الحربية للصليبين والمسلمين على حد سواء.
وكان في المدينة دار لصناعة السفن التجارية والحربية، كما كان أسطور البندقية يتنقل إلى عدة موانئ بانتظام، أحدها الإسكندرية، ومع هذه الحركة التجارية الضخمة بين البندقية والإسكندرية، سكن في الإسكندرية جالية البنادقة، الأكبر عدداً والأكثر ثراء، وكان لهم حي خاص ينزلون به، وبيوت ومصالح كثيرة هناك.
أما عن دوق البندقية إنريكو داندولو، الذي كان على رأس جهازها الحكومي، فقد كان أكثر الشخصيات دهاءً وخبرة على الرغم من كبر سنه وعمى عينيه، وقد تمتع شعبه في زمنه بحياةٍ ثريةٍ ومترفة، وحاول محاكاة القسطنطينية، في الجمال والعمارة، فضلاً عن تحالف دوقيّته مع الدولة البيزنطية.
استمرّت العلاقات الجيدة بين البندقية والبيزنطيين، إلى أن ساءت في عصر الإمبراطور ألكسيوس الثالث عام 1201، الذي انقلب على أخيه إسحاق الثاني وابنه ألكسيوس الرابع، بسبب رفضه دفع ديون بلاده للبندقية، فضلاً عن أنه وجَّه تجارته نحو جنوة، غريمة البندقية ومنافستها.
وفي العام نفسه، توجه الصليبيون لداندولو وطلبوا منه توفير السفن الحربية والمؤن للجيش، لنقلهم إلى مصر والشام، ووافق على طلبهم بشرط أن يدفعوا له 85 ألف مارك فضي، إضافة لأن يتقاسموا المكاسب التي ستحققها الحملة الصليبية.
الانحراف الأول عن الحملة الصليبية
تجمّع المقاتلون الصليبيُّون القادمون من جميع أنحاء أوروبا في البندقية عام 1202، تحت قيادة الماركيز بونيفاس أوف، وهناك طالبهم الدوق العجوز بدفع المبلغ المتفق عليه، إلا أنهم لم يستطيعوا إلا دفع جزءٍ منه، وهنا وجد الدوق أن أمامه الفرصة لاستغلال الموقف، والضغط على الصليبيين وتوجيه حملتهم لصالحه للاستيلاء على مدينة زارا على البحر المتوسط، التابعة لمملكة هنغاريا، مقابل تأجيل موعد الدفع.
وبالفعل، توجهت الحملة إلى مدينة زارا واستطاعوا احتلالها ونهبها، وبعد أن تقاسم البنادقة والصليبيون هذه المدينة، اقتتلوا فيما بينهما، وزادت خسائرهما، إلى أن وقّعوا اتفاقية سلام بين الطرفين، وعلى أثرها غضب البابا جداً، لأنّ الحملة توجهت ضد المسيحيين، فضلاً عن فقدانه لزمام الأمور، وأصدر قراره بـ"حرمان الحملة الصليبية" كلها وهي عقوبة دينية مسيحية، إلا أنه تراجع عن قراره فيما بعد.
الانحراف الثاني عن الحملة الصليبية
لم تنتهِ الأحداث المثيرة والغريبة بعد، فما حدث هذه المرة كان أكثر فظاعة، وهو بداية نهاية وانهيار الإمبراطورية البيزنطية العريقة، ولكن ليس على يد أعدائها التقليديين من المسلمين السلاجقة بل على يد الصليبيين، الذين حولوا اتجاه حملتهم إلى القسطنطينية المسيحية الأرثوذكسية بدلاً من القدس.
ولشرح الأمر أكثر، فقد لعب في القصّة عدة شخصيات محورية، وهم البنادقة وعلى رأسهم الدوق إنريكو داندولو، والأمير البيزنطي ألكسيوس الرابع، الهارب من عمه الإمبراطور ألكسيوس الثالث، وزوج شقيقته ملك ألمانيا فيليب السوابي، والماركيز بونيفيس أوف، ابن أخت السوابي، ويظهر في ذلك تداخل العلاقات وتشعبها، وبالتالي تعقُّد الموقف.
ويتّضح حسب التسلسل التاريخي للأحداث أنه لا أحد من هؤلاء الشخصيات كان معنياً بالتوجُّه إلى القدس أو محاربة المسلمين، إما لاعتبار العلاقات الاستراتيجية والاقتصادية مع المسلمين وهذا الدوق داندولو، أو لاعتبارات ومصالح سياسية أخرى تخص الدول الأوروبية التي كانت تتنازع فيما بينها، ويحاول بعضها إضعاف السلطة البابوية.
على كلٍّ، توجه ألكسيوس الرابع إلى البابا عام 1202، يطلب منه المساعدة ضد عمه الذي اغتصب ملكه، ولكن البابا نصحه بعدم استخدام القوة وحفظ الدماء، الأمر الذي جعله يتوجه إلى فيليب السوابي ملك ألمانيا، وفي طريق رحلته إلى ألمانيا، نزل في مدينة فيرونا في لمبارديا، وهناك علم بتجمُّع جيش صليبي كبير مجتمع بالبندقية في طريقه للشرق لاسترداد القدس، ففكر بالاستعانة بهم لاسترداد عرشه.
عرف عن ألكسيوس وأبيه وعمه مغتصب العرش ضعف الإدارة والفساد، وإدخال بلادهم في ديون مستمرة من أجل إقامة الحفلات والسهرات، حتى أنهم قلصوا من أعداد جيشهم لتخف عنهم أعباء الرواتب، وفضّلوا الاستعانة بالمرتزقة في حروبهم، وعرفت فترتهم اقتتالات داخلية بين مواطنيها البيزنطيين وذوي الأصل اللاتيني.
اتّفق الأمير مع الملك الألماني وبونيفيس أوف، وانضم إليهم دوق إيطاليا باستخدام الحملة الصليبية وتوجيهها إلى القسطنطينية مقابل امتيازاتٍ سيقدمها لهم، وكالمرّة السابقة اعترض البابا على ذلك، ولكنهم أخفوا هذا الاعتراض عن بقية الجيش، وأقنعوه بأنّ الدولة البيزنطية هي أفضل مكان يمكن التوجُّه منها إلى مصر والقدس، وأن الأمير ألكسيوس وعدهم بمكافأتهم.
وبالفعل، توجّه الجيش الصليبي الكبير إلى بيزنطة، وحاصر القسطنطينية التي سقطت بسهولة بعد أن استطاع الصليبيون تجاوز حامية برج غالاتا، فبدأوا بعدها هجومهم مع الأسطول مستخدمين أسلحة الحصار والسلالم المتدرجة، وحاول الإمبراطور ألكسيوس الثالث الفرار، إلا أنه وقع في الأسر، وتم نفيه إلى آسيا الصغرى، ثم أُسر في دير هايكينثوس في نيقية، حيث توفي.
ومباشرة تولى الأمير ألكسيوس الرابع حكم البلاد بمشاركة أبيه عام 1203، ولكنهم لم يستطيعوا فرض سيطرتهم على شعبهم الذي غضب من التدخل الأوروبي الأجنبي، فعادت حالة الاقتتال ما بين الأوروبيين والبيزنطيين، وقام مجهولون بإشعال الحرائق في القسطنطينية، التي تكبدت خسائر في الأرواح والبيوت والكنائس، ولم يستطِع الإمبراطور إدارة الأزمة، بل فاقم من حدتها.
وفي هذه الأثناء، ذهب دوق البندقية إلى الإمبراطور الشاب لمطالبته بوعوده له وللصليبيين، ولكنه تنصل منها، فحرّض دوق البندقية الجيش الصليبي على احتلال القسطنطينية، مع مراعاة تقسيم غنائم البلاد وحكمها بين البنادقة والصليبيين، وقُتل ألكسيوس الرابع وتوفي والده حسرة عليه.
دخل الصليبيون المدينة عام 1204، وعاثوا فيها الفساد، وبدأت الفوضى، فاغتصبوا وقتلوا المدنيين، ودمروا وأشعلوا المباني والكنائس ودنسوها، ونهبوا ممتلكات الناس، ويقول ستيفن رنسيمان أحد أشهر مؤرخي الحروب الصليبية تحت عنوان "نهب القسطنطينية سنة 1204":
ليس لنهب القسطنطينية مثيلٌ في التاريخ، لقد اندفعوا كالرعاع المسعورة يجوبون الشوارع.. ولم يفرقوا بين القصور والأكواخ فيما تعرضت له من الهجوم والتدمير، وأخذ الجرحى من النساء والأطفال يلفظون أنفاسهم في الشوارع، وظلت مناظر النهب وسفك الدماء المريعة مستمرة ثلاثة أيام حتى أضحت المدينة الضخمة الجميلة شبيهة بسوق اللحوم، إن المسلمين لأكثر منهم رحمة.
نتائج الحملة الصليبية الرابعة.. كارثة بيزنطيّة
بعد غزو القسطنطينية قُسمت الإمبراطورية البيزنطية، وحصل البنادقة بعد ذلك على ثلاثة أثمان الإمبراطورية المتمثلة في الجزر الأيونيّة وكريت وإيوبوا وأندروس وناكسوس وبضع نقاط استراتيجية على ساحل بحر مرمرة، وتوفي دوق البنادقة في القسطنطينية عام 1205، بعد أن دمرها.
استمرت الحروب بين البيزنطيين المنفيين والصليبيين حتى استطاع البيزنطيون استرداد القسطنطينية، وإعادة تشكيل الإمبراطورية البيزنطية عام 1261، إلا أنها لم تعُد كما كانت أبداً.
وقد كان أبرز ما نتج عن الحملة الصليبية الرابعة هو تعزيز الانشقاق الكبير بين الشرق المسيحي والغرب المسيحي، وأحدثت صدعاً لا جبر له بينهما، وساهمت في بداية اضمحلال الإمبراطورية البيزنطية، وقد مهدت السبيل أمام غزوات المسلمين الفاتحين للأناضول والبلقان في القرون اللاحقة.
فيما نتج عن هذه الحملة الفاشلة أيضاً "حملة الأطفال الصليبية" عام 1212، التي تحدثنا عنها في التقرير السابق، بعد أن عمّ الإحباط والشعور بالخيبة أجواء أوروبا، عقب فشل الحملة الصليبية الرابعة، التي كانت بمثابة ردة الفعل الشعبية لفشل البابوية وحكام أوروبا جميعهم في أخذ مدينة القدس، مرة أخرى بعدما حررها صلاح الدين.