لا تعرف مريم ضياء كم يبلغ عمرها بالتحديد؛ غير أنَّ عينيها المتعبتان تحكيان قصة أهوال يشيب لها الولدان، إنها واحدة من ضحايا الصراع بين العرب والأفارقة في موريتانيا.
من عينيها المتعبتين تطل وجوه رجال الشرطة الذين أخرجوها من منزلها، والنظرات البائسة في عيون صغارها عند إجبارهم على عبور النهر بالقارب؛ هاتان العينان ذرفتا الدمع على الإخوة والأخوات الذين أجبرت على فراقهم في موريتانيا.
تجلس مريم مربعة قدميها ومنحنية الظهر، وتستخدم حجابها الأحمر لإبعاد الغبار عن عينيها وهي تتحدث، لموقع Middle East Eye البريطاني.
تقول مريم: "داهمتنا الشرطة في منزلنا وكبَّلت أيادينا وضربت زوجي. لم يسمحوا لنا بأخذ أي شيء معنا، حتى ملابسنا. وتركنا مواشينا خلفنا ورحلنا".
"لقد أجبرونا على عبور النهر إلى السنغال دون أن يكون معنا أي شيء".
قصة الرحيل الذي بدأ قبل 30 عاماً
قبل ثلاثين عاماً، أجبرت مريم وعشرات الآلاف من الموريتانيين ذوي البشرة السمراء على مغادرة البلاد، فيما يطلق عليه الناجون "الإبادة الجماعية".
يعيش أكثر من 14000 شخص اليوم في سلسلة من مخيمات اللاجئين المتسخة قرب نهر السنغال الذي يفصل بين موريتانيا والسنغال، على بُعد كيلومترات قليلة من منازلهم السابقة. ويعيش ما يقرب من 14000 شخص آخر في مالي.
بدأت موريتانيا بعد الاستقلال بفترة وجيزة تطبيق سياسات "تعريب" عنيفة، هدفها تأمين تفوق نخبة محدودة من العرب-البربر على حساب السكان ذوي البشرة السمراء الذين يشكلون الأغلبية، وقد طرد العديد منهم في حملات طرد جماعي عام 1989، حسبما ورد في التقرير.
أثناء هذه الحملات الجماعية في منطقة الوادي الغزير الممتد على طول نهر السنغال، وفيه توجد واحة وارفة وسط صحراء البلاد القاحلة، قامت قوات الأمن بطرد سكان المئات من القرى وأحرقتها عن بكرة أبيها، وأخرجت رعاة الماشية الفقراء المنتمين إلى شعب الفولاني من أرضهم ووضعتهم في جوف الليل داخل قوارب عبرت بهم إلى الضفة الأخرى من النهر.
ويتم إحياء ذكرى هذه الحملة يوم 28 من نوفمبر/تشرين الثاني، وهو اليوم الذي يمثل أيضاً ذكرى استقلال موريتانيا عن فرنسا.
لقد سكن شعب الفولاني على جانبي النهر
لدى شعب الفولاني روابط عتيقة على ضفتي النهر، وعملت هذه الروابط على مر العصور كوسيلة للتواصل بين المجتمعات التي عاشت على الضفتين، وإن كانت قد شكلت حاجزاً بينها في بعض الأوقات.
اليوم، وبعد ثلاثين عاماً على المحنة، يسترجع أفراد المجتمع الواقع في مخيم تياباخ للاجئين -في بلدة ريتشارد تول المطلة على النهر- معاناتهم ويعبرون عن آمالهم، وهم جلوس لا تظلهم إلا خيمة مصنوعة من فروع معقوفة وأوراق أشجار جافة.
دخلت ثلاث من النساء في نوبة من الضحك على محاولة زائرهم الحديث بلغتهم، في حين مرر الرجال صينية معدنية عليها أكواب صغيرة ممتلئة إلى النصف بالشاي الذي تعلوه رغوة. يهيم قطيع من الماعز الأبيض في الآفاق بحثاً عن الطعام، وتنطلق عربة يجرها حمار تحمل أوعية كبيرة للماء مخلفةً ورائها سحابة من الدخان.
حين سأل كاتب التقرير مريم عما إذا كان من الممكن أن تعبر النهر للعودة إلى وطنها في موريتانيا، حكت أذنها وتصلبت ملامح وجهها.
وقالت: "أبداً! ولا أريد سماع أي شيء عن هذا. أبداً!"
ونظراً لخوف من العودة إلى وطنهم، باتوا يعانون اليوم لإبقاء هويتهم على قيد الحياة، رافضين قبول الجنسية السنغالية والاندماج في المجتمع؛ لأنهم يعتبرون أنفسهم السكان الأصليين لموريتانيا، الدولة التي تحاول محو سكانها ذوي البشرة السمراء من الوجود.
غير أن أبناء شعب الفولاني يعيشون حالة من الضياع، في ظل انعدام قدرتهم على السفر أو العمل أو الحصول على رعاية طبية.
وهو ما كان له أثرٌ بالغ على حياة مريم، ذلك أننا لاحظنا أن عينيها تنحرفان أثناء الحديث؛ ولم نلبث أن أدركنا أنها لم تعد تستطيع الإبصار.
فقد أصبحت كفيفة.
أثناء طفولة مريم، كان النهر يمر من خلال بلدتها روسو، كما لو كان مجرد شارع داخل البلد. اعتاد الصيادون أن يمروا كيفما شاؤوا في قواربهم الملونة وكان بوسع رعاة الفولاني التحرك بحرية ذهاباً وإياباً بحيث تتمكن قطعانهم من الرعي في المرعى الوفير الذي يمتد على جانبي الوادي.
بذور الصراع بين العرب والأفارقة في موريتانيا
وفي منتصف القرن العشرين، في خريف الاستعمار الفرنسي، لم يكن من المهم ما إذا كنت تعيش على الضفة اليمنى أو اليسرى للنهر، ذلك لأن الناس كانت تتحدث اللغات نفسها، وتأكل الطعام نفسه، بل وأحياناً كانت تربطهم صلة قرابة ببعضهم البعض.
غير أن الأمور لم تسر على هذا المنوال فقط. ذلك لأن الوادي الخصب كان يمثل متنفساً من قسوة الصحراء، وبالتالي كان على مر التاريخ ملتقى العرب والبربر والأفارقة ذوي البشرة السمراء.
وقد رسخت الممالك الإفريقية الكبيرة مثل تكرور ووالو، التي امتدت على ضفتي النهر، سمعة النهر بأنه "نهر الذهب" كما وصفه جغرافيو العرب في العصور الوسطى، واتسم بأن له بريقاً عجز المستكشفون وتجار البضائع، ولاحقاً تجار العبيد، الأوربيون عن مقاومته.
والعرب البربر، أو البيضان، هم أحفاد البربر المحليون الذين تغلب عليهم تعاقب القبائل العربية التي وصلت على ظهور الجمال قادمة من شبه الجزيرة العربية. ومن بين تلك القبائل، قبيلة بني حسان، التي تسمت باسمها إحدى لهجات اللغة العربية، وهي اللهجة الحسانية.
يقول عبدالرحمن نجيد، المؤرخ في جامعة الشيخ أنتا في داكار بالسنغال: "كانت موريتانيا صحراء في معظمها وبالتالي قصد المهاجرون النهر ليستقروا على ضفته".
وبحلول القرن السابع عشر، تمكنت سلسلة من إمارات العرب-البربر من السيطرة على الضفة اليمنى للنهر، ودفعوا ممالك الأفارقة السود المنتمية إلى شعبي الولوف والفولاني، اللذين لا يزالان يهيمنان على الوادي، إلى الضفة الأخرى منه.
الزيجة التي حققت السلام بين العرب والأفارقة
كانت العلاقات بين مجتمعات الأنهار مختلطة. وكان من المعروف أن المغيرين من العرب البربر كانوا يجتاحون الضفة اليسرى للنهر قادمين من الضفة اليمنى، ويصطحبون في طريقة عودتهم النساء والرجال الشباب والأطفال إلى داخل الصحراء ليستخدموهم كعبيد. ولا يزال شبح هذه التركة من العبودية يلاحق موريتانيا إلى يومنا هذا.
في الوقت نفسه، كان لا يزال من المسموح لرعاة الماشية من شعب الفولاني بعبور النهر بحرية بحثاً عن مرعى خصيب وللتجارة مع المزارعين والصيادين بما ضمن درجة من التعايش.
لاح السلام والأمن في الأفق لفترة وجيزة في صورة الزواج الذي تم عام 1825 بين محمد الحبيب، زعيم إمارة الترارزة، ووريثة مملكة والو، على الجهة المقابلة من النهر.
ثم جاء الاستعمار الفرنسي
غير أن مملكة والو كانت في الواقع محمية فرنسية، وبعد أن عبرت القوات الفرنسية النهر لسحق إمارة الترارزة واصلت مسيرها لتهزم ما تبقى من قبائل العرب- البربر على مدار القرن وسط مقاومة شرسة.
وفي حين كان للاستعمار الفرنسي تأثير تمثل في فتح النهر مرةً أخرى؛ بما سمح للتجار ورجال الدين من العرب – البربر التوجه نحو الجنوب وسمح للأفارقة ذوي البشرة السمراء الاستقرار في الشمال، فإنه أيضاً أحدث توترات فيما بينهم.
إن فرض القوانين الفرنسية والإدارة الاستعمارية، التي شغل معظم المناصب فيها أفارقة من ذوي البشرة السمراء ممن تلقوا تعليمهم باللغة الفرنسية وتشبعوا بالثقافة الفرنسية، ونشر تلك الثقافة في أرجاء موريتانيا، بدأ في تبديل ديناميكيات السلطة بين المجتمعات، مما أدى إلى شعور عميق بالنقمة وسط السكان العرب – البربر.
وبالتالي واجهت موريتانيا أزمة هوية بحلول موعد استقلالها سنة 1960. ذلك لأن الأفارقة ذوي البشرة السمراء نظروا إلى مستقبل البلاد باعتباره ستكون دولة تعددية تتكون من اتحاد العرب البربر مع الأمم الفرانكوفونية السمراء المجاورة في مالي والسنغال.
غير أن العديد من العرب البربر شجعوا الاتحاد مع المغرب، رغبة منهم في التأكيد حصراً على الشخصية العربية للبلاد.
واستقلت البلاد في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1960، في ظل حكم الرئيس مختار ولد داداه، العربي البربري، الذي سرعان ما أسس لحكم الحزب الواحد وجعل العربية اللغة الرسمية للبلاد.
وتأثرت بلدة روسو الواقعة على ضفاف النهر -والتي عاشت فيها مريم- أيضاً بأحداث عام 1960، وباتت اليوم منقسمة إلى نصفين.
وأصبح السكان الذين يعيشون على الضفة اليسرى للنهر مواطنين للسنغال، وتسموا باسم النهر. أما من يعيشون على الضفة اليمنى، وبينهم مريم؛ فأصبحوا موريتانيين.
كان من الممكن للحياة أن تستمر كما كانت، غير أن نهر السنغال، الذي كان مصدر رزق المجتمعات التي تعيش على ضفتيه، بات بعد سنوات عند تصاعد التوتر، بمثابة حد السيف الذي فرق شمل العائلات ومزق الأرض المشتركة.
تعرض للتعذيب على يد زميله
يجلس الشرطي السابق عبدالله ديوب، متكئاً على وسادة حمراء أسفل خيمة خشبية، ويتحدث إلينا متأملاً.
بدأت الشمس في المغيب، ومعها بدأت النسوة اللائي يضعن وشوماً توافق تقاليد شعب الفولاني ويرتدين فساتين بألوان ونقوش خلابة، في تغطية الأرض إلى جوار الخيمة بسجاد ضخم لحمايتنا من نسيب الليل الذي بدأ يضرب المكان.
أخرج الأطفال كرة قدم وبدأوا في اللعب مخلفين وراءهم آثاراً عميقة في الرمال.
ديوب هو الآخر كفيف كمريم. لم تعد عيناه كما كانتا أبداً بعد أن اعتقله زميله في الشرطة وعذبه، إذ كان يضع التبغ في عينيه، وذلك ضمن عملية تطهير لجهاز الشرطة من العاملين من ذوي البشرة السمراء. ولم يلبث أن أجبر بعد ذلك على الفرار.
ولد ديوب في ديسمبر/كانون الأول، أي في الشهر الذي تلى استقلال موريتانيا عن فرنسا، في العاصمة الموريتانية نواكشوط، وترقى ليصبح مأمور قسم شرطة في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، وهي المرحلة التي كانت العنصرية فيها قد تحولت إلى وباء.
الكل يتعصب لعرقه حتى رجال الشرطة
يقول: "حتى في الشرطة كان هناك فصل بين البيض والسود، وكان الأمر كذلك منذ أيام كلية الشرطة".
وأضاف: "في عمليات الشرطة، إذا ألقينا القبض على أشخاص سود، كانوا يتعرضون للضرب وسوء المعاملة، في حين لم يكن البيض يعاملون كذلك.
"لهذا حين كنا نشاهد أشخاصاً سوداً أثناء تلك العمليات، اعتدنا أن نطلب منهم الهرب قبل الإمساك بهم".
ولكن يوماً ما انقلبت الأمور عليه. يحكي ديوب ما حدث بهدوء ويقول: "ذات يوم كنت مدعواً على العشاء وتركت مساعدي في قسم الشرطة. حين عدتُ وجدت الحبس ممتلئاً بالسود فقط".
انتقلت من زنزانة إلى أخرى لأسأل من بداخل لماذا هم في الحبس. شهدني أحد زملائي وأبلغ عني رؤساءه".
وأضاف ديوب: "قال كل ما سمعه من حديثي مع المسجونين".
"ثم اعتقلوني".
تطهير المناصب من ذوي البشرة السمراء
كان التطهير التدريجي للمناصب الرسمية من المسؤولين ذوي البشرة السمراء قد بدأ إبان الاستقلال، غير أنه بلغ أوجه إبان الثمانينيات من القرن العشرين تحت الحكم العسكري لمعاوية ولد سيدي أحمد طايع، الرئيس القومي العربي الذي كانت تجمعه روابط قوية بصدام حسين.
شهدت الفترة ذاتها صعود قوات التحرير الإفريقية لموريتانيا (FLAM)، وهي تنظيم لمليشيا من السود، نشرت عام 1986 "بيان الزنجي الموريتاني المضطهد"، متعهدة بتدمير "نظام الفصل العنصري" المتبع في البلاد.
وأشار البيان إلى تفشي التمييز والتخلص مجتمعات السود في كافة مناحي الحياة في موريتانيا، بدءاً من أجهزة الدولة والقوات المسلحة والمدارس والزعامات الدينية، وصولاً إلى مواقف السياسات الخارجية للدولة. بل وذهب البيان إلى أبعد من ذلك حين قال إن السود وجدوا العدل المنشود في حكم الفرنسيين الاستعماري الذي كان أكثر قبولاً للاختلاف والتنوع.
وذكر البيان: "مجتمع السود ملتزم بشكل لا رجعة فيها باستعادة حريته وكرامته، وذلك ليختار بحرية الثقافة وأسلوب الحياة الملائمين للحضارة الإفريقية للسود"، وبعدها أطلق البيان تحذيراً مفاده أنه إذا استمرت الحكومة في سياساتها التمييزية، "فإن هذا سيؤدي في نهاية المطاف إلى الفوضى والحرب الأهلية".
بدأت الحكومة حملة ضد الميليشيا المسلحة مستخدمة مجموعة من الإجراءات القاسية التي شملت الاعتقالات الجماعية والحبس والتعذيب.
وقد منح إعدام ثلاثة ضباط في الجيش ينتمون إلى شعب الفولاني عقب محاولة انقلاب فاشلة في العام التالي السلطات ما كانت تحتاجه من مبرر لتصوير الأفارقة السود في المجمل، وشعب الفولاني، على وجه التحديد، باعتبارهم أعداء للدولة، حسب تقرير الموقع البريطاني.
السلاح الإفريقي يشهر في وجه الدولة
غير أن ميليشيا قوات التحرير الإفريقية كانت قد ظهرت لتواجه سياسات التعريب التي لم تكتف بتمييز العرب البربر على حساب الأفارقة السود، الذين يتحدثون في الأغلب اللغة الفرنسية إلى جانب لغاتهم المحلية، وإنما حاولت أيضاً تحويل الهوية الجوهرية للدولة بأكملها.
ويقول المؤرخ عبدالرحمن نجيد: "كانت هناك جهود مستمرة لتغيير الوجه الديمغرافي للبلاد. كانت السلطات تحاول خلق نخبة من العرب لتحل محل النخبة الناطقة بالفرنسية"، ويذكر أن والد عبدالرحمن شغل منصب نائب عمدة في مدينة نواذيبو شمالي البلاد.
وقال نجيد: "لأن هذه الفئة من الموريتانيين كانت تعرف الفرنسية، كان ينظر إليها بأنها امتداد للاستعمار. وبحلول بدايات السبعينيات، لم يكن هناك أي حاكم أسود تقريباً في موريتانيا".
الفولاني يعتزون بالإسلام
شعر العديد من أبناء شعب الفولاني، الذي تمتد جذورهم في التراث الإسلامي إلى ألف سنة مضت، بمرارة شديدة من ربط الإسلام بالعروبة.
وفي هذا الصدد، أخبرنا اللاجئ مصطفى تور: "أجدادنا تعلموا القرآن باللغة العربية، ولكن الأمر مختلف. نحن مسلمون، وهذا لا يعني أننا عرب، ولكنهم في موريتانيا يستخدمون اللغة العربية للتسيد علينا"، حسب قوله.
ومع حلول بداية الثمانينيات، طُرد عمال البريد والاتصالات السود من وظائفهم، بعد أن كانوا آخر مظهر للعمال السود في البلاد.
وبدأت موريتانيا في هذا التوقيت أيضاً تصدير صورة عن نفسها تقتصر على العرب، داخلياً وخارجياً، وانعكست على كل شيء في البلاد بدءاً من العملات الورقية ومروراً بطوابع البريد وانتهاءً بالكتيبات السياحية الترويجية. وانضمت إلى جامعة الدول العربية عام 1973.
هل العرب أغلبية في موريتانيا؟ .. عنصرية إفريقية
غير أن هذا غطى على حقيقة ديمغرافية مزعجة مفادها أن العرب البربر كانوا أقلية في الأساس. إذ يشكلون 30% من السكان اليوم، وكذلك الأفارقة السود.
يحدث التوازن بفضل سلالة الحراطين، وهي السلالة الفقيرة للعبيد الأفارقة السود الذين كانوا مملوكين ذات يوم للسكان العرب البربر. وتقع هذه السلالة في قاع الهرم الاجتماعي والاقتصادي للبلاد رغم عددها الكبير، حسب التقرير.
وأبناء هذه السلالة من ذوي البشرة السمراء، غير أنهم يتحدثون العربية أيضاً ويندمجون داخل المنظومة القبلية للعرب البربر، مع تحمل التمييز العنصري ضد السود. لذا فإن لهم مكانة مميزة في المنتصف، بين قبضة أسيادهم وإمكانية تعاطف السود وتضامنهم معهم.
ويرفض العديد من السود مزاعم العرب البربر بأنهم يمثلون 70% من سكان البلاد، محتجين بأن السود نفسهم إذا ما جمع عليهم سلالة الحراطين سيمثلون الرقم نفسه.
ولا يلفت تقرير الموقع البريطاني إلى أن هذه محاولة واضحة للتصنيف على أساس عنصري، وينسى أن العروبة مفهوم ثقافي وليس إثنياً فقط، وأن محاولة إدانة قرار الحراطين اعتبار أنفسهم عرباً هو في حد ذاته عنصرية من قبل الأفارقة.
وفي حين ألغي نظام العبودية رسمياً عام 1981، فأن هناك ما يقدر بـ 90000 من العبيد الحراطين.
التعلم على يد البعث
ولترسيخ الهوية القومية العربية للدولة، أرسل زعماؤها القوميون في السبعينيات والستينيات الطلاب لتلقي التدريب العسكري والأيديولوجي في سوريا والعراق، تحت حكم حافظ الأسد وصدام حسين.
كان كلاهما حاكماً شمولياً فظاً، وكانا يعتنقان الأيدلوجيا البعثية، التي تدين بالقومية العربية، وتديران حكومات تتكون من الأقلية اعتادت على إجراء عمليات تطهير دورية للمجموعات العرقية أو الحركات السياسية يفوق عددها في بعض الأحيان قوام القاعدة الشعبية الخاصة بهما.
قال نجيد: "عاد الطلاب وقد ترسخت لديهم عقيدة القومية العربية. وحدث تصادم بين القومية السوداء والقومية العربية".
انتزاع الأرض
يضفي القمر المكتمل وميضاً خاصاً على المخيم في حين تبسط النسوة سجاجيد منسوجة كبيرة، استعداداً للصلاة.
يجلس حميد ضيا رافعاً إحدى قدميه ومرتدياً قفطاناً رمادياً مطرزاً من الرقبة وقبعة كوفية بيضاء. تمنحك رؤيته شعوراً بالوقار والمهابة، والجدية في آن واحد.
خسر الكثير في حياته، ولكن باعتباره رئيساً لأكثر من 24 مخيماً للاجئين يحضن أكثر من 4000 شخص في هذه المنطقة من السنغال، تقع على عاتقه مسؤولية كبيرة.
يذكر وهو في قريته، على بُعد ستة كيلومترات من روسو، أنه كان يشاهد مد بصره قطعان الماشية تأتي من الشرق، تعقبها قطعان الماعز والخراف. كانت هذه القطعان تتحرك بتوجيه من الحراطين، يعقبهم ضباط شرطة من العرب-البربر. كانت الأرض التي كدح أجداده فيها تسحب من تحت قدميه، ولم يكن ثمة ما يمكنه أن يفعله حيال ذلك.
في عام 1989، نشب نزاع بين رعاة موريتانيين ومزارعين سنغاليين في بلدة دياوارا على جزيرة في نهر السنغال، وقد أسفر هذا النزاع عن مقتل اثنين سنغاليين. كادت الأحداث أن تدفع البلدين إلى شفا حفرة من الحرب وقدمت ذريعة للسلطات لكي تطرد ضيا من أرضه.
كان التوتر يتأجج تحت الرماد لسنوات بين المجتمعات الساكنة على النهر، بعد أن حددت الحكومة سياسة لإصلاح الأراضي، بدأت في نزع ملكيتها من الرعاة الذين كان العديد منهم من شعب الفولاني. يستحضر ضيا هذه الأحداث ويقول: "كانت أشياء رهيبة تحدث وكنت أتوقع نشوب معركة في أي وقت".
وبعد جفاف كارثي ضرب البلاد خلال سبعينيات القرن العشرين وحرب باهظة التكلفة نشبت في غرب الصحراء الكبرى انتهت بهزيمة مهينة على يد جبهة البوليساريو عام 1979، تحولت الحكومة الموريتانية إلى الاهتمام العميق باستغلال وادي نهر السنغال.
وحيث إن 90% من أراضي البلاد كانت قد تحولت بالفعل إلى صحراء، فإن الأراضي الزراعية على ضفتي النهر كان ينظر إليها باعتبارها سلعة ذات أهمية خاصة. ومن ملك المزارع وتحكم فيها، آلت إليها السيطرة على إمدادات الغذاء.
وضعت خطط لمخططات الري والسدود وإصلاح الأراضي.
وفي عام 1983، أممت الحكومة كل الأراضي في البلاد، لتمزق بين ليلة وضحاها كل المنظومة القديمة لملكية الأراضي؛ والأعراف المتفق عليها التي حكمت الطرق التي تعايشت بها كافة المجتمعات الموجودة على ضفتي النهر وسيطرت على استخدام الأراضي.
ونص القانون على أن كافة ملاك الأراضي عليهم إظهار ما يثبت ملكيتهم لها. وكان القانون بالأساس يستهدف أراضي الوادي، وهي المنطقة التي هيمن عليها المزارعون السود.
يقول نجيد: "معظم السود لم يكونوا يملكون أوراقاً تثبت ملكيتهم للأرض. ذلك لأن منظومة حيازة الأراضي كانت نظاماً قديماً يُطبق منذ فترة ما قبل الاستعمار".
وأضاف: "أدرك السود أن هذا الإصلاح يأخذ الأرض منهم. وبدا وكأنه ضربٌ من الاستعمار".
"وجمع القانون بين طياته العنصرية والمصالح الاقتصادية في نفس الوقت".
وبدأت حالة من الرخاء بعد سيطرة المضاربين من العرب البربر والنخب الحكومية على الأرض. وكل من قاوم سطوتهم قوبل بالبنادق والقنابل، وبالترحيل في نهاية المطاف.
لم تزد عمليات السيطرة على الأرض السكان السود إلا تربصاً. ويلفت بيان الموريتاني الزنجي عام 1986، إلى ما يلي: "يريدون أن يقطعوا كافة الروابط بين سكان الضفتين رغم أنهم من نفس العائلات؛ الولوف في الوادي الأدنى، والفولاني والسننكي في الوادي الأوسط، والسننكي في السنغال العليا".
أعمال الشغب وفظائع بحق الموريتانيين في السنغال تصل إلى تبادل القصف بين البلدين
اندلعت في أبريل/نيسان من عام 1989، أعمال شغب في أرجاء السنغال، وتعرضت المتاجر التي يملكها التجار الموريتانيون، الذين هيمنوا على تجارة التجزئة آنذاك، لأعمال السلب والنهب.
وقد ذكر الصحفي البريطاني مارك دويلي في أحد تقاريره: "كان على البوليس السنغالي أن يدخل الموريتانيين في حمايته لإيقاف القرى الغاضبة عن مهاجمتهم. وبدت عمليات السلب والنهب المنظمة ضد المتاجر المملوكة للموريتانيين وكأنها رياضة قومية".
ورداً على ذلك، أغارت عصابات من الحراطين الغاضبين على الأحياء الإفريقية السوداء في العاصمة الموريتانية نواكشوط، وقامت بارتكاب أعمال فظيعة. وبدلاً من أن تعمل السلطات الموريتانية على كبح غضبهم القاتل، كانت تدفعهم إلى الاستمرار، حسب تقرير الموقع البريطاني.
اشتبك جيشا البلدين عبر النهر، مع وصول شحنة من العراق تحمل قذائف مدفعية وقاذفات صواريخ مصحوبة بمستشارين عسكريين إلى موريتانيا تحسباً لاندلاع حرب كاملة الأركان.
اتفقت الجارتان على إنشاء جسر جوي لترحيل مواطني كلا البلدين؛ ولكن السلطات الموريتانية استغلت الفرصة لتنفذ عملية طرد ممنهجة للسكان الأفارقة السود.
وجاء هذا التصرف انطلاقاً من الفكرة التي تقضي بأن الأفارقة السود ليسوا موريتانيين وإنما هم في واقع الأمر سنغاليون.
وقد بدا في حديث بلال ولد ورزغ، الأمين العام للسفارة الموريتانية في داكار، لصحيفة New York Times الأمريكية، أنه يلمح إلى الأمر نفسه حين قال: "لا تهم بطاقة الهوية أو جواز السفر الذي تحمله، ما يهم هو من أين أتيت".
والآن، ورغم روابطهم القديمة بموريتانيا واندماجهم في مجتمعات سكان وادي النهر، لم يعد الأفارقة السود محل ترحاب في موريتانيا.
وكان عبدالله ديوب من أوائل من غادروا البلاد.
بعد اعتقال ديوب، أودع السجن، إلا أنه تمكن من الفرار من سجانيه الحراطين.
تم الإمساك به مرةً أخرى، وأودع سجناً مع غيره من رجال الشرطة السود الذين جرى الإمساك بهم من أرجاء العاصمة نواكشوط، ووضعت عليهم حراسة من الحرس الرئاسي.
وحين سألناه عن الطريقة التي تمت معاملته بها، ثنى سرواله ليكشف لنا عن آثار التعذيب على فخذيه حيث طعنته قوات الأمن، وقد فقد قطعة من لحمه عند النقطة التي تربط قدمه بجذعه.
تصاعدت أنفاسه وهو يعيش التجربة من جديد، وعند سؤاله مرة أخرى عما لاقاه أثناء التجربة، هز رأسه. ولم يستطع الكلام وبدا عليه أنه يكتم عواطف جياشة.
وبعد أيام قليلة في أبريل/نيسان 1989، غادر ديوب البلاد على متن طائرة كان من المقرر أن تسلم السنغاليين إلى حكومتهم. وكانت الطائرة ممتلئة بموريتانيين سود على شاكلته.
اصطياد "السنغاليين"
يذكر عبدالله سو وهو يجلس في منزله بنواكشوط كيف أنه شاهد من نافذة منزلة مجموعة من الرجال يطرقون الأبواب بحثاً عن "السنغاليين"، ويحملون في أيديهم عصيّاً وشاكوشاً وبنادق، وكل ما يمكن استخدامه كسلاح.
يقول: "لو كان لك منزلٌ جميل؛ فسيقتحمونه ويقتلون من فيه، حتى ولو كنت موريتانياً".
وشهد سو، الذي كان آنذاك في الثالثة عشرة من عمره شيئاً أكثر فظاعة.
يقول: "أذكر أنني ذات يوم كنت في الطابق الأول من منزلي ورأيت شاحنة محملة بالجثث في الخارج. كانت هذه أول مرة في حياتي أرى فيها عملاً فظيعاً كهذا". وقد أصبح سو اليوم عضواً في الجالية الموريتانية في المنفى في مدينة سينسيناتي بالولايات المتحدة الأمريكية.
وقد أرسلته أسرته هو وعائلته عبر النهر خوفاً على سلامته. وكان الليل قد حل بالفعل حين صعدوا إلى القارب.
"أخبرني مالك القارب أن أرقد على الأرض؛ وحين سألته لماذا، قال لي إنني إن لم أفعل ذلك فسوف يطلقون عليّ النار إذا رأوني أعبر النهر".
وضعت السلطات الموريتانية قوائم تستهدف القيادات المدنية والقيادات المحتملة لمجتمع السود. ووضع مفكرون وموظفو حكومة ورجال أعمال ومهنيون وطلاب في شاحنات مكتظة واقتيدوا عبر النهر وأجبروا على العبور بالقوارب.
ورغم أن مصير الأفارقة السود الذين كانوا يعيشون في وادي النهر قد بتَّ فيه بالفعل، لم يكن ضيا يتوقع ما حدث له، حتى عندما وصلت الشرطة في 12 سيارة وأغارت على منزله وأخلته من كل ما يمكن أن يستخدم كسلاح، بما في ذلك الرماح والسيوف الصغيرة والمجارف، قبل أن تغادر.
وعصر يوم آخر بعد شهرين، عادت الشرطة إلى قريته وبدأت إلقاء القبض على الناس. وأثناء المساء، ومع دخول الظلام، واصلت الشرطة إخراج الناس من منازلهم، واستهدفت شعب الفولاني في المقام الأول، قبل أن تنتقل إلى ثلاث قرى مجاورة وتواصل حملتها.
وضع ضيا و23 فرداً من عائلته في قارب، دون أن يعلموا وجهتهم، ليصلوا إلى شاطئ السنغال بحلول الصباح، منهكين وجائعين، ودون أن يكون في حوزتهم أي من ممتلكاتهم.
وعن هذه التجربة يقول ضيا: "لم تكن لدينا أدنى فكرة عما يمكن أن يفعلوه بنا حتى عبرنا النهر، ثم أدركنا أن الخطة كانت إخراجنا من موريتانيا. ظننا أنهم سيقتلوننا، ذلك لأننا سبق وأن شاهدنا أمراً كهذا من قبل".
أحرقت قرى بأكملها أو تعرضت للتدمير على يد الجيش. وفي المناطق الموريتانية الأربع المحاذية لنهر السنغال، تعرضت 236 قرية إما للتدمير أو لفرار أهلها منها.
8 % من السكان الأفارقة نزحوا من البلاد
أوردت منظمة Human Rights Watch تقارير مفادها أن أكثر من 50000 شخصاً قد نزحوا بحلول عام 1989، وهو ما يصل إلى 8% من السكان الأفارقة السود في البلاد، وهي نسبة تكفي لإحداث تحول جذري في السياسة العرقية للبلاد.
استمرت أعمال العنف والتمييز حتى دخول التسعينيات من القرن العشرين. وفي الفترة ما بين 1990 و 1991، تم إعدام ما يصل إلى 600 من المساجين السياسيين ذوي البشرة السمراء أو تعريضهم للتعذيب حتى الموت على يد القوات الحكومية.
ويشمل هذا العدد إعدام 28 من ضباط الجيش في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1990؛ أي في يوم عيد استقلال موريتانيا، وهو التاريخ الذي يستخدمه اللاجئون لإحياء ذكرى أحداث عام 1989، وما تلا ذلك من أعمال العنف والتمييز العنصريين.
والحراطون حلوا محل الأفارقة المطرودين
وكان دور الحراطين ليعيدوا ملء القرى المهجورة ويستولوا على الغنائم من قطعان الماشية والممتلكات التي خلفها من فروا من الشرطة، وقد حصلوا على حصتهم من الغنائم نظير قيامهم بكافة الأعمال القذرة نيابة عن الدولة؛ وشملت هذه الأعمال الاغتصاب والتعذيب والسرقة.
وقد أمنت هذه المكاسب التي أحرزوها ولاءهم لأسيادهم منذ زمن طويل من العرب البربر لسنين قادمة، في حين زرعت الفتنة بين مجتمعي الموريتانيين السود.
يقول نجيد: "هجروا قرى كاملة وأسكنوا الحراطين مكان أهلها".
وواصل: "كان الحراطون معهم لتنفيذ الأوامر، حتى وإن كانت بقتل الناس. وخضعوا لسيطرة العرب البربر".
وأضاف: "حين كان الأسياد يعزفون عن ارتكاب ما هو محرم شرعاً، كانوا يكلفون الحراطين للقيام به".
وبحلول بداية التسعينيات من القرن العشرين، كان نظامٌ جديد قد تشكل على طول نهر السنغال. وعلى امتداد الحدود على النهر من الجانب الموريتاني الذي زاد من تسليحه عليها، شكل الحراطون خط الدفاع الأول.
وعلى الجانب المقابل، يقبع عشرات الآلاف من اللاجئين الموريتانيين ممن لا حول لهم ولا قوة، ووجدوا أنفسهم على بعد مئات الأمتار من وطنهم، ينظرون إليه ولا تطاله أيديهم. وهنا ذهب المجتمع النهري النابض بالحياة أدراج الرياح.
الأفارقة يغيرون على الحدود
وعلى الجانب السنغالي أيضاً ظهر أعضاء القوات الإفريقية لتحرير موريتانيا، وشاركوا في غارات عبر الحدود في الداخل الموريتاني.
بالكاد تمكن إبراهيم سال، العضو المسلح للقوات الإفريقية الذي ألقي القبض عليه، من التعرف على قريته بوج بعد أن أطلق سراحه من السجن عام 1991.
وقد أخبر منظمة Human Rights Watch أن كل ما شاهده "هو الفراغ؛ بعد أن رحلت عائلته ورُحِّل أصدقاؤه".
وأضاف: رأيتُ والدتي وهي في السابعة والثمانين من عمرها، ولم تتعرف علي. وتلقيت صدمة أخرى حين ذهبت إلى بوج. نظرت إلى النهر من نافذة غرفتي؛ وتذكرت كيف كنت دائماً أستحم فيه؛ وكان هذا طقساً خاصاً.
"والآن لم يعد بإمكاني الاستحمام فيه، بسبب الحراس الموجودين على طول النهر. حينها عرفت أن الأمور قد تبدلت".
والآن يعيشون على أرض بور
بعد أن قضت الصيف وهي تعيش في مدرسة مغلقة بسبب العطلة، تم إحضار ميمونة ديالو وغيرها من اللاجئين إلى أرض شبه بور، كان من المقدر أن تصبح منزلها طوال السنوات الثلاثين التالية.
كانت هذه الأرض بعيدة كل البعد عن الأرض الفسيحة الخصبة الغنية بالعشب التي اعتادت العيش فيها، والتي كدت أسرتها لإتمامها. ولدت ميمونة في موريتانيا عام 1982، لذا فإن أول ما وضع في ذاكرتها كان إجبارها على عبور النهر بالقارب.
كان على اللاجئين أن يبدأوا حياتهم من الصفر، باستخدام الأخشاب المقطعة من غابات قريبة لبناء أكواخ ذات أسقف مدببة من ورق الشجر، وهو نفس نوعية المساكن التي اعتادوا سكنها على الجانب الآخر.
ولكن بمرور الوقت، بدأ الدعم الذي تلقوه في بادئ الأمر من الصليب الأحمر والأمم المتحدة يقل، حتى مع إضافة حمامات من الأسمنت وبئر ماء عميقة فيما بعد.
وأصبح شح فرص العمل مصدراً مستمراً للقلق، ويرجع هذا جزئياً إلى القيود المفروض على اللاجئين، وهو ما أثر في النهاية على قدرتهم على سداد مصاريف الرعاية الصحية والتعليم.
وكل من ولد في المخيم لم يكن يرغب أن يعيش أبناؤه المأساة نفسها وأن يشبوا في نفس الحالة من الفقر.
تقول ميمونة: "من المستحيل أن تظل في مكان لا يمكنك أن تعمل فيه".
وتضيف: "حصلنا على أرضٍ خاوية عند وصولنا، واليوم إذا أصيب شخص بمرض لا نستطيع شراء الدواء له".
وتقول ميمونة إن الرعاية الصحية أمرٌ بدائي هنا. إذ يطهر الناس الجروح المفتوحة بالماء المستخدم لغلي ثمار المانجو. ومن يصاب بالصداع يربط رأسه بقطعة من القماش.
وتقول ميمونة أيضاً إن النساء الحوامل يلدن في منازلهن بسبب العجز عن الوصول إلى المستشفيات.
تحبس أميناتا حوت، التي تبلغ من العمر 30 عاماً، دموعها وهي تتحدث عن اضطرارها ترك المدرسة في طفولتها.
وقالت: "لم يكن لدى والديّ المال لتعليمي.
وتضيف: "منذ كنت صغيرة، عشت في فقر، بلا وظيفة أو مال".
كانت تبلغ من العمر شهراً واحداً حين طُردت أسرتها من موريتانيا، وترددت على مسامعها وهي تكبر حكايات حول إجبار والديها على الخروج من منزلهما في منتصف الليل، تاركين خلفهم كل ما يملكون وقطيع الماشية خاصتهم.
تضيف: "نحن لا نعمل. كل ما نفعله هو أننا ندعو الله ونأمل أن يسمع دعاءنا يوماً ويخفف عنا أو يأتي من يساعدنا".
"أنا موريتاني تماماً كالرئيس"
يبسط أبو ديوب، 30 عاماً، راحة يديه لنرى عليها آثار العمل الشاق الذي يعمله ليعول زوجته وطفلته.
يغادر منزله في السابعة صباحاً ليسير بضعة ساعات حتى يصل إلى مصنع سكر خاص. وإذا كان حظه جيداً، يسمح له بالدخول وقطع الحشائش والأشجار للحصول على الخشب الذي يبيعه فيما بعد.
ويعيش أبو ديوب اليوم بيومه.
يقول: "نجمع 100 فرانك من هنا وهناك حتى نصل إلى مبلغ يمكننا من شراء الطعام".
"من الصعب أن ترى والديك يعيشان في فقر مدقع دون وجود من يعولهما".
ويضيف أبو ديوب، الذي ولد في السنغال لأبوين هربا من موريتانيا: "لا تزال عواقب حملة الطرد مستمرة إلى اليوم. أخبرنا آباؤنا بما حدث. ورأينا كيف أصبحوا يعيشون في فقر منذ أن جاؤوا إلى هنا".
ولكن الأمل لا يزال حاضراً وسط المحنة، ويحلم الكثيرون هنا بالسفر للحصول على عمل لإعالة أسرهم. غير أن السنغال، المسؤولة عن إصدار وثائق السفر للاجئين، لا يزال عليها أن تخرج وثائق سفر قابلة للقراءة بالماكينات، وهي وثيقة أصبحت إلزامية لكل المسافرين من اللاجئين على المستوى الدولي منذ عام 2015.
ولا تقبل النسخة القديمة من الوثائق سوى دول قليلة، ومع ذلك تم إصدار 30 نسخة جديدة لبعض اللاجئين منذ عام 2015، مما سمح لهم بالسفر، وفقاً لما أوردته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
ولم يرد المسؤولون السنغاليون على طلبات التعليق.
وكحل لمشكلة اللاجئين، تضغط السلطات السنغالية على الجالية الموريتانية المطرودة لقبول الجنسية السنغالية. ويرفض عبدالله ديوب وغيره كثير هذا العرض من حيث المبدأ باعتباره انتهاجاً لهويتهم.
يقول ديوب: "أنا موريتاني تماماً كالرئيس، وموريتانيا هي المكان الذي أعرفه، فيه ولدت وفيه نشأت".
ويضيف: "ظنوا أننا سنذهب إلى السنغال وننصهر داخل المجتمع لأنهم يريدون أن يمحوا وجود السود في موريتانيا ويحافظوا على الأغلبية العربية".
وأردف: "هذه حرب من أجل المبادئ والكرامة؛ نحن نحارب ضد منظومة من التمييز والفصل العنصري".
ولكن، وفقاً لدراسة مسحية أجرتها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين العام الماضي، فإن 67% من اللاجئين الموريتانيين قالوا إنهم سيقبلون بالجنسية السنغالية.
في حين ذكر 24% منهم أنهم لن يتخلوا عن جنسيتهم الموريتانية.
ولم تكشف المفوضية لموقع Middle East Eye البريطاني عن عدد اللاجئين الذين شاركوا في هذه الدراسة.
ووفقاً لهذه الدراسة فإن 1.5% من المشاركين قالوا إنهم مستعدون للعودة إلى منازلهم؛ وهو ما فعلته عدة آلاف على مر السنين.
ويمكن أن يفعل عبدالله الشيء نفسه إذا توفرت بضعة ظروف.
ويقول: "في اللحظة التي يسقط فيها النظام، سأعبر النهر عائداً إلى موريتانيا".
"آمل أن تتوحد بلادي موريتانيا، وأن يتعايش البيض والسود جنباً إلى جنب بحيث نتمكن من الاستمتاع بالأرض في سلام". وأضاف أن المسائلة والعدالة أمران لا غنى عنهما لتحقيق ذلك.
وحين سألنه عما إذا كان يتوقع أنه سيشهد تلك التغييرات في حياته، ابتسم، وهزّ رأسه.