وُلِد الرسام والعالم الإيطالي ليوناردو دافنشي عام 1452 ميلادياً في قرية توسكانية (إقليم بإيطاليا) تُدعى أنكيانو، التي لا تبعد كثيراً عن مدينة فينشي، وتُوفِّي في فرنسا عام 1519. وقد يكون دافنشي معروفاً بكونه فناناً، لكن كان أيضاً مهندساً ومفكراً ومخترعاً.
يقول كلاوديو جورجونيه، أمين متحف ليوناردو دافنشي الوطني للعلوم والتكنولوجيا في مدينة ميلانو الإيطالية: "لن يكون الحديث عن ليوناردو دافنشي بصفته فناناً ومهندساً منطقياً حتى إذا حاولنا النظر إليه بصفته رجلاً عاش في عصر النهضة، إذ كان كل شيء مترابطاً إلى حد كبير في ذلك الوقت".
تشمل أشهر لوحات ليوناردو لوحتَي الموناليزا والعشاء الأخير، في حين أصبح من الممكن تمييز لوحاته الأخرى، مثل لوحة الرجل الفيتروفي، التي تصوّر نسب جسم الإنسان، على الفور.
وبعدما نُشِرت نسخ من مذكرات ليوناردو وكتاباته، مثل "Codex Atlanticus" المعروف باسم "مخطوطة أتلانتيكس" – كتاب ليوناردو دافنشي – المكون من 12 مجلداً، على نطاق واسع، اكتسبت ملاحظاته ونظرياته ورسوماته عن تشريح جسم الإنسان ولوحاته الغريبة تقديراً وشهرةً.
تضمنت هذه الرسومات أفكاراً لم تصبح حقيقة إلا بعد مئات السنوات، مثل رسومات لآلات الطيران، رغم أن جورجونيه لا يتفق مع اعتبار ليوناردو صاحب رؤية مستقبلية.
قد يكون من المفاجئ أن ليوناردو كتب مذكراته بطريقةٍ معكوسة، أي يجب أن تنظر إلى صورتها في المرآة لتتمكن من قراءتها، لكنه هذا هو سبب غموضه.
أين أصقل ليوناردو دافنشي موهبته؟
بصفته الابن غير الشرعي لكاتب عدل ثري صاعد – كاتب العدل هو شخص مسؤول عن صياغة المستندات القانونية والشهادة عليها – لم يكن ليوناردو قادراً على أن يحذو حذو والده، لكن المواهب الفنية للصبي ظهرت، وسعت عائلته إلى حصوله على تدريب مهني في مدينة فلورنسا.
عندما كان مراهقاً، تدرب ليوناردو في ورشة فنان عصر النهضة الشهير، أندريا ديل فيروكيو، حيث مورست جميع أشكال الفنون من الرسم والتصميم إلى النحت والأعمال المعدنية، بما في ذلك صناعة الدروع.
وبينما كان مستمراً في التدرب مع فيروكيو، يُعتقد أن ليوناردو قد شارك في صنع القبة النحاسية المذهبة الضخمة "قبة فلورنسا" التي تقع فوق كاتدرائية سانتا ماريا ديل فيوري، وكان حاضراً بالتأكيد لعملية رفع القبة ووضعها في مكانها عام 1471 ورسم رسوم تخطيطية لأجهزة الرفع المستخدمة.
يقول الأستاذ الجامعي الإنجليزي مارتن كيمب، الخبير العالمي البارز في تاريخ ليوناردو دافنشي بجامعة أوكسفورد البريطانية: "كان الفنان المهندس شخصية معروفة في إيطاليا خلال عصر النهضة". وفي عام 1472، سُجِّل ليوناردو رساماً يعمل لحسابه الخاص، رغم استمرار تعاونه مع فيروكيو.
هل اعتبر ليوناردو دافنشي نفسه رساماً أم مهندساً؟
كلاهما.. إذ كان بالتأكيد بارعاً في الرسم: من بين المهمات التي كُلِف بها، في أواخر السبعينيات من القرن الخامس عشر، طُلِب من دافنشي رسم تصميمٍ لقصر مدني، وكلفته بعد ذلك مجموعة من الرهبان برسم لوحة عشق المجوس.
لكنه كان يملك قدرة خاصة في اقتناص الفرص؛ إذ انتقل ليوناردو إلى مدينة ميلانو في أوائل الثمانينيات من القرن الخامس عشر أملاً في العمل لدى لودوفيكو سفورزا، دوق ميلانو، وأرسل إليه خطاباً يستعرض فيه براعته الفائقة كمهندس عسكري.
تضمّن الخطاب عبارات مثل "إذا دعت الحاجة إلى ذلك، سأصنع مدافع ومعدات حربية خفيفة ذات تصميمات جميلة وعملية للغاية وغير مألوفة"، بينما تطرق إلى قدراته كرسام في آخر الخطاب. وقال كيمب عن ذلك: "إنه (ليوناردو) كان يعتبر نفسه مهندساً بالتأكيد". وفي حين لم يتضح ما إذا أتى الخطاب بثماره، عمل ليوناردو بعد ذلك في بلاط دوق ميلانو.
هل كان مزيج الفنان والعَالِم فريداً من نوعه؟
بالتأكيد لا، إذ كان العديد من الفنانين معماريين أو مهندسين أيضاً. لكن ليوناردو كان فذاً ليس لإجادته عدَّة علوم فحسب، بل لأنه كان خبيراً فيها أيضاً.
يوضج كيمب قائلاً: "لم يكن هذا التنوُّع في حد ذاته مفاجئاً، لكنّني أعتقد أن مدى معرفته ومهاراته كان مفاجئاً للناس إلى حد كبير، وكذلك حقق العديد من الإنجازات في مجالات كثيرة ومنها الموسيقى".
امتدت مواهب ليوناردو ودراسته إلى علم الرياضيات واللغة اللاتينية وغيرهما. إذ أضاف كيمب: "ذهب (ليوناردو) أيضاً إلى ما نطلق عليه الآن العلوم، أي المجالات النظرية والتجريبية والاستكشافية بشكل أكبر". ورغم أن بعض الفنانين ربما كانوا يبحثون في بعض جوانب التشريح، مثل العضلات والعظام والأوتار، نقل دافنشي دراسة جسم الإنسان إلى مستوى آخر.
يتابع كيمب قائلاً: "في إحدى المراحل رسم دافنشي شبكة من الأعصاب في الكتف والجذع العلوي تُسمى الضفيرة العضدية، وقال في إحدى مخطوطاته إن هذا الأمر مفيد للرسام الجيد بقدر فائدة تصريف الكلمات اللاتينية بالنسبة لعالم النحو الجيد".
لكن كما يشير جورجونيه، كانت مواهب ليوناردو المتعددة مدعومة بمهارةٍ فائقة، وهي الرسم. وقال جورجونيه: "لم يكن ليوناردو الوحيد الذي رسم آلات ورسومات علمية، فقد فعل الكثير من المهندسين الآخرين ذلك، وغالباً ما كان الهدف من الرسم هو نفسه، لكن ما فعله ليوناردو بشكل أفضل من الآخرين هو إحداث ثورة في الرسم التقني".
ماذا كان هدفه من كل هذا؟
يقول كيمب: "في أواخر ثمانينيات القرن الخامس عشر، كان هدفه استيعاب الطريقة التي تعمل بها الطبيعة -الذي كان بالأحرى طموحاً كبيراً- لكنه كان يبحث في مجموعة أساسية من القوانين الرياضية، بما فيها البصريات وحركات الجسم البشري، ونظر إليه باعتباره مشروعاً موحداً".
لعلَّ ذلك يفسر السبب في أن كثيراً من أفكاره حول الآلة كانت متأصلة في الطبيعة: على سبيل المثال تغيرت فكرته حول اختراع آلة طائرة بمرور الوقت عندما بدأ بتأمل الطريقة التي تطير بها الطيور، وهي نهج نعرفه الآن بـ "المحاكاة الحيوية".
يوضح كيمب: "عندما تأمل النباتات، نظر إلى تفرع الأغصان وجاء بقانون حول تفرع النباتات، الذي ساوى بينه وبين تفرع الأنهار وتفرع الأوعية الدموية، لذا فإنه طيف متواصل من الأشياء المتناظرة التي كان ينظر إليها في الطبيعة". يضيف جورجونيه أن ليوناردو كان يتمنى توحيد الرسم والعمارة والهندسة مع الفكر والكتابة.
إذ يقول: "لكن ذلك لم يكن سهلاً؛ لأن عالم الفنون الميكانيكية وعالم الفنون المتحررة، وكذلك فن التفكير، كانت منفصلة في ذلك العهد".
هل سبق أن حوَّل رسوماته إلى أدوات وآلات؟
لم تكن مجرّد تأملاتٍ على الورق. يقول كيمب: "توجد أدلة على أنه اختبر الأجنحة من أجل آلته الطائرة كي يعرف مدى الارتفاع الذي يمكنه الوصول عليه"، مضيفاً أنه في مجموعة كتابات لليوناردو عُرفت باسم "Codex Leicester" أي "مخطوطة ليستر"، التي يملكها بيل غيتس وسوف تعرض في المكتبة البريطانية، ثمة أدلة على أنه كان لديه خزانات ذات تصاميم خاصة بناها كي يستكشف جوانب مختلفة من ديناميكا السوائل.
وصنع أيضاً نموذجاً زجاجياً لجزءٍ من القلب؛ كي يكتشف وظائفه. يضيف كيمب أن استخدام الأجهزة التجريبية في هذا العهد كان استثنائياً، موضحاً: "كان يؤكد في كل وقت أنه يجب عليك الاعتماد على التجربة، وليس التعلُّم من الكتاب فقط، فأنت في حاجة إلى المشاركة (في اكتساب) معرفة تجريبية (من التطبيق)".
هل كان دائماً على صواب في نظرياته العلمية الجديدة؟
كانت أفكاره في هذا الوقت صحيحة تماماً، خاصة أنه عارض الفكرة التي تقول إن الأحفوريات التي اُكتشفت في الجبال كانت نتيجة لطوفان عظيم حسب الرواية التوراتية. وحقق أيضاً اكتشافات حول طريقة تحرُّك الدم في الأوعية الدموية ووظيفة الصمامات. لكنه لم يكتشف حقيقة دوران الدم في الجسم. يقول جورجونيه: "لم يكن على صواب دائماً، وهذا أمر جيد؛ لأنه يجعله بشراً وليس خارقاً".
دخل جاليليو في مشكلة مع السلطات، فهل واجه ليوناردو مثل هذه الصعوبات؟
ليس تماماً.. ففي عام 1476 اُتهم بالسدومية "المثلية الجنسية"، لكنّ غياب الأدلة يعني أنه لم تسفر هذه الاتهامات المجهولة عن أي شيء.
وفيما يتعلق بأعماله، بدا أيضاً أنّه يتجنّب المشكلات، ولا سيّما لأنه لم ينشر ملاحظاته في واقع الأمر، حسبما يشير جورجونيه، إضافة إلى أنّ تأملاته المفصَّلة حول العالم، مثل تلك الخاصة بليوناردو، كانت مجرد جزء مما سيصير لاحقاً الطريقة العلمية.
يضيف كيمب أنه عندما كان ليوناردو في روما في الخمسينيات من عمره، خلال عمله على المرايا المقعرة لإشعال النار، تشاجر مع صانع المرايا الألماني الذي كان يعمل معه، الذي انتقد عمله على علم التشريح، مما أصابه ببعض الإحباط بشأن آرائه المتعلقة بالتشريح.
ما هو إرث ليوناردو؟
يقول كيمب إنّ السؤال عن إرث ليوناردو هو شيء مضلل، موضحاً أنه "يشبه إلى حد ما السؤال حول ما فعله الرومان من أجلنا، فهو سؤالٌ يتمحور بالأساس حول الذات. يمكنك تقدير الجودة المرتفعة لما فعله دون ضرورة أن تقول: هذا يستحق النظر إليه فقط إذا كان له تأثير".
بالرغم من هذا، يقول كيمب إنَّ الفكرة التي تشير إلى أن ليوناردو كان معروفاً من أجل لوحاته فقط هي فكرة تبسيطية، لأنّ كتاباته ورسوماته دُونت وعُرضت على الباحثين على مدى القرون، وإن كانت قليلة، مما يشير إلى أنها ربما ألهمت آخرين.
يتفق جورجونيه مع هذا الرأي، مشيراً إلى جهاز رسمه ليوناردو من أجل تدوير قطع اللحم فوق النار من خلال استخدام تيارات الهواء وتوربين صغير. وبعد عقود من رسم فكرته، ظهرت أداة مشابهة في رسم توضيحي لبعض الآلات عن طريق مهندس إيطالي آخر، وهو فيتوريو زونكا.
لماذا نقول ليوناردو فقط عندما نتحدث عنه، ألا يبدو ذلك رفعاً للتكليف؟
ثمة سببان يجعلانا ودودين عند الحديث عن ليو، مثلما يشير جورجونيه، فجزءٌ من هذه الأسباب يعود إلى أننا نميل إلى ذكر الاسم الأول عند الحديث عن الرموز الثقافية، على سبيل المثال عند الحديث عن الشاعر الإيطالي دانتي أليغييري، واسمه بالكامل دورانتي دي أليغييرو دي أليغييري، فإننا نقول دانتي.
يُعرف جاليليو جاليلي أيضاً باسمه الأول فقط. ولكن يوجد سببٌ آخر، وهو أن ليوناردو ليس لديه اسم عائلة "لائق" حسب المنطق المعاصر، لأنّه يشير ببساطة إلى المكان الذي جاء منه هو وأسرته. يقول جورجونيه: "في إيطاليا، لن يفلح الأمر إذا قلت "دافنشي".